الأرجح أن ما كان يفعله الغزاة الإسبان والبرتغاليون في عهد مضى، يوم تكالبت الأطماع الاستعمارية على السواحل المغربية، من أبعد نقطة في الصحراء إلى أقصاها في الشمال، هو ما يسعى اليوم بعض الأحفاد الإسبان المتشبعين بالنزعة الاستعمارية والعنصرية إلى إعادة اقترافه، وهذه المرة تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان في الأقاليم الصحراوية. وإنه لأمر مريب أن تكون بعض البواخر التي قدمت من جزر لاس بالماس في اتجاه مرسى سانتا كروز في زمن فائت لاحتلال الشواطئ المغربية، يراد اليوم استخدام بقاياها في الإغارة على نفس السواحل، لكن بدل استعمال البارود يتم التوطئة لطلقاته النارية العدائية عبر الغرف من قاموس حقوق الإنسان. لكن الأدهى أن من يعتزم القيام بذلك ليس سوى مجموعة سياح مغمورين، يشدهم الحنين إلى الفترة المظلمة التي كانت إسبانيا تستعمر فيها الساقية الحمراء ووادي الذهب. فهل يوجد عبر التجارب التاريخية مشهد مماثل لأحفاد الاستعمار الأجنبي يتدثرون بعباءات الدفاع عن حقوق الإنسان، بعد أن تحقق جلاؤهم عن مراكز نفوذهم الإداري والعسكري؟ وما بال هؤلاء الإسبان يصوبون نظرتهم تجاه الصحراء التي خرجت من تحت سيطرتهم الاستعمارية، بموجب اتفاقية مدريد، ولا يكلفون أنفسهم عناء إلقاء نظرة على الواقع الاستعماري الفاضح في مدينتي سبتة ومليلية؟! .هل لأن إسبانيا التي تستعمر هذه المناطق المغربية، التي يفصلها عن السواحل الإسبانية بحر من حدود الطبيعة التي فرقت بين القارتين الإفريقية والأوربية، تخرس ألسنة السياح الإسبان، كما أصوات المفكرين والمثقفين ودعاة التحرر الذين يخفون رؤوسهم في الرمال عندما يتعلق الأمر بهذه القطيعة؟ أم أن ما يريده قراصنة البحر الجدد هو الضغط في الصحراء جنوب المغرب للتغطية على ما يحدث في شماله؟ فما هي المنطقة التي هي في حاجة مشروعة إلى التضامن، أهي سبتة ومليلية الواقعتان تحت النفوذ الاستعماري الإسباني أم الأقاليم الصحراوية التي تخلصت من أخطاء التاريخ وعادت إلى كنفها الطبيعي جزءا لا يتجزأ من المملكة المغربية؟ ثمة أسباب وجيهة تجعلنا نشك في أن هذه الانفلاتات التي تبدو كأنها تغيظ حكومة رئيس الوزراء الإسباني لويس زباثيرو لا تخرج عن نطاق تبادل الأدوار بين المعارضة والسلطة، طالما أن الأمر يهم قضايا خارجية، تتفاوت حولها المواقف ودرجات التحكم في ضبط الأمور، لكنها تكاد تلتقي عند هاجس الرغبة في إشغال المغرب بمعارك جانبية، كي لا ينصرف بكل قواه إلى طرح القضية المحورية التي تخص البحث في مستقبل المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية، وهناك شبه إجماع بين القوى السياسية في الحكومة والمعارضة على حد سواء حول هذا التوجه. الإسبان يفكرون بعقلية إيثار مصالح الدولة على التناقضات الداخلية، مهما كان حجمها ونوعيتها، وهذا تقليد دأبت عليه الكثير من الدول الغربية، إذ إنها لا تمانع في ظهور حروب كبيرة أو صغيرة في ملفات داخلية تطال تدبير الشأن العام الذي يعكس دائما ذروة الصراع الانتخابي، لكنها تستوعب كل التناقضات عندما يتعلق الأمر بمحاور السياسة الخارجية، إلا فيما ندر من الاعتبارات. وإذا كان صحيحا أن موقف حكومة الحزب الاشتراكي الإسباني إزاء القضايا التي تهم العلاقة مع المغرب تختلف إلى حد كبير مع ما كانت تنهجه حكومة الحزب الشعبي على عهد لويس أزنار، خصوصا أن معاهدة الصداقة المغربية الإسبانية أبرمت على عهد حكم الاشتراكي فيليبي غونزاليس، فإن الصحيح أيضا أن الموقف الرسمي الإسباني من تطورات قضية الصحراء لم يطرأ عليه تغيير كبير يواكب مستجدات الأحداث، بل ظل جامدا عند الأدبيات المتعارف عليها، التي لا تزيد عن تسويق مقولة دعم المفاوضات والتسوية السلمية في إطار الأممالمتحدة، والكلام الفضفاض حول ما يمكن أن يترتب عن حل النزاع من أجواء انفراج إقليمي واستقرار سياسي واقتصادي. وحتى حينما كانت حكومة مدريد ترأس الاتحاد الأوربي، مما أضفى على دورها المحتمل أهمية كبرى، فإنها بالكاد عرضت أفكارا عامة حول إمكان مساهمتها، إلى جانب فرنسا والولايات المتحدةالأمريكية، في الدفع قدما بخيار المفاوضات، مع أنها على إدراك كامل بأن العائق الحقيقي أمام استئناف المفاوضات لا يكمن فقط في تباين المواقف حول أرضية المفاوضات ومرجعيتها المحورية، وإنما في عدم قدرة جبهة البوليساريو على أن تكون لها الاستقلالية الكاملة في تحديد مواقعها، وبالتالي بطلان أهم شرط في المفاوضات، ألا وهو القدرة على اتخاذ القرار، ولعل الأسلوب الذي لجأت إليه بعض الأوساط الإسبانية في تسريب الرسالة التي نسبت إلى الموفد الدولي كريستوفر روس، بتزامن مع بدء الحوار المغربي الإسباني، في قضايا أخرى، خير دليل على ازدواجية المواقف الإسبانية. المثير في هذه التطورات أن إسبانيا حشرت نفسها في كل أشواط المساعي الرامية إلى البحث عن الحل السياسي، وهي لا تفعل ذلك لأنها عضو في القائمة الدائمة لدول مجلس الأمن ذات الصلة بمتابعة التطورات، ولكنها تستند إلى كونها المستعمر السابق، علما أن تدخلها في الملف لم يكن يتجاوز الاستئناس بقائمة الإحصاء الذي كانت قد أجرته في المنطقة قبل انسحابها منها. فكيف أصبح ذلك الإحصاء، الذي تحدث خبراء إسبان أنه لم يكن نزيها وشابته خروقات عديدة، مدخلا للنفاذ إلى ما هو أكبر من تقديم شهادات معينة؟ الجواب عن هذه الفرضية لا يتطلب جهدا كبيرا، إذ يكتفي الإقرار بولاء جبهة بوليساريو إلى الإسبان للتأكد من أن الأمر تتداخل فيه معطيات ومصالح. فكما أن الإدارة الإسبانية في الصحراء قبل استرجاعها من طرف المغرب منحت شهادة الميلاد القسري لجبهة البوليساريو بتواطؤ مع الدولة الجزائرية، فإن المنتمين إلى البوليساريو مافتئوا يردون الدين إلى الإسبان إلى درجة إقامة علاقات لا مثيل لها في التاريخ بين الدولة الاستعمارية وحركة تدعي التحرير. لذلك فإن هذا الرباط الذي يكتنفه تطابق المصالح في التشويش على المغرب يبقى من بين العلاقات السيئة التي لا تشير إلى حدوث تحول حقيقي في الموقف الإسباني. الكلام الفضفاض لا يبني علاقات ثقة حقيقية، لأنه مهما بذل من جهد لتطبيع العلاقات المغربية -الإسبانية، فإنه بدون بلورة موقف إسباني صريح إزاء خطة الحكم الذاتي، وليس أي شيء آخر غير خيار الحكم الذاتي، ستظل الشكوك تحوم في سماء مدريدوالرباط. ولو أن إسبانيا كلفت نفسها عناء أن تنظر مليا في المرآة، حين استطاعت من خلال خيار الحكم الذاتي في أقاليم إسبانية عدة أن تضمن السير في اتجاه التقدم والاستقرار يحتم عليها ذلك أن تكون سباقة في إبداء الدعم غير المشروط لخيار الحكم الذاتي، لكنها لم تفعل بعد.