رغم مساهمتي في تغطية أخبار عشرات الوفود التي وطئت أرض غزة في ظروف مختلفة، فإنني أعترف بأن الوفد المغربي يمثل «استثناءً».. فقد كان الوفد أشبه ب«بعثة دبلوماسية» همّها الأول تثبيت أواصر الأخوة المغربية - الفلسطينية، مستخدمةً أنبل طريق، وهو العمل الإغاثيُّ الطبي، ولكن المتميز بطابع «الديمومة والاستمرارية» من خلال وضع حجر الأساس لمستشفى مغربي سيكون الأكبر في قطاع غزة، وإرسال الوفود الطبية.. لتكون هذه الخطوات «بوابة» يتعرف من خلالها المغاربة على «واقع غزة» عن قرب، بعد أن كان «النبش في تفاصيل الحزن والتضحية فيها» مجرد حلمٍ بعيد المنال.. وكان أحد دروس التحية الأولى التي تعلمتها خلال مقابلاتي مع الوفد المغربي هو ألا أستخدم عبارة: «الله يعطيك العافية» مطلقاً، لأن «العافية» عندهم تعني «النار»، فعندما تقولها لأحدهم فسيفهم معناها بالشكل الآتي: «الله يحرقك!». إثر عبارات الترحيب والتعارف، بدأت المقابلة برئيس الوفد ورئيس اللجنة الطبية المغربية لنصرة الشعبين العراقي والفلسطيني، الدكتور الغوتي محمد الأغظف (43 عاما)، الحاصل على شهادتي الدكتوراة في القانون والصيدلة معا، وقد جاءت معه ضمن الوفد زوجته طبيبة النساء والولادة، منى خرماش (37 عاما)، التي جمع بينهما «النصيب» خلال رؤيته لها بالجامعة، وقد تركا وراءهما أولادهما الأربعة في رعاية أجدادهم! يقول د. الغوتي: « كان من المفروض أن تأتي معي ابنتي الكبرى آية (16 عاما)، لولا تأخر سفرنا إلى ما بعد بداية السنة الدراسية، فسافرنا وهي تتقطع حسرة! ولم ينس أبناؤنا إعطاءنا «قائمة طلبات» كان من بينها جلب شيء من أحجار وتراب غزة لهم! إذ أنك لا تتخيل مدى تعلق أطفالنا بالقضية الفلسطينية، أسوة بكافة أبناء الشعب المغربي. انتظر لحظة من فضلك!».أخرج لي الرجل هاتفه المحمول الذي حوى مقطعا مصورا لطفله يحيى ذي الاثني عشر ربيعاً، كان يرتجل فيه «خطبة عصماء» تدعو إلى نصرة فلسطين باللغة العربية الفصحى، يعجز عن تحضيرها شاب بالغ، فما بالك بإلقائها!
«نكهة» الدخول لأول مرة.. كان أعضاء الوفد منقسمين إلى جزأين: الأول يدخل غزة للمرة الأولى في حياته، في حين جاء الشطر الآخر إلى غزة للمرة الثانية، مستعيداً روعة الدخول الأولى من جديد. والاستشاري في الأمراض الصدرية والتنفسية، جمال الدين البرقادي (43 عاما)، الذي يشغل مقعد الأستاذية في كلية الطب بجامعة الرباط بالمغرب من القسم الأول، فقد عجز عن دخول قطاع غزة خلال العدوان، حيث تطوع بمبادرة شخصية منه في اللجنة، واضعاً كل ما لديه من إمكانيات خدمة لفلسطين وأهلها... وقد تحقق حلمه أخيرا برؤيته لهم مع دخول وفد الأخير إلى أرض القطاع: «كنت أخشى وأنا أدخل معبر رفح أن أجد من «يقضي» على حلمي في الدخول خلال ثوان، فأعود إلى بلادي كاسف البال. لكن كل شيء تم على أفضل ما يكون والحمد لله، وظللت أثناء إنهاء إجراءات دخولنا خائفا من أن أكتشف أنني أحلم لأستيقظ على «كابوس» هو أنني لا زلت خارج غزة!». بعد ذلك اتسعت ابتسامته أكثر وهو يكمل: «لكن هواجسي تبددت، ووجدت نفسي أتمتع بنور غزة لأول مرة غير مصدق، حتى أنني رحت أسأل المسافرين بفرح طفولي إن كنا وصلنا غزة حقا أم أنني أتوهم! لقد كان صدقا ودون مبالغة «يوما مجيدا» لن تتكرر نكهته مرة أخرى..». دخل د. جمال الدين محملاً بكم هائل من «الوصايا» والطلبات حال وصوله إلى غزة: إبلاغ السلام لأهلها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مع الإكثار من الدعاء للأحباب والأقارب لأنه «في نطاق الأرض التي بارك حولها»! يتمم د. جمال الدين قائلا: «إن زوجتي وأطفالي الأربعة ينتظرونني الآن على أحر من الجمر هم وبقية معارفي، وفي ذهن كل واحد منهم آلاف الأسئلة عن رحلتي، ومن واجبي الآن أن أقدم لهم الصورة السليمة عن الوضع في غزة، وهذا أقل ما يمكن تقديمه لإخواننا بغزة». أما جراح المخ والأعصاب، المهدي هاكو (31 عاما) ومهندسة الكمبيوتر ومنسقة الدعم اللوجستي للوفد، لطيفة السعلاوي (27 سنة) فزوجان آخران ضمن البعثة، مع تفاصيل مختلفة لحكايتهما. إذ قابل المهدي زوجته أثناء إحدى المهمات الإنسانية بإحدى مناطق المغرب النائية، ليرزقهما الله بمريم (عامان ونصف)، كما أنهما ينتظران «وافداً جديداً» على أسرتهما الصغيرة خلال الشهور الثلاثة القادمة! سألْتُ لطيفة: «لم أتيت إلى غزة وأنت تعرفين جيدا مشقته عليك كامرأة حامل؟».. فأجابت بابتسامة واسعة، قبل أن ترُد: «وأضيع علي رؤية غزة للمرة الأولى؟! كلا يا أخي! فأنت لا تدرك مدى تعلق الشعب المغربي بفلسطين. ولو تأملت أعضاء الوفد لوجدت منهم من حاول القدوم ثلاث مرات على الأقل إلى غزة مثل الدكتورة منى، وكلنا متزوجون تقريبا وتركنا وراءنا أبناءنا لدى آبائنا كي يرعوهم أثناء قيامنا بواجبنا المقدس هنا في هذه الأرض المقدسة». «وماذا لو تأخرت لظرف ما وأنجبت طفلك هنا؟!»، فردت باسمة: «يا ريت! لي كل الشرف بأن يكون طفلي «غزاوي» المولد!». مع ساعات الصباح الأولى.. «لا أستطيع إجراء هذه العملية يا أخي!..» قالها استشاري جراحة الأطفال بالوفد، يوسف بوعبد الله (47عاما) لأحد الأهالي الذي جاءه في ساعة مبكرة صباح يوم الجمعة. كانت ملامح الإعياء بادية على الرجل، وهو يستند خلال مشيه على عكازين، قبل أن يكمل بعدها: «أستطيع أن أطمئنك بأن مشكلة ولدكم بسيطة ولا تحتاج كل هذا القلق، لكن المعضلة هنا هي أن جدولي ممتلئ بالكامل حتى يوم ذهابي من غزة بعمليات لحالات شديدة الخطورة ولا يمكن تأجيلها مطلقا، من بينها حالة لطفل تعطل عمل قولونه، وخرجت بعض أمعائه من مكانها الطبيعي وحياته الآن في خطر. لكنني أعدك بأنني سأحاول العودة مرة أخرى، وسأجريها لولدك. اطمئن!». كنت ساعتها أرقب الحوار، وأحاول أن أجري حديثا صحفيا مع الرجل دون جدوى، فقد قالها لي منسق العلاقات العامة للوفد بغزة، سعيد شبير: «إن د. يوسف هو واحد من أهم أعضاء الوفد، وأكثرهم تفانيا. فرغم إصابة ساقه في حادث قبيل سفره إلى غزة، إلا أنه أصر على القدوم إلينا متحملا كافة مشاق السفر أسوة بزملائه في الوفد». توقف سعيد ثواني قبل أن يقول: «يكفي أن تعلم بأنه أجرى خلال ستة عشر يوما إحدى وعشرين عملية لأطفال غزة، خمس عشرة منها كانت معقد للغاية وبحاجة لتحويلها إلى الخارج، متحملا آلام الوقوف على قدميه ساعات طوال. انظر كم يتعذب لأجلنا!». ثم ابتسم وهو يتابع: «ستجد أن «ترف الراحة» يوم الجمعة ليس من عادات هذا الوفد، فالدكتور يوسف مثلا يقوم بعمل عشر عمليات جراحية خلاله، بجدول عمل كامل! وهذه هي معضلتك يا أخي، فهو مشغول دائما، وإن عاد إلى غرفته ستجده مرهقا تماما، كما أنه –للأسف– لا يحب الحديث لوسائل الإعلام عامة!». كان إرساء حجر الأساس لأكبر مستشفى مغربي في قطاع غزة تجديدا ل«توأمة جديدة» بين المغرب وغزة، عبر «سفراء» للشعب المغربي الحبيب، إلا أن «ملابسهم الرسمية» يميزها البياض الناصع، تقول د. منى خرماش: « لقد أحببت أهل غزة حقا ولا أتخيل كيف يمكنني الخروج من هنا دون الشعور بما يشبه «آلام البتر». ولن أنسى ما حييت البشاشة وكرم الاستقبال الذي حظينا به هنا، حتى أن النسوة كنا «يتشاجرن» مع بعضهن رغبة في استضافتي أنا وزميلاتي! وقد بكيت أمام هذه المواقف بغزارة فاقت ما فعلته يوم ودعت أهلي وأطفالي بالمغرب!». سيد إسماعيل - عن صحيفة «فلسطين أون لاين» بتصرف