يقول الفيلسوف الهندي راما كريشنا(1886-1833): «إن الله واحد في جميع الديانات والمذاهب ولكن أسماءه فقط تختلف. فالماء الذي هو نفسه في أي مكان من العالم تطلق عليه أسماء مختلفة باختلاف الشعوب. ففي اللغة البنغالية يسمونه جال jal وفي اللغة الهندية اسمه باني pani. أما البريطانيون فيسمونه ووتر water.. إن عدم تمكن البشر من فهم لغات بعضهم البعض يجعل عملية التفاهم بينهم أمرا في غاية التعقيد والصعوبة. فإذا ما تجادل أحدهم مع الآخر ليبرهن له أن الماء هو جال أو باني أو ووتر، فإن هذا الجدال يكون أمرا في منتهى العقم والسخرية. كذلك فإن نفس الشيء يمكن أن يقال عن الناس الذين يتجادلون ويتخاصمون باسم الدين». ومما يؤثر عن الفيلسوف الفرنسي فرانسوا فولتير (1778-1694). أنه كان يرفض الحوار مع أي أحد، ما لم يحدد هذا الأحد مفاهيمه تحديدا كاملا وواضحا، بحيث لا يكون هناك لبس أو التباس في الفهم يحرف الحوار عن مقاصده، عن طريق الدخول في مماحكات لفظية نتيجة سوء الفهم، أو حبا في الجدل من أجل «ما قاله كريشنا حول الله والدين يمكن أن ينطبق على كافة المجالات الفكرية، وما قد تفرزه من تيارات فكرية متصارعة أو حتى متصادمة. فالكثير من الخصومات الفكرية أو الصراعات المذهبية، قد لا يكون مرده إلى اختلاف حول جوهر الفكرة، بقدر ما هو سوء فهم للمصطلحات والمفاهيم المستخدمة من الطرفين المتنافسين أو كافة الأطراف المتصارعة، على افتراض أن الحقيقة الموضوعية هي المقصد والغاية. فكما في حالة الماء التي تحدث عنها كريشنا، فإن البعض قد يصر على أن الماء هو ووتر. بينما يصر الطرف الآخر على أن الماء هو باني، وقد يصل الجدال بينهما إلى درجة الخصام ومن تم الصراع الذي لا يبقي ولا يذر. مع أن المعنى واحد فيما لو دقق في المسألة بشكل أعمق. فهو ماء في كل الأحوال، مهما اختلفت العبارات الدالة عليه». وعليه فلا ريب أن التحديد العلمي والدقيق للمفاهيم هو الذي يوفر الأرضية لخلق مساحات للحوار والتواصل والتفاعل والتعايش بين مختلف البيئات الحضارية والفكرية المتعددة. ذلك أن سوء فهم المصطلحات والمفاهيم المستخدمة من أطراف الحوار يؤدي إلى كثير من الخصومات الفكرية والصراعات المذهبية. وفي زماننا المعاصر حيث الصخب الإعلامي والتشويه المتعمد لكثير من المفاهيم وبالتالي الحقائق يكتسب الحديث عن المفاهيم وضرورة تحديدها التحديد العلمي مشروعيته. لأن تحديد المفاهيم والمصطلحات، يصنع أدوات معرفية جديدة قادرة على إيصال حلقات الحوار ومساره إلى نتائجه المرجوة، كما تحفظ الحقائق المعرفية والتاريخية من الضياع في زحمة الصراع والصراخ واللغط والغلط وتداعيات الأحداث السياسية السريعة والصاخبة في آن. إن المفاهيم ليست مجرد أداة تقنية تستجلب أو آلة مادية جاهزة تشترى، بل هو كائن حي تنعكس عليه تجارب المجتمع، وبواسطته تنصهر فيها رؤيته للوجود وتختزل فيها تجاربه الخاصة التي تؤطر تلك الرؤية وتحدد لها مقاصدها وأهدافها. فالمفاهيم كما قيل مفاتيح العلوم، وهي مواليد تنمو وتكبر وتزدهر، وتضعف وتشيخ وتضمحل ويجري عليها ما يجري على الكائن الحي من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة. لذلك كانت دائرة المفاهيم أهم ميادين الصراع الفكري والثقافي بين الثقافات عبر التاريخ وستظل كذلك. وتنبيها إلى خطورة هذه القضية المعرفية ومحوريتها في إحداث أي نقلة نوعية في العقل المسلم يقول الشيخ طه جابر العلواني حفظه الله: «إن أزمتنا المعاصرة التي ما تزال تئن تحت وطأتها، يعتبر واحدا من أهم أسبابها واستفحالها وتفاقمها، الاحتكاك غير المنضبط أو المبرمج بالغرب الأوربي وإزالة سائر الحواجز بين العقل المسلم وبين مفاهيم الغرب الأوربي بأنواعها المختلفة، مما جعل هذه المفاهيم تسيطر على العقل المسلم طاردة من أمامها بقايا مفاهيمه الإسلامية، لينصرف إلى الحجاج والتخاصم والخلاف والتشتت والصراع وإقامة الكيانات المتصارعة، والمعارك الوهمية بين الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، والتقليد والتجديد. . إلى آخر المنظومة و الثنائية التنابذية. وهكذا شغل العقل المسلم عن البناء المعرفي المنبثق من نموذجه المعرفي ومنهجيته المعرفية، فلم يحقق من كل جهوده تلك تراكما معرفيا، بل تراجعا أدى به إلى الوقوع في حالة استلاب شبه تام ليتحول إلى أحد قطع الحديد الدائرة في المجال المغناطيسي الغربي فاقدا الإحساس بتراثه وتاريخه ورسالته ومسؤوليته وشهادته ووسطيته... وبدأت المفاهيم السائدة تتحول إلى أداة معرفة وبيان وإيضاح وجلاء للغموض. كما تحولت المفاهيم السائدة في ظل ذلك التداخل والتشابك العجيب الذي حدث في الساحة المعرفية العربية بالذات بين الوافد الدخيل، والموروث المترسب من وسيلة تعبير عن الذات والهوية إلى وسيلة للانفكاك عن الهوية دون الحصول على بديل لها، وتذبذب في الانتماء واختلاط في الانتساب. وحين تكرست الاختلافات في داخل الأمة وتحول الناس إلى معسكرات متحاربة صارت المفاهيم الوافدة –بحد ذاتها-هدفا ومقصدا لبعض الفصائل يستحق أن يفرضها على الفصائل الأخرى، ولو بالقوة، ومع أنه كان هناك وعي لا بأس به على أن هذه المفاهيم تستبطن في ثناياها أهداف ومقاصد الثقافات المجلوبة إلا أنه كان هناك إصرار بنفس القدر على فرضها على الساحة الفكرية العربية حتى ولو أدت إلى مسخ وتشويه أهداف ومقاصد هذه الأمة. وعوملت الأمة الإسلامية على أنها طفل مريض جاهل من مصلحته أن يجبر على تناول الدواء المر. و انخدعت «جماهير النخبة» ببريق الألفاظ وغفلت عن كون هذه الألفاظ تعبيرا عن مفاهيم ومضامين لا يمكن استيرادها وأن البناء الثقافي والعمراني الحضاري على مستوى الأمة ليركب تركيبا ولا تقليد فيه، فإما أن يوجد في الأمة العقل المبدع المجتهد أو تظل أبد الدهر بين الحفر». وتدليلا على صحة القول يسوق الدكتور طه جابر العلواني مفهوم الدين على سبيل المثال ويعرض ما حدث له بعد عملية غزو المفاهيم المجلوبة. يقول:«إن أمتنا قد ارتبط وجودها بالدين الإسلامي بالذات فقد مثل الإسلام لهذه الأمة جوهر حضارتها، ومنبع ثقافتها، ومحدد وجهتها، وموجه مسيرتها نحو غاياتها وأهدافها وصار بالنسبة للمسلم دينا وبالنسبة للعربي غير المسلم تراثا وثقافة وتقاليد. إلا أن المفاهيم التي شاع تداولها –بعد سيادة النموذج المعرفي العلماني- وجرى استنباتها في البيئة العربية جعلت من الدين متغيرا تابعا للمفاهيم الفكرية المجلوبة تارة، وجزءا من المكون القومي تارة ثانية، وعقبة في طريق التقدم تارة ثالثة، ومانعا من التطور تارة أخرى. وهو في نفس الوقت لدى جماهير الأمة جوهر وجودها. وبذلك وضع العقل العربي المسلم بين خيارين: خيار الحفاظ على دينه، وذلك يعني لدى ذلك الاتجاه استمرار التخلف والركود والجمود؟. وعلى الرغم من المحاولات الجادة التي بذلت قديما وحديثا للوصول إلى حالة «التجديد الإسلامي» في إطار النسق المعرفي الإسلامي ذاته إلا أن بيئة «الملأ والنخبة» والأطر الثقافية والإعلامية كانت ترفض بإصرار إعطاء أي فرص من هذا النوع، وتصر على السير في اتجاه الاستبدال المفاهيمي والتغيير الفكري والتقليد للآخر ومتابعته على سائر المستويات ولم تستثن من ذلك حتى مفهوم «الدين» نفسه الذي فرغ من مضامينه الإسلامية ليشحن ويملأ بكل المعاني والدلالات النابعة من التجربة الأوربية مع المسيحية النصرانية لا على المستوى الكلي «الدين» فقط بل على مستوى شبكة المفاهيم الفرعية الدائرة حوله مثل «الوحي» و«النبوة» و«الدنيا» و«الآخرة» و«العبادة» وغيرها كثير... ومادام الأمر كذلك، وعلى هذا القدر من الخطورة.. فإن تحرير مضامين المفاهيم وتحديد معانيها التحديد العلمي والدقيق هو مهمة ضرورية لنظامنا المعرفي، وخطوة أولية من أجل إيجاد لغة فكرية موحدة تجمع ولا .. وفي هذا الإطار نقترح تأسيس مؤسسة علمية تضطلع بالأدوار التالية: - التأكد من الحاجة الداعية إلى نقل أو استعارة المفهوم. - التأكد من المجال التداولي للمفهوم المنقول أو المستعار. - التمكن من إمكانية توظيف المفهوم المنقول وتنزيله أو دمجه واستيعابه. وتتبع آثاره و ما سيؤول إليه من نتائج. محمد الناصري - أستاذ وباحث