عندما عبر القائد طارق بن زياد نحو الجزيرة الخضراء وكان على أهبة فتح الأندلس بمقاتلين، أغلبيتهم الساحقة مغاربة، ألقى في جيشه خطبة يقول في مطلعها «أيها الناس، أين المفر، البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم العدو بجيشه وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي أعدائكم». اليوم، لو قدر لابن زياد أن يلقي خطبة أخرى لقال «أيها المغاربة، أين المفر، إسبانيا أمامكم والأعراب من ورائكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في بلاد المغرب أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وتتحداكم إسبانيا بازدهارها وأقواتها الموفورة، بينما خلفكم الأعراب يطاردونكم في سمعتكم وشرف نسائكم». خطبة طارق بن زياد لم تنته مع نهاية الفتح الإسلامي للأندلس، لأن وجود المغرب بين العدو وبين البحر مستمر منذ قرون طويلة. فمن أوربا جاء الغزاة وجاءت النكبات والكوارث، فجميع الحملات العسكرية جاءت من الشمال نحو الجنوب. من أوربا جاء الإنجليز والبرتغاليون والإسبان والفرنسيون والوندال، ومن أوربا جاءت أيضا الأسلحة الكيماوية التي فتكت بشمال المغرب، وهاهم الإسبان الذين كانوا أبطال تلك الأسلحة الكيماوية يمارسون اليوم نفاقا رهيبا ويقولون إن تعاطفهم القوي مع الصحراويين المطالبين بالانفصال سببه أن إسبانيا مسؤولة تاريخيا عن هذه المنطقة، لأن الصحراء كانت محمية إسبانية، ومن مسؤوليتها الأخلاقية اليوم أن تقف إلى جانب الصحراويين، وهذا كلام يبدو منطقيا في ظاهره، لكنه يخفي تناقضا مخيفا في باطنه. شمال المغرب بدوره كان منطقة حماية إسبانية، والكثير من سكانه اليوم يقفون في طوابير طويلة بمستشفيات الرباط والدار البيضاء في انتظار دورهم للعلاج من أورام السرطان، والجميع يعرف، بما في ذلك إسبانيا، أن 60 في المائة من مجموع مرضى السرطان في المغرب هم من منطقة الشمال، والسبب هو تلك الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي قصف بها الإسبان المنطقة من حدود الناظور شرقا إلى حدود طنجة غربا، ولا يزال مفعول تلك الأسلحة الرهيبة مستمر حتى اليوم. لماذا، إذن، لا تقف إسبانيا إلى جانب سكان الشمال وتعتذر إليهم على الأقل؟ ولماذا لا تبني لهم مستشفيات متطورة للعلاج من مرض السرطان؟ ولماذا لا يأتي إلى شمال المغرب مناضلون حقوقيون إسبان لرفع لافتات تطالب بالعناية بسكان الشمال وعلاجهم من مرض خبيث بلادهم هي المسؤولة عنه؟ لماذا، إذن، تمارس إسبانيا كل هذا النفاق الرهيب بين الشمال وبين الصحراء، مع أنها لم تقصف الصحراء لا بأسلحة كيماوية ولا بغيرها؟ أما البحر الموجود وراء المغرب فهو بحر من عدة أنواع.. بحر الصحراء الكبرى التي تفصله عن إفريقيا، وبحر العقد الكثيرة التي تفصله عن العرب، نفسيا وتاريخيا. العرب صاروا اليوم يمارسون دور العداء للمغاربة، ومن يشاهد وسائل إعلامهم سيقتنع بأن المغرب أصبح عدوهم الأول، إلى حد أن أبطال العالم في الرقص الشرقي صاروا يأتون بمغربية ويضعونها في مسلسل أو فيلم لكي يجعلوا المغرب نموذجا للدعارة وانفلات الأخلاق. وهناك أيضا بلد مثل الكويت، الوحيد في العالم الذي لم يطلق فيه شعبه ولا رصاصة مقاومة واحدة عندما كان محتلا، ومع ذلك صار بدوره «يقطر الشمع» على المغرب. المغرب يوجد في وضع مؤلم، جغرافيا وإنسانيا. إنه بلد على بعد 14 كيلومترا فقط عن أوربا، لكنه لم يأخذ من ذلك التقدم والازدهار شيئا. وهو أيضا في «قلب» الانتماء إلى العالم العربي والإسلامي لغة ودينا، لكنه لم يأخذ من إخوة الدين واللغة غير طعنات الغدر. طارق بن زياد لا يزال يعيش بيننا وهو يردد «أين المفر.. العدو أمامكم والبحر من ورائكم»... ونحن ليس لنا إلا الصبر والصدق. الصبر ضروري في كل الأحوال، والصدق مع أنفسنا أكثر ضرورة لأنه يلزمنا بأن نخرج من شرنقة التخلف والأمية ونتحول إلى أمة حقيقية وقوية، فالعالم لا يحترم غير الأقوياء.