يستعرض أحمد المديني في هذه السلسلة مجموعة من مشاهداته في الديار المقدسة عندما قام برحلة لحج بيت الله الحرام، وهناك عاين مجموعة من الظواهر التي أثارت انتباهه وجعلته مصرا على ترسيخها في عمل أدبي ينتمي إلى الجنس الرحلي الذي رآه قادرا على قبول تنوع مادته واختلاف أشكالها وأنواعها . العودة، إلى أين؟ بيد أن أقوى ما يشدك إلى المدينةالمنورة هو الانتباه إلى أنك هنا تأخذ تدريجيا في الهبوط من السماء إلى الأرض. إنك إذ تدخلها، وتكمل زياراتك، وتبدأ بالتنقل في خارجه المادي المتاح تكون قد شرعت في العودة إلى العالم الأرضي، إلى الدنيا. ينبغي أن تعي بهذا وإلا فأنت لم تفهم شيئا يذكر مما كنت فيه قبل أن تصل إلى هنا، وتتهيأ بُعيْده لتعود إلى ديارك. هل المنورة رَبْع خارج بلاد الله. كلا، لقد توافقنا من مطلع هذا السِّفر بأن بلاد الله في كل مكان «ولله المشرق والمغرب». المسألة أنك في مكة وجوارها كائن معلق في السماء، كل ما تأتيه من مناسك وعبادات، ويصدر عنك من سلوك معدود في السجل الأخروي. الذاهبون إلى الحج هم مسافرون إلى الآخرة، إلى الله، ولذلك يحرصون على جعل هذه الفريضة نهاية المطاف. بينما هناك في أداء المناسك حلقات، تبدأ من المحرم إلى التحليل(القصر والتحليق، ومباشرة النساء)، لا أدري هل للتخفيف عن الحجيج وتشويقهم للاستغراق، ثم ربطهم مجددا بالدنيوي ومكافأتهم بمتعه، أم ليشعروا بطهرانية هذا الانتقال، فضلا عن أن الإحساس بنوع من العبور هو الأساس في التجربة كلها، «التجربة الصوفية» كما يسميها أخي وصديقي الشاعر الكبير حميد سعيد، الذي حفزني على تلبية النداء، وغبطني، وقال بالحرف «كم هي ممتعة وفريدة هذه التجربة»، رغم أن الحياة لم تجُد بها عليه بعد، واستقى أهميتها، بل روحها، من إيمانه وورعه وخشيته من اليوم الآخر. طبعا، هذا يحتاج إلى معاناة خصوصية وكل فرد أعلم بإحساسه، إلى جانب ما يشترك فيه الناس، وليس فيه تفاوت. في المدينة بدأت أستفيق لحواسي، وأباشر اليومي ومنه أن تضع يدك في جيبك وتقتني، أنت تقتني لأنك حيّ، وتريد أن تبقى حيا، فيما بمكة كنت تطوف، وفي منى ترمي الجمرات، وفي عرفات تستغفر وتكثر من الدعوات. في مكة كنت، وأنت تدخل محراب الإلهي، تتحول. في المدينة وأنت تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، تتحول. لكن الأخطر، في زعمي، أمامك، ما ينتظرك. كان هناك فعلا قوم نشيطون في تخيّر الصحون، وإطالة أمد الجلوس إلى المائدة مكثرين من الذهاب إلى الخوان. يغادرون الفندق ويعودون محملين بالأكياس واللفات، وهم في غاية البِشر. لا أخفي تعجبي منهم، فهم بسرعة حققوا الهبوط من العلياء إلى البسيطة، وأغبطهم، ليتني منهم، ولن أكون من أحد. إلا مما جبلتُ عليه، وكل لما يُسِّر له. بدوري أردت الإسراع بالعودة إلى الأرض، على طريقتي، فطلبت من مضيفي تقديم موعد حجزي، بثلاثة أيام، على الطائرة من جدة إلى باريس. غيري ما همَّه كان يطلب تمديد البقاء، في فندق مريح لضيافة كاملة. فقيه النيل المغشوش زعم أنه يحب القرب أكثر من رسول الله، مصطنعا بعض التوعك، فيما بدا ملحوظا أنه وحرمه لا يتوقفان عن المضغ في المطعم، وإن انتقلنا إلى الحافلة تنهب الطريق تحجّج بهبوط نسبة السكر، طالبا تفاحة أو أي شيء يضعه تحت الفكين. زاد عليها، ولعله ضاق انتظارا، أن على مضيفينا ونحن في نهاية الإقامة تقديم هدية مناسبة، وروى في مجلس مفتوح أنه وهو في زيارة إلى بلد خليجي تلقى من أميرها مبلغ كذا، وهكذا تكون الضيافة وكيت. بقيت أنظر إليه مبهوتا كيف يسمح له خلقه الديني، وهل من اللياقة بعد كل ما كلفنا مضيفينا من نفقات سفر أبهة وإقامة فخمة وتنقل مريح جدا، ومرافقة تخصص للكبار، وإحاطتنا بكل أشكال العناية؛ كيف، بعد هذا وذاك، يمد يده كأنه في مسغبة، وهو فعلا في مسغبة، ولذا، والتماسا لروح التحول الذي أخذ يشغلني، قلت ارحل يا هذا قبل أن يبطل حجك، فتصبح كالمُنبتّ لا أرضاً قطع ولا ظَهراً أبقى! عائدا إلى الفندق في جدة، طويت الألبسة التقليدية، وارتديت كسوة عصرية، ونزلت إلى البهو ارتشفت قهوة أكسبريس، أتصفح معها جريدة «الشرق الأوسط» أعادتني إلى الحروب والنزاعات وحركة البورصة، من ربح، ومن في طريق الإفلاس، وإلى صحف أخرى يجيد كتابها المناورة بفراغ المعنى لملء بياض الصحيفة، وجيوبهم أيضا. ارتشفت القهوة مع مرارة الإحساس بما تعرض له بعض سكان جدة من نكبة الفيضان إثر تساقطات مطرية كارثية. قرأت تنويهات بعدية بقرار خادم الحرمين الملك عبد الله تشكيل لجنة لتحديد المسؤوليات عن غرق الضحايا وانهيار المباني، أحياء كاملة، فوجدته قرارا راشدا لمعاقبة الفاسدين، المتاجرين بأرواح الناس بلا وازع ضمير، وإن استحسنت أن تكون مثل هذه القرارات في المقدمة دائما لا في الذيل وللزجر وحدهما، ذلك أنه لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. تركت الفندق وأخذت تاكسي قادني حيث طلبت بتشوش من السائق السريلانكي، أنزلني عند أطراف حيّ، قال بتحفظ إنه يشبه الحي الذي تعيش فيه عائلته التي تركها هناك، ومن أجلها يكدح، ومضى عليه عامان لم يرها خلالهما، رغم أن إعصارا كاد يفنيها قبل أشهر. لم أكن في حاجة لمعرفة بقية التفاصيل، فأنا أعلم أي عذاب يعيشه سكان تلك المناطق، وأيّ مهانات يتعرضون لها وهم يعملون خدما وعمالا وأي شيء في بلاد العربان التي هي جزء من بلاد الله، وتعجب أن تراهم في موسم الحج، على فقرهم المزري، أكثر إقبالا، وأقوى بأسا على التحمل، وأحمس إيمانا في أداء المناسك. دفعت له أجرا مجزيا فقال حزينا إنه فقد هنا ابن عم جاء من سريلانكا من خمس سنوات، وكتب الله له الموت في أرض الإسلام، فرأيت من ملامحه، ومن بنايات غائصة في الوحل، وأزقة تسبح في سيولها السيارات والشاحنات، قرأت في مرآة هذه النكبة هشاشة الحياة، تذكرت مباشرة أن حافلتنا مرت قريبا من هنا على الطريق السيّار، كنا ذاهبين صباحا باكرا إلى مكة مع بدء الموسم، والمطر الدفاق يصنع السيول، والدارفوري يخوض في معمع السير، يصدّق ولا يصدّق، وشيخ الشام يلبي، والعربي الأمريكي يتسلى بتصوير بداية الغرق، وعمار، كعادته، يقهقه بلا مبالاة، وسيدة خلف مقعدي إلى جوار زوجها تتلو آيا من الذكر الحكيم؛ وبإرادة الله وحنكة الدارفوري نجونا من غرق.