كشفت صحيفة ال«فايننشال تايمز» البريطانية المعروفة عن عزم أربع دول خليجية، هي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وسلطنة عمان، على إنفاق 123 مليار دولار لشراء أسلحة ومعدات عسكرية من الولاياتالمتحدةالأمريكية استعدادا لأي حرب محتملة يمكن أن تشنها إسرائيل وأمريكا ضد إيران بسبب طموحاتها النووية. المملكة العربية السعودية وحدها ستنفق نصف هذا المبلغ (67 مليار دولار) لشراء 85 طائرة مقاتلة من طراز (إف 15)، وتحديث 70 طائرة أخرى من النوع نفسه، علاوة على سفن حربية وأجهزة رادار. صفقات الأسلحة الخليجية تقابل دائما بموجة من الشكوك وعلامات الاستفهام، خاصة من قبل المواطنين السعوديين، حيث ينظر هؤلاء إليها على أنها تهدف دائما إلى إنقاذ صناعة الأسلحة الأمريكية، وتوفير وظائف للعاطلين عن العمل الأمريكيين، علاوة على كونها وسيلة لتبديد الثروات، وذريعة لتحقيق أكبر قدر من العمولات تذهب إلى بعض الأمراء الكبار في الدولة. هذه الشكوك تنطوي على الكثير من الصحة، فصناعة الأسلحة الأمريكية انخفضت مبيعاتها في العام الماضي إلى أقل من 22 مليار دولار، أي نصف ما كانت عليه في العام الذي قبله، حيث وصلت إلى ما قيمته 38 مليار دولار، ولهذا فإن إقدام دول خليجية على رصد هذه المبالغ الضخمة دفعة واحدة هو كرم حاتمي، سيُخرج هذه الصناعة الأمريكية من عثراتها وسيقودها إلى بر الأمان. ولا يستطيع أحد أن يشكك في العلاقة العضوية الوثيقة بين صفقات الأسلحة والعمولات، فهذه العلاقة مثبتة بالوثائق الدامغة. فثلث المبالغ المدفوعة في صفقة اليمامة التي اشترتها المملكة السعودية من بريطانيا في مطلع الثمانينيات ذهب عمولات إلى جيوب أمراء كبار (قيمة الصفقة 76 مليار دولار) وبلغ نصيب أحد الأمراء ملياري دولار فقط، واضطر توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، إلى التدخل شخصيا لمنع مواصلة التحقيقات في هذه العمولات تحت ذريعة حماية الأمن القومي البريطاني. صحيح أن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز أوقف العديد من الصفقات، بسبب ما علق بها من شبهات فساد وعمولات منذ أن تولى الحكم رسميا عام 2005، لكن الشكوك في أذهان المواطنين السعوديين حولها لم تتبدد كليا. ولا نكشف سرا إذا قلنا إن العاهل السعودي «جمد» لفترة صفقة شراء طائرات يوروفايتر (تايفون) البريطانية المتقدمة بقيمة ثمانية مليارات دولار قبل بضع سنوات، بعدما اشتكى إليه توني بلير نفسه من ضخامة نسبة العمولات، وقيل إنها زادت على 25، وطالبه بالتدخل لوقف هذه «المهزلة»، لما يمكن أن يلحقه ذلك من ضرر بالبلدين. بعض التسريبات الصحافية عن صفقة الأسلحة الضخمة هذه تفيد بأن العاهل السعودي عارضها على مدى السنوات الأربع الماضية، لعدم اقتناعه بجدواها، ولكن مساعديه نجحوا في تغيير وجهة نظره هذه، من خلال «شرح» أبعاد الخطر الإيراني، وميل ميزان القوى العسكري والاستراتيجي لصالح طهران في المنطقة بأسرها، خاصة بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق نهاية العام المقبل، وتحوله، أي العراق، إلى منطقة نفوذ إيرانية بالكامل. لا نجادل في حق الدول الخليجية في امتلاك أسباب القوة، والدفاع عن مصالحها، وحماية أمنها، ونسج التحالفات التي تحقق لها هذه الطموحات المشروعة، شريطة أن يتم ذلك بناء على تقويمات استراتيجية صحيحة، وفق دراسات مستقلة تضع مصالح دول المنطقة وشعوبها فوق الاعتبارات الأمريكية المفروضة. الشعوب الخليجية باتت على درجة كبيرة من الوعي، حيث يمثل الشباب المتعلم حوالي نصف السكان. وفي ظل ثورة الاتصال العالمية الحالية، بات من الصعب تضليل هؤلاء أو إخفاء الحقائق عنهم. فعندما يتساءل مواطنون وأساتذة جامعة سعوديون في مدوناتهم على الأنترنيت (الصحف الرسمية وشبه الرسمية تلتزم فضيلة الصمت) عن مبررات شراء حكومتهم طائرات «إف 15» الأمريكية القديمة وتدفع هذا المبلغ الضخم فيها، وليس شراء طائرات «إف 35» الأكثر حداثة وتطورا (إسرائيل تسلمتها مؤخرا)، فإن هذا التساؤل الفريد من نوعه، الذي وجد تأييدا كبيرا من القراء، تساؤل مشروع ومبرر يجب أن يتوقف عنده المسؤولون لفهم معانيه وأبعاده. وعندما يشكك سعوديون آخرون، وفي مدونات أخرى، وعلى مواقع «الفيس بوك» و«التويتر» -مثلما قالت عبير علام، مراسلة ال«فايننشال تايمز» في الرياض، (ربما تواجه مشاكل في الأيام القريبة)- في القدرة على استخدام هذه الأسلحة واللجوء إليها بفاعلية في حال تعرض البلاد للخطر، فإن هذه الشكوك تنطوي على الكثير من المصداقية، فصفقة اليمامة لم تحمِ المملكة عندما تعرضت لخطر صدام حسين، ولم تخرج قواته من مدينة الخفجي التي دخلتها، ولم تحرر الكويت. والأهم من ذلك، مثلما قالت المراسلة نفسها، أن السعوديين باتوا يطالبون بإنفاق هذه الأموال على بناء مدارس ومستشفيات جديدة وإصلاح القديمة وتحديثها، وتوفير فرص العمل لأكثر من مليون عاطل عن العمل، حيث تصل نسبة البطالة إلى حوالي عشرة في المائة، فإيجاد وظائف للشباب السعودي أولى من إبرام صفقات أسلحة توفر فرص عمل للعاطلين الأمريكيين. استخدام الإدارات الأمريكية لما يسمى بسياسة التخويف Polotics of Fear في منطقة الخليج، من حيث تضخيم أخطار دول بعينها، لدفعها إلى شراء صفقات أسلحة ضخمة والدخول في حروب تنعكس دمارا على أمنها ومستقبلها لاحقا، بات مسرحية مكشوفة. فالأسلوب نفسه الذي استخدم لتحريض دول الخليج وتعبئتها ضد الخطر العراقي، يستخدم حاليا ضد إيران، والمشكلة أن التكرار غير مفيد في هذه الحالة لتبصر النتائج. فالمشهد العراقي بعد إطاحة النظام العراقي معروف للجميع وليس بحاجة إلى شرح، ولكن أليس من حقنا أن نسأل كيف سيكون عليه حال المنطقة إذا ما حدث عدوان إسرائيلي أمريكي على إيران؟ الحرب العراقية الإيرانية أفلست الدول الخليجية، والحرب الأمريكية العراقية جففت أرصدتها وأدخلتها في أزمات اقتصادية حادة، وأي تلويح، مجرد التلويح، بالحرب ضد إيران سيؤدي إلى تجفيف أرصدة الدول الخليجية، وامتصاص فوائضها المالية وإفلاس صناديقها السيادية من خلال إبرام صفقات أسلحة والدخول في ترتيبات أمنية وعسكرية مع الغرب. الخطر الأكبر الذي يهدد دول الخليج هذه الأيام خطر داخلي أكثر منه خارجيا، فغياب الحريات والمساواة، وضعف البنى التحتية الخدماتية في معظم الدول، والخلل الكبير في التركيبة السكانية، وتصاعد التوتر الطائفي والمذهبي نتيجة ضعف روابط المواطنة والولاء للدولة، بسبب التفرقة بين المواطنين لأسباب مذهبية أو عشائرية، كلها عوامل تهديد لا يمكن مواجهتها بطائرات «إف 15» ولا بصواريخ الباتريوت، ومن الصعب رصدها بأجهزة الرادار الأمريكية الحديثة. الخطر الإيراني، إذا كان حقيقيا، لا يتمثل فقط في الصواريخ والزوارق والغواصات البحرية، وإنما أيضا في الخلايا النائمة واليقظة، وتخريب الجبهة الداخلية، وضرب أسس التعايش، وهز الاستقرار والأمن في البلد الواحد. وما نراه حاليا من هجمات أمنية وسياسية وسحب جنسيات واستقطاب وتوتر طائفي في الكويت والبحرين هو أحد مؤشرات ما يمكن أن يحدث في المستقبل من جراء الإصغاء لعمليات التخويف والتحريض الأمريكية، وإلغاء إسرائيل من خريطة العداء للعرب. القوات السعودية المدججة بأحدث الطائرات من مختلف الأنواع والأحجام، مدعومة بدبابات ومدفعية ثقيلة احتاجت إلى عدة أشهر للقضاء على التوغل الحوثي في أراضي جنوب المملكة، رغم الفارق الكبير جدا في التسليح والعتاد. فالحوثيون لا يملكون الصواريخ، ومثلهم مثل «طالبان» لا يعرفون قيادة الدبابات ناهيك عن الطائرات حتى لو وجدت. فكيف سيكون عليه الحال في حال حدوث مواجهات مع الإيرانيين أو امتداداتهم في المنطقة؟ يروى أن الأمريكيين طلبوا من الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله السماح لقوات أمريكية باستخدام القوة لتحرير الجزر الإماراتية المحتلة، فقال لهم وماذا لو هزمتم وانسحبتم مثلما فعلتم بعد تدخلكم في الصومال؟ كيف سنواجه الإيرانيين وحدنا؟ الرجل كان حكيما متبصرا، ولو كتب الله له طول العمر لشاهد الأمريكيين وهم يهربون مهزومين من العراق وأفغانستان. لماذا تفترض الدول الخليجية أن البرنامج النووي خطر عليها يجب مواجهته بالقوة العسكرية، ولا ترى تركيا الشيء نفسه مثلا، وهي التي ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك وصوتت في مجلس الأمن ضد مشروع أمريكي بفرض عقوبات اقتصادية على إيران، ورفضت قبل ذلك السماح للقوات والطائرات الأمريكية باستخدام أراضيها وقواعدها لغزو العراق؟ وتغضب بذلك حليفها الأمريكي وشريكها في حلف الناتو؟ نخشى على الخليج من أمريكا وإسرائيل أكثر من خشيتنا عليه وبلدانه وشعوبه من الخطر الإيراني. فهذه الدول مشت خلف أمريكا وخسرت العراق لصالح إيران، وطائرات «إف 15» التي اشترتها ربما توفر بعض الحماية أو الراحة النفسية في حال حدوث انتقام إيراني كرد على ضربات أمريكية وإسرائيلية، ولكن ماذا ستفعل هذه الطائرات وغيرها إذا نجحت إيران فعلا في امتلاك أسلحة نووية؟ دول الخليج يجب أن تعود بقوة أكبر إلى عمقها العربي، وألا تنسى الخطر الإسرائيلي في غمرة التحريض الأمريكي ضد إيران، ولا بد أن الوفد الكويتي الذي زار سورية بعد «تحرير» بلاده من القوات العراقية ما زال يذكر قول الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما التقى أعضاءه: «نحن الذين حررنا الكويت عندما وقفنا ضد الرئيس صدام حسين وغزوه».