هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. «أقول لكم لأطمئنكم لو رحل الرنتيسي والزهار وهنية ونزار ريان وسعيد صيام والجميع فوالله لن نزداد إلا لحمة وحبا، فنحن الذين تعانقت أيادينا في الحياة على الزناد، وغدا ستتعانق أرواحنا في رحاب الله، لذلك فليغزل على غير هذا المغزل شارون وأتباعه من الصهاينة والمتربصون، فمسيرتنا متواصلة ودربنا صعب ولكنه الدرب الوحيد الذي سيصل بنا إلى ما نصبو إليه، لذلك لا ضعف ولا استكانة ولا هوان على الإطلاق، وأقول لشارون وبوش بأننا سننتصر يا بوش... وسننتصر يا شارون..»، هذه هي الكلمات الأخيرة التي نطق بها أسد فلسطين عبد العزيز الرنتيسي قبل أن تطاله يد الغدر الصهيونية يوم السابع عشر من أبريل 2004 ليلتحق بكوكب الشهداء والشرفاء... طفولة خشنة ولد عبد العزيز علي عبد الحفيظ الرنتيسي بتاريخ 23-10-1947 في «يبنا» وهي قرية فلسطينية تقع بين مدينتي يافا وأسدود التي طرد أهلها منها في العام 1948 بعد غارات عصابات الهاجانا الصهيونية بغية توطين اليهود النازحين إليها من دول الشتات، ليسكن الرنتيسي مع عائلته في مخيم خان يونس للاجئين بقطاع غزة قبل أن يبلغ السادسة من عمره ويلتحق حينئذ بمدارس غوث اللاجئين بالقطاع منهيا بذلك دراسته الثانوية في العام 1965 قبل أن يلتحق بجامعة الإسكندرية ويحصل منها على درجة الدكتوراه في طب الأطفال نهاية العام 1972... عانى الرنتيسي وعائلته من ويلات الظلم والاضطهاد التي فاقمت أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية عقب طردها من قريتها يبنا وسكنها في مخيم خان يونس، لكن تلك الظروف التي ترعرع فيها زادت من صلابة هذا الفتى العنيد والصلب وفتحت عينيه على مآسي الاحتلال وما سببته (إسرائيل) لشعبه من آلام وأوجاع لا تطاق وكيف حولت حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى جحيم.. ويتذكر الرنتيسي طفولته فيقول: «توفي والدي وأنا في نهاية المرحلة الإعدادية فاضطر أخي الأكبر للسفر إلى السعودية من أجل العمل...، كنت في ذلك الوقت أعد نفسي لدخول المرحلة الثانوية، فاشتريت حذاء من الرابش، (البالة)، فلما أراد أخي السفر كان حافيا، فقالت لي أمي أعط حذاءك لأخيك فأعطيته إياه، وعدت إلى البيت حافيا. أما بالنسبة لحياتي في مرحلة الثانوية فلا أذكر كيف دبرت نفسي...». الرنتيسي الطبيب كان حلم الرنتيسي أن يصبح طبيبا ليضمد جروح الاحتلال الإسرائيلي التي يخلفها على أجساد الأطفال والشيوخ والنساء الفلسطينيين، وتحقق هذا الحلم أخيرا ووصل الرنتيسي إلى ما كان يصبو إليه (كانت مهنة الطب وقتها ارفع المهن التي يمكن للفلسطيني أن يصل إليها) ليعود مسرعا إلى القطاع نهاية العام 1976 ليلتحق بكوادر مستشفى ناصر بقطاع غزة المحتل. الرنتيسي والعمل الإسلامي كانت حياة الرنتيسي في مصر نقطة تحول في مسار حياته حيث انجذب لدعوة جماعة الإخوان المسلمين، وتأثر كثيرا بالشيخين محمود عيد والمحلاوي أبرز رجالات الإخوان المسلمين في مصر، وكان حريصا على الاستماع لخطبهما في مسجدي السلام وإبراهيم باشا بالإسكندرية، وكانت الخطب دوما سياسية حماسية، فالشيخ محمود عيد كان يدعم القضية الفلسطينية بشدة ويواجه الرئيس السادات بعنف في ذلك الوقت وهو ما ترك أثرا عظيما في نفس الرنتيسي، وعندما عاد من دراسة الماجستير بدأ الرنتيسي يتحسس طريقه في دروب الحركة الإسلامية في فلسطين والتي كانت تمثلها أيضا جماعة الإخوان المسلمين فالتقى مع الشيخ أحمد ياسين وباقي قيادات الجماعة وانطلقوا في عملهم الذي كان في البداية دعويا تربويا. رهين المعتقل... قبل انطلاق الانتفاضة الفلسطينية عام 1978، لم يكن خافياً أن الرنتيسي هو أحد قادة جماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة، فعقب اشتعال نار الانتفاضة كان واحداً من سبعة قادة اجتمعوا في منزل الشيخ أحمد ياسين ليقرروا تأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس بتاريخ 14-12-1987 وهم إضافة للشيخ ياسين والرنتيسي «عبد الفتاح دخان ومحمد شمعة وإبراهيم اليازوري وصلاح شحادة وعيسى النشار»، ليكون بذلك الرنتيسي ثاني المعتقلين من طرف قوات الاحتلال الإسرائيلي في الخامس عشر من يناير عام 1988 بعد اقتحام غرفة نومه نتيجة لعملية خطف الجنديين الإسرائيليين اللذين قامت حماس بإعدامهما في قطاع غزة بعد رفض السلطات الإسرائيلية مبادلتهما بالشيخ ياسين الذي كان قد اعتقل في وقت سابق. وبعد شهر من الإفراج عنه تم اعتقاله من جديد بتاريخ 4-3-1988 لمدة عامين بتهمة المشاركة في تأسيس حركة حماس وقيادة وصياغة البيان الأول للانتفاضة الفلسطينية المباركة ليطلق سراحه في عام 1990 ويعود من جديد لزنزانته لمدة عام كامل حتى نهاية عام 1991، ليعود من جديد مبعدا مع رفاقه في حركة حماس والجهاد الإسلامي ويتذوق مرارة الغربة القاسية بمرج الزهور في الجنوب اللبناني قبل أن يعود إلى جدران زنزانته من جديد حتى العام 1997 بتهمة التخطيط لعمليات مسلحة ضد الجنود الإسرائيليين. استشهاد أسد فلسطين يبدو أن الشيخ الرنتيسي لم يحتمل فراق أستاذه وشيخه أحمد ياسين ليلحق به شهيدا بعد أقل من شهر من استشهاد الشيخ ياسين، ففي مساء السبت 17 أبريل 2004 كانت فلسطين على موعد مع رحيل «أسد فلسطين» كما يحب الفلسطينيون أن ينعتوه لتستهدفه طائرة أباتشي صهيونية بينما كان يسير في سيارة وسط مدينة غزة، أسفرت عن استشهاد اثنين من مرافقيه، هما الشهيد أكرم نصار والشهيد أحمد الغرة، فقبل أقل من خمسة وعشرين يوما كان الدكتور الرنتيسي يشارك في تشييع الشيخ أحمد ياسين الذي استشهد فجر يوم الثاني والعشرين من مارس 2004، كان الرنتيسي يسير في الموكب وعلامات الغضب تبدو واضحة على قسمات وجهه ولم يكن يعلم بأن حماس قد اختارته خلفا لياسين. ففي الساعة الثالثة من فجر يوم السبت 17/4 وصل الرنتيسي إلى منزله في حي الشيخ رضوان، وفسرت المصادر الاستخبارية الإسرائيلية ذلك بأن العاطفة غلبته وحضر بناء على اتصال من إحدى بناته التي تبين لاحقا أنها إيناس (كان الرنتيسي وقادة حماس قد تواروا عن الأنظار منذ استشهاد ياسين) دون أن يعلم بأن هذا المنزل قد أضحى تحت المراقبة المشددة للأجهزة الإسرائيلية الخفية، وأضحى مرصودا على مدار الساعة بشكل أو بآخر. وما أن ولج الرنتيسي البيت حتى سارع بطلب ابنته الأخرى أسماء التي سرعان ما وصلت مع الدكتور صلاح شقيقه الأصغر الذي لم يكن قد رآه منذ عزاء ياسين ، وبقي معه حتى الساعة السادسة صباحا ليتوجه إلى مدينة خان يونس ويصل في الوقت نفسه مرافق الرنتيسي الخاص أكرم منسي نصار والذي لم يره منذ اسبوعين تقريبا (لم يكن أحد يعلم بأن جهاز الموساد يرصد تحركات نصار خطوة بخطوة) وبدأ الرنتيسي في رسم الخطة الأمنية للتضليل في حالة ما إذا كانت العيون تتربص هنا أو هناك. لكن على الجانب الآخر كان هناك في مكان ما في الجو أو في إحدى المستوطنات القريبة أو مكان آخر في غرفة العمليات خلية أمنية إسرائيلية يكاد صبرها ينفد في انتظار التعليمات لتنفيذ أوامر شارون بالتخلص من الرنتيسي قبل يوم السبت، خاصة وأنها تأكدت وتيقنت بأن الصيد الثمين وقع ولن ينجو هذه المرة، وكانت الخطوات التالية هي الأسهل: مروحيات حربية في الجو مزودة بصواريخ قاتلة أمامها هدف مرصود تنتظر تحركه لتنفيذ مهمتها. خرج الدكتور الرنتيسي ومرافقه أكرم في سيارة من نوع (سوبارو) ذات زجاج معتم قادها ابنه أحمد بسرعة فائقة قبل أن تتوقف في مكان متفق عليه مسبقا حيث كانت في الانتظار سيارة أخرى من نفس النوع (سوبارو) يقودها مرافق آخر هو أحمد الغرة، وبسرعة ترجل الاثنان: الرنتيسي وأكرم من السيارة الأولى ودلفا في السيارة الثانية، وهو إجراء أمني وتضليلي يتبعه المقاومون الفلسطينيون، ولكن يبدو أن هذه المرة لم يكن إجراء ناجعا، مثلما كان في مرات أخرى كثيرة، فأفراد الخلية الأمنية الإسرائيلية أصدروا الأوامر فسقطت الصواريخ على السيارة الجديدة، وركض أحمد الرنتيسي إليها فتأكد بأن والده لحق بأستاذه ورفيقه الشيخ ياسين بعد 25 يوما فقط من قيادته لحماس لينضم إلى سلسلة القادة التاريخيين للشعب الفلسطيني في شارع الجلاء بمنطقة الغفري شمال قطاع غزة مساء السبت 17أبريل 2004 في أحضان مدينة لا زالت تقاوم وتنجب الأبطال رغم أنها لا تزال مغلفّة بالحزن وأسوار القهر والحرمان والاضطهاد. يتبع