لعل أول ما أود أن ألفت إليه عناية وانتباه قارئ هذا المقال هو أنه، وإن كان عبارة عن ملاحظات تلزمني مسؤوليتها الأخلاقية والمبدئية والتنظيمية، فإنه كذلك عبارة عن تجميع تركيبي لملاحظات نقدية أولية لمجموعة من مناضلي ومناضلات الجمعية وهم يبحثون بصدق وصراحة عن جواب لسؤال: من هم أولئك الذين ينتسبون سياسيا إلى تيار «النهج الديمقراطي» داخل «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان».. هل يتعلق الأمر بتيار سياسي ماركسي لينيني اتخذ، على غرار هذه الفصيلة، من أحزاب اليسار النضال الديمقراطي الجماهيري وسيلة للتعريف بمواقفه ومن منظمات النضال واجهة من واجهات نضالاته، أم بتيار ليبرالي بورجوازي محكوم برهان إرساء قيم حقوق الإنسان بالمفاهيم السائدة ذات النفحة الليبرالية والبورجوازية السائدة في المحيط العالمي والمترجمة في الإعلان والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي كلتا الحالتين ثمة استشكال بتلك الحدة التي يطرحها استنتاجنا في أن هؤلاء ليسوا لا بماركسيين ولا ليبراليين وإنما هم فريق عمل يستعد أن يلعب أي دور مقابل غايات ورهانات محدودة الأفق كاحتلال الواجهة السياسية والإعلامية وتحصيل أموال الدعم والتمويل ولا يهمه بعدئذ لا هذا ولا ذاك، وهذا هو الأخطر..؟ دسترة الأمازيغية: أخطاء شائعة
في ظل العمل الحقوقي، فإن أي موقف من الحقوق الثقافية الأمازيغية لا يمكن أن يتم إلا في نطاق حقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا. ومرجعياتنا في ذلك المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، ولاسيما المادة 15 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تضمن لكل فرد الحق في أن يشارك في الحياة الثقافية، وكذلك المادة الأولى من إعلان مبادئ التعاون الثقافي للدورة ال14 للمؤتمر العام لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والتعليم بتاريخ 14 نوفمبر 1966 التي تقر بأن لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، ومن حق كل شعب بل ومن واجبه تنمية ثقافته وتشكيل جميع الثقافات بما فيها من تنوع خصب وبما بينها من اختلاف وتأثير متبادل جزءا من التراث الذي يشترك في ملكيته البشر جميعا. وتأكيدا لذلك وحسب غاية البندين 1 و9 من إعلان مكسيكو بشأن الثقافة لعام 1982 الصادر عن المؤتمر الدولي بشأن السياسات الثقافية، فإن لكل ثقافة قيمها الفريدة التي لا بديل عنها، وينبغي الاعتراف لكل الثقافات بالمساواة في إطار الكرامة، كما ينبغي أن يعترف لكل شعب ولكل مجتمع ثقافي بحقه في تأكيد ذاتيته الثقافية وفي صونها وفي كفالة الاحترام الواجب لها. وبالرجوع إلى تاريخ «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان»، فإن تعاطيها مع مسألة الحقوق الثقافية واللغوية قبل المؤتمر الثامن كان، تاريخيا، تعاطيا حقوقيا ديمقراطيا بعيدا عن أي تجاهل أو منطق «كم من حاجة قضيناها بتركها» الذي يحاول البعض تسويقه في تقييم المرحلة السابقة، فالمؤتمر الثالث للجمعية طالب برفع الحيف الممارس على الثقافة الشعبية بجميع مكوناتها الأمازيغية والعربية، وإتاحة الفرصة لدراسة وتدريس هذه اللغات وإحياء تراثها وإبداعاتها في مختلف مناطق المغرب وإعطاء الوسائل للمتخصصين في دراسة اللغة الأمازيغية وثراتها بهدف تنميتها وتطويرها، كما طالب بإخراج معهد الدراسات الأمازيغية إلى حيز الوجود والاستجابة لمطالب الجمعيات المهتمة بالثقافة الأمازيغية... وجاء في البيان العام في البند ال13 الخاص بالحقوق الثقافية أن «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» تشدد وبشكل خاص على: وضع حد لكل هيمنة ثقافية مكبلة لطاقات الشعب المغربي، وفتح المجال أمام تطوير وسيادة الثقافة الوطنية بمكوناتها العربية والأمازيغية، مع رفع الحيف الممارس عليها. نفس الشيء أكده المؤتمر الوطني الرابع للجمعية، حيث طالبت هذه الأخيرة خلاله بالاستجابة للمطالب الديمقراطية المتعلقة بالحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية ودعمها، وذلك بما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان والمواثيق الدولية في هذا الصدد. وفي مؤتمرها الخامس وفي البند ال18 من البيان العام والمتعلق بالحقوق الثقافية، أكدت الجمعية مطالبتها باحترام الحقوق الثقافية واللغوية لكل مكونات الشعب المغربي، وطالبت أساسا بتطبيق قرار تدريس الأمازيغية بدون تماطل، وتمكينها من نصيبها في الإعلام والتعليم، وإخراج معهد الدراسات الأمازيغية إلى الوجود والاستجابة للمطالب الديمقراطية للجمعيات الثقافية... إنها مواقف حقوقية تنسجم ونطاق عمل الفاعل الحقوقي بعيدا عن أي لون من المزايدة السياسية التي صارت العملة الرائجة في التعاطي مع المسألة الأمازيغية داخل الجمعية من طرف مكون «النهج الديقراطي»، ومنها التأييد الأعمى لمطالب مجهولة المحتوى متناقضة، كليا أو جزئيا، مع مبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، ومنها مطلب دسترة الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، في حين أن الدسترة لا يمكن اعتبارها مطلبا حقوقيا سواء كلغة رسمية أو كلغة وطنية... فليس هناك إعلان من إعلانات حقوق الإنسان ينص على أن من حق كل مجموعة من المجموعات المكونة لدولة معينة أن ترّسم لغتها أو لهجاتها... وحتى المجتمع الدولي، الذي يتكلم الآلاف من اللغات واللهجات والمجسم في هيئة الأممالمتحدة، اتفق على ست لغات رسمية لا غير بغاية التواصل بين مكونات المجتمع الواحد متعدد اللغات واللهجات... وحتى دسترتها كلغة وطنية يفتقر إلى أي سند حقوقي، فوطنية اللغة بديهية تتجسد يوميا وباستمرار في مجتمع ديمقراطي. فجوهر التعاطي الحقوقي مع الأمازيغية هو أنها ثقافة شعبية ومكون حضاري يحتاج إلى الصيانة والاهتمام في مختلف حقول ومجالات الحياة اليومية ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن يقول حقوقي ديمقراطي إن البلسم الشافي يكمن في دسترتها تحت أي مبرر من المبررات، بما فيها مبرر الحماية الدستورية، وما سيحميها هو النظام الديمقراطي الذي لا تتجسد ديمقراطيته ولا حتى وجه من أوجه ديمقراطيته بمجرد التنصيص على رسمية اللغة الأمازيغية في الوثيقة الدستورية، وهذه تخريجة مغربية لبعض مشعوذي حقوق الإنسان لهذه المسألة ولمسألة أخرى وهي العلمانية ومحاولة إضفاء صبغة حقوقية على مطلب كهذا. فمرة أخرى، نتساءل: هل هناك شيء اسمه الحق في العلمانية؟ وما هو دليل أصحاب هذا الطرح بعيدا عن تلك العموميات، مثل محاجّتهم بالمرجعية الكونية، ولكن في أي عهد أو ميثاق من المواثيق الدولية؟ أو على الأقل في أي كون وأي كوكب بالضبط؟ ربما في الكوكب الأزرق واسألوا ابن عمومتكم عمر الزايدي، صاحب مشروع حزب اليسار الأخضر، فربما عنده الخبر اليقين إن كنتم شاكين أو غير مصدقين، فالعلمانية ليست مؤشرا على أن الدولة ديمقراطية ولا هي وجه من أوجه ديمقراطيتها... ولكن لله في خلقه شؤون. المرأة: النسوانية بدلا من تصور حقوقي تقدمي!
من بين المنزلقات الخطيرة لعمل «النهج الديقراطي» في «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» مضمون مقاربته لمسألة حقوق المرأة، حيث انزلق وبدون فرامل نحو تحقير المرأة، فإذا كانوا يقولون إنهم حقوقيون تقدميون لا يريدون لطروحاتهم الإيديولوجية أن تؤثر على عملهم داخل جمعية مستقلة، فالأمر على خلاف ذلك، بل أخطر من خلال الإطلالة البسيطة على ما يربو عن قرنين من الزمن لنلفي حركتين بصمتا التاريخ النضالي من أجل تحرير المرأة والقضاء على واقع اللامساواة والاضطهاد، وهما الحركة النسوانية والحركة الماركسية. وترى الحركة النسوانية أن الانقسام الأساسي في العالم هو ذلك القائم بين الرجال والنساء، وأن السبب وراء اضطهاد النساء هو نزوع الرجال نحو السيطرة عليهن والتحكم فيهن، وأن السبيل الوحيد إلى تقويض هذا التحكم والاضطهاد هو أن تتوحد النساء ضد خندق الرجال طالما أن التاريخ، بهذا الفهم النسواني الطوباوي، هو قصة البنى البطريريكية الأزلية، وترى هذه الحركة أن النساء صفات أصلية لا تقبل التغيير وأن الرجال يمثلون المراتبية والبطريريكية والسلطة وتوصف جميع الأحزاب والجمعيات بكونها هياكل رجالية ومنظمات على النمط الرجالي. ولعل المتتبع لمسار التوجه السياسي المهيمن في «الجمعية المغربية لحقوق الإنسان» يرى تقاربا واضحا بين المدرسة النسوانية وهذا التيار المنتسب إلى النهج داخل الجمعية من خلال إجراء الكوطا النسائية في الأجهزة التقريرية والتسييرية والتنفيذية للجمعية برفعها إلى الثلث في أفق المناصفة بعيدا عن منطق الكفاءة واستشعار المسؤولية، فهل الدفاع عن حقوق المرأة لا يسكن إلا أذهان النساء فقط دون الرجال أم إنه غاية حقوقية وديمقراطية لكل الحقوقيين بصرف النظر عن الأنوثة أو الذكورة... إلى غير ذلك من رياح الشركي والزوابع الرملية التي استقدمت الرفيقة خديجة رياضي، رئيسة للجمعية... نظير أوراق ومقالات للنشطاء الحقوقيين النهجاويين والتي قرأنا بعضها، وخلاصتنا أنها تقطع نياط القلب وهي تنم عن فقر معرفي حقوقي وخواء إيديولوجي ماركسي، فالتصور العلمي لتحرر المرأة ينيط هذه المهمة (تحرير المرأة) بكلا الجنسين اعتبارا لموقعهم الطبقي، وبالتالي كان على النهج، على افتراض أنه يعمل بأجندة حزبية، أن يحارب الأفكار البورجوازية ويتجاوز التباين البيولوجي القائم بين الرجال والنساء وأن يوقد الطبقة التي يمثلها أو يدعي ذلك في عملية التغيير الثوري للمجتمع. يقول فريدريك إنجلز في كتاب «أصل الأسرة والملكية الخاصة والدولة»: إن ظهور الملكية الخاصة وانقسام المجتمع إلى طبقات هما اللذين أديا إلى إخضاع النساء، وفي ظل الرأسمالية تتم عملية إنتاج ضروريات الحياة من خلال عملية اجتماعية، بينما عملية تجديد النوع البشري -تنشئة الأطفال- كعملية خاصة، تتم أساسا في محيط الأسرة المغلق، وترجع جذور اضطهاد النساء إلى الازدواجية بين الاثنين، ولذلك لا يمكن فصل النضال من أجل تحرر المرأة والنضال من أجل زوال الرأسمالية». فلو أن الأمر يتعلق بخلفية إيديولوجية وغاية سياسية لتيار «النهج الديقراطي» لخدمة مشروعه المجتمعي لناضل من أجل تصحيح المغالطات اللصيقة بالنضال من أجل تحرر وحقوق المرأة أو على الأقل عدم مجاراة قاموس الممولين (...) على الصعيد الدولي في هذا النطاق. يتبع... عبد العزيز السلامي