تدل «البنية المهترئة على قيمة الخدمات التي يقدمها المستشفى للمرضى».. «إنه صورة للواقع الصحي وواقع المؤسسات الاستشفائية في المغرب».. «كيف يمكن لمستشفى على هذه الشاكلة أن يُقدِّم خدمات صحية بمواصفات جيدة لمرضى أنهكهم مرض السل؟».. قطرة من «سيلِ» تعليقات وتساؤلات غزيرة لعائلات مرضى قَدِموا، مجبَرين، إلى هذا المستشفى الذي أطلق عليه البعض «غوانتانامو»، اعتبارا لموقعه الذي يتوسط غابة كثيفة من أشجار الكالبتوس، على بعد كيلومترات من مدينة أزمور في إقليمالجديدة، وهو ما يجعل المرضى أشبه ب«المنفيين». وقد أكد مصدر نقابي مطَّلع أن وضع المستشفى يوضح بجلاء طبيعة الخدمات الصحية المقدَّمة لهؤلاء المرضى. فبما أنهم ينتمون إلى أوساط فقيرة جدا، فإنهم يجدون فيه مستشفى جيدا، لأن ما يهمهم بالدرجة الأولى هو توفير العلاج وليس أشياء أخرى لا تتوفر لديهم داخل مساكنهم المتواضعة، لذلك لا يعاتبون إدارة المستشفى أو جهة أخرى غيرها.. مستشفى في «غابة» بينما تسير سيارة الأجرة الصغيرة مخترقة أشجار الكالبتوس وهي تطوي المسافات عبر الطريق الرابطة بين سيدي رحال الشاطئ وجماعة سيدي علي بن حمدوش في أزمور، بعد انطلاقها من وسط مدينة أزمور، تتناسل لديك مجموعة من الأسئلة حول سبب اختيار موقع كهذا لوضع مستشفى مثل «بلعياشي»، الذي يتخصص في مرض السل والأمراض الصدرية. ربما لن تجد ما «يُبرِّر» هذا الاختيار الذي يعتبره الكثيرون اختيارا «غير موفَّق»، لأنه يزيد من معاناة الأسر المعوزة التي ليست لديها إمكانيات مادية للانتقال إليه على متن «طاكسي» صغير. وهناك من العائلات من تفضل، بسبب فاقتها، استعمال وسيلة أخرى وهي الانتقال عن طريق عربات مجرورة لا توصلهم إلى الهدف بسرعة لكنها تختصر لهم طول المسافة، كما تُعفيهم من بعض المصاريف التي يمكن أن تنضاف لو أنهم استأجروا «طاكسي»، ما دامت الوسيلة الثالثة، وهي الحافلة، تتطلب طول الانتظار.. وإذا كان البعض يعتبر أن موقع المستشفى «غير موفق» فإن آخرين اعتبروه موفَّقا إلى «حد كبير»، لأنه على الأقل يوفر للمرضى جوا صحيا يُمكِّنهم من استعادة عافيتهم عوض أن يكون المستشفى وسط المدينة، حيث لا يمكن أن يَسلَموا من تأثير دخان السيارات والضجيج، عكس ما يوفره لهم مستشفى «بلعياشي»، الذي لا يسمع فيه المرضى غير حفيف الأشجار ودمدمة الرياح التي تكون قوية في بعض الأحيان. وكثيرا ما يصعب في حال توفر وسيلة للتنقل لدى بعض العائلات الوصول إلى المستشفى دون مشقة البحث عنه والتوقف مرات متعددة للسؤال عن «خارطة الطريق» التي يمكن أن توصل إليه، لأن المنطقة شبه مغطاة بالأشجار التي تحجب الرؤية وتحول دون تحديد موقع المؤسسة عن بعد. وقد عبّرت بعض العائلات عن استيائها من وجود المستشفى في منطقة «مقطوعة»، حيث تنعدم المحلات التجارية، وهو ما يزيد عليهم من عبء التنقل إلى مدينة أزمور لجلب بعض المواد الغذائية والأغراض الأخرى التي يحتاجها مرضاهم.
مستشفى الفقراء نعته الكثيرون ب«مستشفى الفقراء»، وربما هو قول تتأكد صحته عند رؤية مرضى تبدو عليهم علامات الفقر بوضوح، فهم في الغالب يتحدرون من القرى النائية، حيث تنعدم لديهم أدنى شروط الحياة الكريمة. ولعل هذا يزيد من صحة أن السل يختار بالفعل أجساد «الفقراء» فقط ليسكن فيها، علما بأن مصدرا من المستشفى كشف عن وجود أشخاص ينتمون إلى طبقات ميسورة، غير أنهم يرفضون المكوث في المستشفى ويكتفون بتناول الأدوية ومتابعة العلاج في منازلهم «المريحة». تبدو بنايات المستشفى، وهي عبارة عن أربعة أجنحة أرضية، شبيهة إلى حد كبير ب«هنكارات» للتخزين وليست أقساما للعلاج. على الأقل هذا هو ما كان يبدو في الظاهر قبل أن تطالعك أسِرّة متفرقة هجرها المرضى حتى إنك تظن أن المغرب قطع دابر المرض وأن المغاربة أصبحت لديهم مناعة ضد المرض أو أنهم تجاوزوا عتبات الفقر «اللعين» الذي يتسبب في تسلل جرثومة السل إلى أجساد المرضى.. غير أنك ستتأكد من أنه لا وجود لهذا التعليل أو ذاك، بل إن الوزارة الوصية على قطاع الصحة في المغرب هي التي «اجتهدت»، في إطار اختصاصها، ولأسباب «غير واضحة» في التخفيف من ضغط هؤلاء المرضى على المستشفى والاكتفاء بمدهم بالأدوية بين الفينة والأخرى على أساس تناوله في منازلهم دون الحاجة إلى المكوث بالمستشفى، كما كانت تجري الأمور منذ زمن، وهو الإجراء الذي شكّكت جهات طبية مسؤولة في فعاليته، بدليل الارتفاع الذي أصبح يُسجَّل في صفوف مرضى السل في المغرب، وهو ما يلاحَظ من خلال ارتفاع عدد مرضى السل في المغرب وليس على صعيد مستشفى «بلعياشي»، دون اعتبار عدد النزلاء الذين حدَّدتْهم الوزارة في ثمانين سريرا، حسب الجهات نفسها، بعد أن كان يضم 400 سرير. مستشفى تاريخي بمواصفات تاريخية توحي بنايات المستشفى المتآكلة بكونه بناية تاريخية ولا تدع مجالا للتخمين، فهي شاهدة على أن المستشفى من مخلفات الاستعمار. وقد ظلت البناية وفية للطابع الاستعماري، إذ لم يطلْها ترميم أو إصلاح يغير من ملامحها الأولى، وفق ما عاينته «المساء». 1919 هو تاريخ تشييد المستشفى الذي لم يكن مؤسسة للعلاج. ولعل هذا ما يبرر طابعه المعماري، إذ كان ثكنة عسكرية، وفي الأربعينات تم تحويله إلى دار للعجزة وأريد له أن يكون مستشفى مختصا في الأمراض الصدرية سنة 1953، بحكم كثرة حالات الإصابة بالسل التي كانت تُسجَّل في منطقة دكالة، حسب مصدر مُطَّلع. ومازال المستشفى قائما ببناياته المهترئة في انتظار أن تتدخل إحدى الجهات لتأهيله، حتى يصبح مستشفى بمعناه الصحيح ويؤدي دورَه الرئيسي باعتباره المستشفى الوحيد في المغرب الذي مازال متخصصا في مرض السل والأمراض الصدرية، بعد أن تم إغلاق مستشفيات أخرى، كمستشفى ابن أحمد ومستشفى بن اصميم. كان المكان «موحشا» إلى حد أنه لا يمكن للزائر أن يسير بشكل عادي بين ممراته وأروقته. وإذا كان من السهل على العائلات الانتقال من أزمور إلى المستشفى عن طريق سيارة أجرة صغيرة، فإنه يصعب عليها ذلك في رحلة العودة، ولن تتمكن من ذلك إلا إذا تزامن انتهاء زيارتها مع قدوم أُسَر أخرى ترغب في زيارة مرضاها، إذ إن «الطاكسي» الذي جلب الأسرة الأولى ينقل الثانية إلى أزمور، وإلا فإن الأسرة ستكون مضطرة للوقوف هناك وقتا طويلا قبل قدوم الحافلة.
الاستشفاء المجاني يستفيد نزلاء مستشفى «بلعياشي» في أزمور من علاج مجاني، مما يُدخله في خانة المرافق العمومية «غير المنتِجة»، وربما هذا ما جعل الوزارة تدعو إلى تقليص عدد المرضى فيه، وهو ما عبَّر عنه مصدر مقرَّب بكون الدولة «ما عْندها حتى ربْح فيه»، علما بأن الربح «الأكبر»، حسب جهة ثانية، لن يكون أفضلَ من علاج المرضى والعمل على القضاء على مرض السل. ووصفت بعض العائلات المدة التي يقضيها المرضى في المستشفى بأنها غير كافية، لأن بعض المرضى تستدعي حالاتهم المكوث لعدة شهور، غير أنهم بمجرد ما يستعيدون بعض عافيتهم يُجبَرون على المغادرة.. كما أن المشكل الذي يصطدمون به في منازلهم يرتبط بصعوبة التنقل اليومي لأخذ الحقنة، إذ هناك من يبعد عن أقرب مستوصف من منزله بعشرات الكيلومترات وتكون معاناة التنقل أكثرَ تعقيدا مع موجات الحرارة أو حتى في فترة الشتاء، وهو ما تم إغفاله من قبل المسؤولين. وأكد بعض المرضى أن الطعام الذي يُقدَّم لهم يفتقد إلى الجودة، وهو ما يجعل أغلب العائلات تأخذ على عاتقها جلب الطعام لمرضاها، علما بأن داء السل يتطلب تغذية جيدة ومتوازنة، وهو ما نفاه مصدر من المستشفى، مؤكدا أن كمية الطعام المقدَّمة للمرضى يمكن أن تكون غير كافية، غير أنها متوازنة وجيدة وأن الكمية هي أمر محسوم، لأن إحدى الشركات هي التي تتكلف به اولا يمكن لجهة أخرى أن ترفع أو تُقلِّص منها. وأمام النقص في كمية الأغذية المقدَّمة للمرضى، والتي يكتفي بها بعض المرضى القادمين من جهات تبعد عن أزمور، مثل قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي والدار البيضاء.. فإن بعض المحسنين يدخلون على الخط، حيث صادفت زيارة «المساء» أحد المحسنين يقدم طعاما للمرضى، وهو ما غمرهم بمشاعر الفرحة والحبور. عدد مرضى المستشفى في ارتفاع أكد مصدر طبي مقرَّب من المستشفى أن عدد المرضى الذين يُقبلون على المؤسسة بدأ يرتفع بشكل مثير، وهو الارتفاع الذي ربطه المصدر ذاته بسياسة الوزارة التي لها وجهة نظر مغايرة لتلك التي كانت متّبَعة والتي سمحت بتقليص عدد الإصابات بهذا المرض إلى مستويات مهمة. وأضاف المصدر نفسه أن المستشفى ملزم اليوم، وفق سياسة وزارة الصحة نفسها، بألا تتجاوز إقامة المريض فيه 15 يوما، وهي المدة التي اعتبرها المصدر غير كافية، وهو ما أدى إلى تسجيل ارتفاع في عدد المرضى بهذا الداء من جديد، خاصة السياسة السابقة التي كانت متّبَعة منذ عهد الملك الراحل محمد الخامس والذي أمر «رسميا» بالتكفل بجميع الحالات المرضية وتوفير العلاج لها بشكل مجاني.. غير أن هذه السياسة التي وصفها المصدر نفسه ب«الخاطئة» ستزيد من احتمال ارتفاع عدد المرضى بهذا الداء، على اعتبار أن خطورة مرض السل تكمن في سرعة انتشاره، وهو ما يتسبب في إصابة أفراد من عائلة المريض في حال عدم اتخاذ الحيطة والحذر، بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يكون علاج المريض مضمونا، حيث يمكن أن يكون هناك تهاون في أخذ الأدوية، عكس العلاج داخل المستشفى الذي كان متّبَعا في السابق. وقد كان المريض يظل تحت المراقبة الطبية طيلة ثلاثة أشهر الأولى، وفي حالة مغادرته بدون تراخيص، فإن السلطات هي التي تتكلف بإرجاعه إلى المستشفى «تحت الضغط»، مع إخضاع أفراد عائلته للفحوصات الضرورية، وهو ما سمح بمحاصرة المرض وتقليص الإصابة به. وأضاف المصدر الطبي نفسه أن عدد المرضى آخذ في الارتفاع، ما بين 26 و30 في المائة داخل مستشفى «بلعياشي»، وهي نسب تقريبية يجب أن تثير انتباه المسؤولين إلى وجود خلل ساهم في ارتفاع نسبة المرضى، من جديد، بعد أن كانت الوزارة قد حققت نتائج إيجابية بخصوص هذا المرض الذي يعتبره الكثير من الناس «وصمة عار» يجب التكتُّم عليها. واعتبر المصدر نفسه أن الوزارة لم تُراعِ ظروف المرضى، حيث إن مشكل التنقل في حد ذاته بالنسبة إلى بعض المرضى الذين يستقرون بالقرى قد يحول دون متابعة العلاج بصفة دائمة، وهو ما يستحيل معه العلاج في الوقت نفسه الذي يسهل نقل العدوى إلى باقي أفراد العائلة وأن رغبة الوزارة في تحقيق مآرب أخرى «غير واضحة»، من خلال تقليص عدد المرضى، سواء في مستشفى «بلعياشي» أو تقليص الأسرة داخل المستشفيات الأخرى التي تضم أجنحة خاصة بهذا المرض, سيؤدي إلى انتشار المرض من جديد، وهو ما بدأ يُسجَّل بالفعل، تضيف المصادر نفسها. وأضافت المصادر ذاتها أن البرنامج الوطني الذي وضعته وزارة الصحة لمكافحة داء السل برسم سنوات 2006 - 2015، والذي تشرف عليه بنفسها، يروم بالخصوص تقليص نسبة انتشار داء السل إلى 65 حالة جديدة لكل 100 ألف نسمة. كما تهدف هذه الاستراتيجية إلى الرفع من معدل الكشف من 80 إلى 85 في المائة، حتى تصل نسبة العلاج إلى 90 في المائة مع نهاية السنة الجارية، وتقليص نسبة انتشار العدوى والوفاة بها إلى النصف، في غضون 2050. وأضافت المصادر ذاتها أن البرنامج يمكن أن يحقق مبتغاه بالفعل إذا تم التراجع عن السياسة الجديدة في التعامل مع المرضى وتحمُّل مسؤولية علاجهم، على الأقل إلى أن يصبح المرض سلبيا.. إحصائيات حول المرض تُسجَّل في المغرب، سنويا، أكثر من 26 ألف حالة مرضية جديدة بهذا المرض، بواقع 81 حالة من أصل كل 100 ألف شخص (مقابل 61 حالة في الجزائر و60 حالة في تونس)، وتنتمي 50 في المائة من الحالات المسجَّلة سنويا إلى فصيلة السل الرئوي المعدي القابل للانتشار بين الناس، ويوجد 70 في المائة من مرضى السل في المدن الكبرى، وخصوصا في المناطق الهامشية. وتتوفر كافة المدن المغربية على مراكز لتشخيص ومعالجة داء السل بشكل مجاني، غير أنه تمت في سنة 2009 مراجعة نظم العلاج، حيث أصبحت مدة العلاج محدَّدة في ستة أشهر، باستثناء سل الجهاز العصبي والسحايا. ويصيب داء السل، سنويا، أكثر من ثمانية ملايين شخص، وهو السبب الثاني في التصنيف العالمي لحالات الوفاة بالأمراض المعدية، بعد مرض فقدان المناعة المكتسب (الإيدز). وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن حوالي ثلث سكان العالم، أي ما يعادل ملياري شخص، مصابون بداء السل، حيث يتم الكشف كل سنة عن أكثر من 8 ملايين حالة جديدة (في سنة 2008 تم تسجيل 4 .9 ملايين حالة جديدة بالداء أودت بحياة حوالي 8.1 مليون مريض). وتسعى منظمة الصحة العالمية، من خلال حملتها برسم سنة 2010، التي أطلقتها تحت شعار «في حركتنا لمكافحة السل، لنبتكر ما يُسرّع وتيرة العمل»، إلى التحسيس بخطورة المرض وطرق انتشاره وسبل العلاج، في إطار الاستراتيجية التي وضعتها المنظمة والهادفة إلى تقليص معدَّل انتشار السل بنسبة النصف، بحلول عام 2015، مقارنة بمستواها في عام 1990، وهي النسبة التي تبقى «بين قوسين»، في ظل الارتفاع في عدد مرضى السل في المغرب من جديد. وأكد مصدر نقابي ل«المساء» أن الارتفاع في نسبة عدد المرضى بداء السل هو بسبب السياسة الجديدة التي غيّبتْ دور المستشفيات التي تختص في هذا الداء، ودليل ذلك أن جميع المستشفيات التي كانت تختص فيه قد «انقرضت»، باستثناء مستشفى «بلعياشي». ورغم أن كل مستشفى إقليمي أو جهوي يضم جناحا خاصا بهذا المرض، فإن عدم احتضان هذه الحالات والسهر على علاجها هو «خطأ» يجب الوقوف عليه. يُذكَر أن مسؤولين في مستشفى «بلعياشي» رفضوا مدّ «المساء» بأي تصريح، كما اتصلت الجريدة بالمندوبية الجهوية للصحة في الجديدة ورفضت بدورها إعطاءها إي تصريح ذي صلة.