فتح الحكم القضائي الصادر عن المحكمة الإدارية العليا في مصر ببطلان عقد بيع أرض «مدينتي» لمجموعة هشام طلعت مصطفى، حجم الفساد الهائل والنهب المنظم لأراضي الدولة في مصر من قبل السلطة ممثلة في وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان الذي حاز على أعلى الأوسمة من رئيس الجمهورية بعد إقالته. والأمر لا يقف عند حدود عقد «مدينتي»، ولكنه يرتبط بكافة العقود الكبرى التي أبرمت بعد استقالة أو إقالة وزير الإسكان الأسبق نظيف اليد المهندس حسب الله الكفراوي، الذي كان أول من وقف في وجه مسلسل النهب المنظم لأراضي الدولة وأبى أن يلوث يده بالموافقة على أي قرار يمنح من لا يستحق أراضي المصريين بثمن بخس، فقد كان همه خلال فترة مسؤوليته عن وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية الجديدة همّ عموم أبناء الشعب، وإليه يعود الفضل في تأسيس كل المدن الجديدة، وعلى رأسها القاهرةالجديدة و6 أكتوبر والشروق والعبور وغيرها، حيث كان تخطيط هذه المدن يقوم على أحدث المخططات العالمية من إمدادها بالمواصلات والبنية التحتية وليس كما هي عليه الآن، وكان أول قرار وقع بعد إقالة الكفراوي ممن جاؤوا بعده هو منح ألف فدان من أراضي مدينة السادس من أكتوبر لأحد المتنفذين من الأثرياء الجدد، وهو الذي رفضه الكفراوي قبل استقالته أو إقالته. ولعل رفض الكفراوي الحديث عن هذه المآسي سببه أن الذين استولوا على خيرات الأراضي في مصر لازالوا يمسكون بزمام السلطة في كثير من المواقع. ومن هنا بدأت رحلة الأثرياء الجدد في مصر، أراض تمنح بجنيهات قليلة للمتر تقوم البنوك بتمويلها وبسداد قيمتها المتدنية جدا على عشرين عاما بينما يخرج المحظوظون والأثرياء الجدد بعشرات المليارات من الجنيهات من جيوب الشعب وبنوكه دون أن يبذلوا أي جهد، وكثيرا ما كان هؤلاء ينأون بأسمائهم بعيدا وتتم الصفقات كلها عبر وسطاء ينالهم نصيب وافر من الكعكة. ويمكن التأكد من هذا من خلال معرفة قائمة الأثرياء الجدد الذي ظهروا خلال العشرين وليس الثلاثين عاما الأخيرة لنعرف حجم الفساد والإفساد والنهب المنظم لأحد خيرات مصر ممثلا في أراضي الدولة. أذكر أنني، حينما قدمت في برنامجي التلفزيوني «بلاحدود» حلقتين عن الفساد المستشري في مصر مع الدكتور عبد الخالق فاروق، لم أكن أتخيل حجم الفساد والنهب والسلب الذي تتعرض له خيرات مصر، ولاسيما في ما يتعلق بأراضي الدولة. وأذكر أن نائب مجلس الشعب المهندس سعد الحسيني أرسل إلي صورة من عدة استجوابات قدمها في مجلس الشعب على مدى ثلاث سنوات، من عام 2007 وحتى عام 2010، عما قام به وزير الإسكان السابق محمد إبراهيم سليمان من تجاوزات في ما عرف بالتخصيص، حيث كان يخصص للكبار آلاف الأفدنة وملايين الأمتار من أراضي الدولة بشروط وصفتها المحكمة الإدارية العليا بكونها «مجحفة» ووسائل قالت عنها في حكمها التاريخي «إن التصرف في المال العام كان محاطا بالكتمان، لا يعلم أحد من أمره شيئا، فأسفر الأمر عن بيع أراضي الدولة بمقابل مادي ضئيل جدا يتم سداده على عشرين عاما». ومع المقابل المادي الضئيل الذي كان يدفعه هؤلاء والسداد على عشرين عاما، نجد الشروط المجحفة في حق المواطنين العاديين من قبل هيئة المجتمعات العمرانية كما جاء في الاستجواب المقدم من سعد الحسيني، حيث يدفع المواطن ما يصل إلى ألفي جنيه للمتر الواحد أو ربما أضعافه الآن في الوقت الذي بيعت فيه ملايين الأمتار للأثرياء الجدد بسعر لا يزيد على خمسين جنيها للمتر، وبالتقسيط على مدي عشرين عاما، بينما لا يسمح للمواطن بالسداد إلا على سنتين أو ثلاث أو تسحب منه الأرض، وهناك الآلاف من المواطنين البسطاء ممن سحبت منهم الأراضي، حيث يمثل البيت حلما لكل مصري، بينما تغدق المليارات على الكبار دون أن يكلفوا أنفسهم أي عناء. وبعد الحكم ببطلان عقد «مدينتي»، صدر حكم آخر من المحكمة الإدارية العليا في 19 سبتمبر الجاري ببطلان بيع 966 ألف متر، أي ما يقرب من مليون متر، كان محمد إبراهيم سليمان قد خصصها لشركة «بالم هيلز» لإقامة مشروع عليها في القاهرةالجديدة، حيث بيع المتر في عام 2006، أي قبل أربع سنوات فقط، بسعر 250 جنيها للمتر بينما كان يقدر سعر المتر حينها بأربعة آلاف جنيه، وأترك لكم تقدير حساب الأرباح في هذه الصفقة. هذه الأحكام، وغيرها قادم في الطريق، هزت النظام في مصر فسارع رئيس الجمهورية إلى تشكيل لجنة أوصت بإعادة بيع أرض «مدينتي» لشركة طلعت مصطفى مرة أخرى، لكن هناك من طعن في اللجنة وقرارها. وسيبقى قضاء مصر الشامخ وقضاتها الشرفاء، بالحيثيات التاريخية لما يصدرونه من أحكام، حصنا حصينا للفساد والفاسدين مهما نالوا من أوسمة واحتموا بلجان، فإذا كان النظام يحمي الفاسدين ويوزع عليهم الأراضي كأنها هبات، يبيعونها بعد ذلك بالمليارات للبسطاء من المصريين الذين يقضون حياتهم يركضون من أجل الحصول على بيت، فإن مثل هذه الجرائم في حق الشعب والدولة لن تسقط بالتقادم وسيسقط الفاسدون ويلاحقون حتى آخر رمق في حياتهم ولن يهنؤوا أبدا بما سلبوه وما نهبوه لأنه كما في مصر قضاة شرفاء، وهم الأغلبية، فإن أغلبية الشعب الشريفة لن ترضى بهذا الذل والهوان. إن فتح ملفات نهب أراضي الدولة وخيراتها لصالح حفنة من المنتفعين والأثرياء الجدد وإصدار أحكام قضائية مشرفة بحيثيات تسطر في جبين التاريخ لقضاة شرفاء يبعث الأمل لدى كل مصري وكل عربي في أن الكبوة التي تعيشها مصر والتي سببها النظام الفاسد قد اقتربت نهايتها ونهاية حقبتها، وإن فتح هذه الملفات بداية لفتح معظم ملفات الفساد، وعلى رأسها ملف خصخصة الشركات التى بيعت بثمن لا يساوي عشر ثمنها الحقيقي في كثير من الأحيان، بل إن أحد اللصوص اشترى خمسة وخمسين من محالج القطن وباع أرض واحد منها فقط بالثمن الذي دفعه في الخمسة والخمسين محلجا، حيث تشن الحرب الآن على زراعة القطن، أحد أفضل المحاصيل التي كانت تميز مصر على مستوى العالم. إن الشرفاء في مصر هم الأغلبية الغالبة، وإن كانت الغلبة للفاسدين حينا فإن الصبح آت لا محالة، لا ليشرق على مصر وحدها وإنما على العرب جميعا.