لم يرفع الجنود الأمريكيون أياديهم ملوحين بعلامة النصر، وهم يتسللون ليلا وتحت جنح الظلام إلى الكويت، قبل أسبوعين من الموعد المقرر لانسحاب آخر وحداتهم القتالية من العراق. ولم يودعهم العراقيون بباقات الزهور باعتبارهم محررين. كما لا نعتقد أن حلفاءهم العراقيين الذين جاؤوا معهم، على ظهور دباباتهم، كانوا على علم بخطط الانسحاب هذه وموعد تنفيذها. وحتى إذا علموا، فإنهم كانوا مشغولين عنها بالتفكير بمصيرهم. تقليص عدد القوات الأمريكية إلى خمسين ألفا فقط، رغم معارضة الحليف العراقي، وفي مثل هذا التوقيت، ربما يكون في إطار الاستعدادات لحرب أخرى، أو هروبا من نتائجها، قد تستهدف لبنان أولا، والمنشآت النووية والبنى التحتية الإيرانية ثانيا، أو الاثنين معا. الأمريكيون يعلمون جيدا بأن أي ضربة لإيران أو لحزب الله في لبنان قد ترتد جحيما على قواتهم في العراق حيث النفوذ الإيراني في ذروته، وحيث يتوقع الكثير من المحللين أن تقع القوات الأمريكية فيه فريسة سهلة لأنصار إيران وحلفائها، وهم الأغلبية. وليس صدفة أن يتزامن هذا الانسحاب وتموضع القوات الأمريكية في الكويت مع إعلان أمريكا عن بيع الكويت صفقة صواريخ من طراز «باتريوت» تصل قيمتها إلى ملياري دولار، للتصدي لأي صواريخ إيرانية ممكن أن تقصف هذه القوات الأمريكية. وليس صدفة أيضا أن يصدر بيان اللجنة الرباعية للسلام الذي سيستخدمه مسؤولو السلطة في رام الله كغطاء للعودة إلى المفاوضات المباشرة بسقف زمني مدته عام، تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. هذه المدة الزمنية تكفي، حسب التقديرات الأمريكية، لتدمير إيران وسحق لبنان، فقد علمتنا تجارب الحروب السابقة أنه في كل مرة تضغط أمريكا لمفاوضات سلام وتتحدث عن تسوية للقضية الفلسطينية تنطلق القاذفات والطائرات والصواريخ ضد بلد عربي أو إسلامي. حالة الرعب بدأت تدب في أوساط النخبة السياسية الحاكمة في العراق أو النسبة الكبيرة منها، لسببين: الأول لأنهم يعرفون أن هذه الحرب باتت وشيكة، والثاني الخوف من المصير الأسود الذي ينتظرهم في حال قيام ثورة شعبية، أو حكومة وطنية تتولى محاسبتهم. وقد بدأنا نشاهد طلائع هؤلاء تتدفق إلى العواصم الأوربية، وخاصة لندن، حيث أموالهم واستثماراتهم التي نهبوها من العراق، وحيث عائلاتهم التي لم تغادر لندن أساسا لأنها لا تطيق العيش في «العراق الجديد» الذي لا يناسبها ولا توجد فيه الكماليات اللازمة للاستمتاع بالمليارات التي نهبت من ثروات أبناء الشعب العراقي في أكبر عملية فساد في تاريخ المنطقة، وربما العالم بأسره. العراق يقف حاليا أمام مرحلة دموية من الفوضى والتصفيات الطائفية بسبب الفراغ الذي سيتركه انسحاب القوات الأمريكية المتعجل. ولعل أول من تنبأ بها رئيس أركان الجيش العراقي الفريق أول بابكر زيباري عندما أكد أن قواته تحتاج إلى عشر سنوات (2020) حتى تصبح مؤهلة لتولي المسؤوليات الأمنية في البلاد. وبعد يوم واحد من هذه «الفتوى الأمنية»، نجح انتحاري في تفجير نفسه وسط متطوعين مرشحين للانضمام إلى الجيش العراقي، مما أدى إلى مقتل 60 منهم وإصابة أكثر من مائة آخرين. ودخل شهر يوليوز التاريخ العراقي بأنه الأكثر دموية (500 قتيل) منذ عودة الهدوء النسبي إلى العراق في العامين الماضيين، أي بعد تشكيل «الصحوات» وزيادة عدد القوات الأمريكية (surge) وإرغام سورية بعد اغتيال الحريري على إغلاق حدودها بالكامل في وجه العناصر الراغبة في الانضمام إلى المقاومة العراقية. في الماضي القريب، جرى طرح تعبير «أيتام صدام» للتداول في أوساط المبشرين بالعراق الجديد، كنوع من السخرية (توقف الحديث مؤخرا عن نظام صدام أو بالأحرى خفت حدته). ويبدو أن المصطلح نفسه قد يستخدم بقوة في الأيام المقبلة ولكن مع بعض التعديلات، فبدلا من «أيتام صدام» سيروج مصطلح «أيتام أمريكا» الذين سيجدون أنفسهم وجها لوجه أمام الشعب العراقي الذي خدعوه، ومارسوا أبشع عمليات التضليل لإقناعه بمشروعهم الدموي الثأري الطائفي، حتى لو جاء هذا المشروع على حساب العراق ووحدته وهويته. السيد عادل عبد المهدي، نائب رئيس «العراق الجديد» اعترف الأسبوع الماضي، وبشكل موارب، في إحدى المقابلات الصحافية، وهو اعتراف نادر على أي حال، بأن النخبة العراقية الحاكمة فشلت في إقامة نظام سياسي مستقر يحقق طموحات الشعب العراقي بسبب خلافاتها الداخلية والشخصية المتفاقمة. خمسة أشهر ومنذ إجراء الانتخابات النيابية، التي يمكن أن تكون الأخيرة فعلا، والعراق دون حكومة رغم الوساطات والتدخلات الأمريكية التي لم تتوقف، والبرلمان الذي تمخض عنها لم ينعقد إلا لربع ساعة، ولم يتم انتخاب رئيس له، وبالتالي رئيس للجمهورية. ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على قرب التوصل إلى اتفاق. القوات الأمريكية انسحبت من محافظة الأنبار وخلفت وراءها أيتامها من عناصر الصحوات، ترى ماذا سيحدث لهؤلاء بعد رحيل «كفيلهم» الأمريكي، وباتوا مثل «اللقطاء» غير معروفي الأب، فلا هم من أجهزة «العراق الجديد»، ولا هم قوات مقاومة للاحتلال التي خانوها وتعاونوا مع الاحتلال ضدها، ولا هم من المواطنين العاديين المغلوبين على أمرهم، ولا هم رحلوا مع مستخدميهم الأمريكيين مثل نظرائهم الفيتناميين أو بعضهم، أو حتى الفلسطينيين الذين أجلاهم الإسرائيليون بعد الانسحاب من غزة. نفهم، ولا نتفهم، ألا يستوعب رجال الصحوات هؤلاء وزعماؤهم (خاصة من قادة العشائر)، ونسبة كبيرة منهم من الجهلة فكريا وسياسيا، الدرس الأبرز في التاريخ الذي يفيد بأن جميع الذين تعاونوا مع احتلال بلادهم وقواته واجهوا مصيرا حالك السواد، بعد تخلي المحتلين عنهم وهروبهم تحت جنح الظلام مهزومين، ولكن لا نفهم أن يقع في هذه الخطيئة سياسيون ورجال دين كبار يرتدون العمائم بمختلف ألوانها، وبعض هؤلاء دكاترة وخريجو جامعات غربية أو حوزات علمية مشهود لها في العلوم الدينية والفقهية. تعالوا لنجري «جردة حساب» لما جرى في العراق بعد سبع سنوات من احتلاله، والإنجازات التي تحققت بفضل هذا الاحتلال، وما إذا كانت تستحق الثمن الباهظ المدفوع من دماء العراقيين والأمريكيين وثرواتهم في المقابل؟ يتباهى الأمريكيون وحلفاؤهم بنهم أطاحوا بنظام «الطاغية» صدام حسين حسب تعبيرهم، وهذا صحيح، فنظام صدام لم يعد يحكم العراق، ولكن هناك خمسة ملايين يتيم، ومليون أرملة، ومليون ومائتا شهيد، وستة ملايين جريح، نسبة كبيرة منهم في حالة إعاقة كاملة وأربعة ملايين مشرد داخل العراق وخارجه، علاوة على أن العدد نفسه بقي في المنافي ولم يتحقق حلمه بالعودة. أما الطبقة الوسطى، عماد المجتمع العراقي، فقد اختفت بالكامل، وكذلك الخدمات الأساسية من تعليم وطبابة وماء وكهرباء، فهل يعقل أن العراق الذي يعد ثاني دول العالم من حيث الاحتياطات النفطية لا تزيد مدة إمدادات الكهرباء فيه على أربع ساعات يوميا وفي صيف ترتفع درجة الحرارة فيه إلى خمسين درجة مائوية؟ عند غزو العراق، كان هناك حصار، ورغم ذلك كانت هناك كهرباء وماء وجامعات، ودولة مركزية إقليمية مهيبة من الجميع، لم تكن هناك طائفية ولا تفتيت مذهبي وعرقي ولا تنظيم «القاعدة» ولا «أبو درع»، فهل تعترف البقية الباقية من «دكاترة» العراق بهذه الحقائق علنا؟ نأمل أن نرى «صحوة» حقيقية في أوساط العراقيين، عنوانها محاسبة كل الذين تورطوا في جرائم الحرب هذه، والعراقيون منهم خصوصا، أمام محاكم دولية، وإذا تعذر ذلك فمحاكم عراقية عادلة، ولكننا نخشى من أمر واحد وهو أن تحرمنا الحرب الزاحفة، وشبه المؤكدة، من تحقيق هذه الأمنية.