هناك من الرجال من يكون الموت هو آخر ما يخطر على بالهم، بيوتهم كهوف ومغارات ، هوياتهم ضائعة، لكنهم فرضوها على العالم بأسره عندما رفعوا شعار: هويتي بندقيتي. هناك رجال قادرون على الفرح في عتمة الليل.. قادرون على تركيب الوطن حجرا على حجر كأننا ندخل في النشيد الحافي أو نخرج منه واضحين على طريق واضح وحاد. هناك رجال حملوا شعلة الأمل وأضاؤوا ليل الأمة القاتم وقرروا. أن يموتوا رجالاً ولا يركعوا، فأضاؤوا ليل الأمة المظلم.. لكن على الجانب الآخر هناك رجال همهم الأول والأخير هو القضاء على تلك الكهوف والمغارات والهوية من خلال تصفيات جسدية أضحت عارا على جبين تاريخ الدول على وجه الأرض، معتمدين على تلك القاعدة التي تقول: إذا عجز اللسان عن الكلام وضاق الصدر بالصبر .. نطق سلاح الغدر وغاب عن العقل رشده، إنه حل بسيط يدل على العجز الفكري لإثبات خطأ فكرة الخصم...والغريب أن تلك الجماعات القاتلة التي قامت بالتصفية تخرج لتعلن أسفها الشديد، ثم لا تلبث أن تعيد الكرة مرات ومرات.. إنها ببساطة تصفيات واغتيالات تفعلها المخابرات في أبناء وطنها سرا وعلانية، وتفعلها الدولة في اعدائها وخصومها السياسيين كتابا ومفكرين ورجالات علم وسياسة، بغية إرهاب أنصار الضحية وإسكاتهم، أو توجيه رسالة إلى الآخرين بأن يد الانتقام طويلة.. إنها ببساطة الإغتيالات السياسية.. هو روبرت فرنسيس كنيدي الملقب ب«بوبي» ولد في العشرين من نوفمبر، عام 1925 ببروكلين. وارث أسطورة آل كنيدي التي يحترمها ويقدّسها غالبية الأمريكيين الذين اكتشفوا، على حد تعبير أحد الصحفيين، أن آل كنيدي لهم مذاق طيب للملكية، فقد وصفه أحد شعراء الولاياتالمتحدةالأمريكية بالقول: «إن روبرت له مظهر رجل اختصته الآلهة بمسحة من الجمال، فهو أشبه بنجوم السينما، والنساء في طليعة المتحمسين له، وقد شاهدت أكثر من واحدة تشهق وهي تنظر إليه بإعجاب، والمراهقات يتسابقن في الهتاف له عندما تهز الريح خصلات الشعر المنسدلة على جبهته»، ويستمر بالقول: «فقد رأيت في إحدى المرات أربعا منهن يركضن خلفه ككلاب الصيد بعد أن انتهى من إحدى خطبه، كانت له شعبية كبيرة جدا ورجال الشرطة يجدون مشقة كبيرة في إبعاده عن أيدي المتظاهرات اللواتي أردن أن يلمسن ملابسه أو شعره، ففي أي مكان كان يذهب إليه تنطلق هتافات من حناجر النساء أكثر من حناجر الرجال، كانت الجماهير في الحقيقة تود لمس روبرت أكثر من رغبتها في الاستماع إليه، إلى درجة أن أحد الشباب تمكن من لمس بوب فضم يديه وبدأ يصرخ: «يا إلهي.. لقد لمسني». أسطورة آل كنيدي عرف روبرت كنيدي بدوره، وعلى طريقة شقيقه الراحل (جون) كيف يفجر المشاعر الجماهيرية ويجذبها إليه بفضل تمتعه بكاريزما ملفته للنظر، وحافظ بذلك على أسطورة آل كنيدي التي كانت تقول: «إن مولودهم يأتي ويده اليمنى أطول من يده اليسرى، ظاهرة وراثية لكثرة عدد الأيادي التي يلامسونها في التحية والمصافحة والاستقبال، كان روبرت يحرص دائما على البدء من نقاط جديدة وليس إكمال ما بدأه الغير كما فعل سواه من السياسيين، وكان أستاذ حركات المناورة والمساومات، وصاحب تجربة غنية ويمتلك سرعة البديهة والقدرة على التحليل والاستنتاج والتنبؤ رغم خجله الشديد والمفرط، لا يرتاح إلى التعامل مع الغرباء، ترتجف يداه كلما ألقى خطابا عاما، ولم يكن يعني ذلك أن في شخصيته نقصا معينا، بل كان واثقا من نفسه ثقة كبيرة، حتى إنه كان يتحدث في حملته الانتخابية عن الفلسفة وعلم النفس والدين خلال خطبه، بل إنه حوّل سعادة الإنسان وبؤسه إلى قضية للنقاش وجعل من مسألة امريكا مسألة سياسية قائلا في إحدى الحملات الانتخابية «إننا نعيش فترة من الاضطراب لم نشهدها من قبل، فترة من الخطر، من التساؤل، التساؤل عن هوية روحنا الوطنية تساؤل ليس عن أمريكا.. ولكن عن قلب أمريكا». القبعة اليهودية كان روبرت يعلم أنه لكي يصل إلى البيت الأبيض عليه أن يجتذب قطاعات واسعة من الطبقات الوسطى، فقد كانت الإحصائيات تشير إلى أن 60 بالمائة من اليهود الأمريكيين يعيشون في ولايتي كاليفورنيا ونيويورك، وهاتان الولايتان على وجه التحديد هما اللتان ترسلان أكبر وفود للمؤتمر القومي للحزب الديمقراطي، وهكذا كانت المعادلة واضحة، فلكسب أصوات كاليفورنيا ونيويورك ينبغي كسب أصوات اليهود، ولكسب أصوات اليهود عليه أن يكرر دون كلل أو ملل موقفا مؤيدا( دون تحفظات) لإسرائيل متخطيا بذلك كل الحدود في تودده لليهود. ففي خطاب ألقاه في يونيو عام 1967 توقف فجأة عن الكلام وتنحنح بطريقة ساخرة وهو يقول: «لقد فرغت لتوي من شرب فنجان من القهوة العربية المرة ونسيت أن أغسل فمي، لا أعلم لماذا يحب العرب هذه القهوة ويكرهون اليهود رغم أنني أشعر دائما بأن اليهود لديهم من الروح ما لا يمكن للعرب أن يملكوه لا في العراق ولا سوريا أو لبنان أو السعودية أو مصر أو الأردن أو تلك البقعة الصغيرة التي تدعى فلسطين، والتي يعارض العرب وجود دولة يهودية فيها، رغم أنها ستكون العنصر الذي سيضمن إدخال الاستقرار إلى الشرق الأوسط». وفي حملته الانتخابية فعل روبرت ما لم يفعله أي مرشح غير يهودي في تاريخ ولاية نيويورك من قبل، فقد ارتدى غطاء الرأس اليهودي وطاف في المعابد اليهودية وشارك اليهود طعامهم، وحقّق كنيدي انتصارا في هذه الانتخابات وأحرز فوزا كبيرا في الانتخابات الأولية في «نبرا سكا» و«إنديانا» وتنازل عن الفوز في «أوريغون» وفاز من جديد في «كاليفورنيا»، وبعد هذا الفوز أصبح أحد المنافسين الرئيسيين على منصب رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية عن الحزب الديمقراطي في مواجهة الرئيس الأمريكي آنذاك «ليندون جونسون» الذي وصف روبرت بالسافل عند مشاهدته لمرافعة روبرت كنيدي بمجلس الشيوخ رافضا حرب الولاياتالمتحدة في فيتنام، داعيا الرئيس الأمريكي إلى سحب قواته من هناك وإنقاذ أرواح الآلاف من الجنود الأمريكيين. انتهازي وجبان ولا خيار له في عام 1967 كانت الاحتجاجات على حرب فيتنام وصلت ذروتها، وتطورت الأمور إلى مواجهة قوات مكافحة الشغب التي استعملت الهراوات وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرات التي كانت تنادي: «أوقفوا الحرب.. لا مزيد من الحرب، لا مزيد من الحرب...»، كان روبرت كنيدي حينها بمنزله بصحبة زوجته ومدير حملته آدم، يراقب أطفاله وهم يلعبون في حديقة منزله الكبير، ليلتفت إلى آدم قائلا : «تبا يا آدم.. ماذا تريد مني بعد؟ قطعت حنجرتي بنفسي بمجلس الشيوخ عندما دعوتهم لوقف الحرب.. وأنا لا أتحمل المسؤولية وأعجز الآن عن فتح صحيفة أو تشغيل التلفزيون بدون أن يدعوني أحدهم بالخائن أو الجبان أو الغادر... ماذا تريد مني بعد؟»، فرد عليه آدم بالقول : «ليس المهم ما أريده بل ما تريده البلاد.. عليك الترشح لانتخابات عام 1968 وعليك أن تكون في البيت الأبيض لإنهاء هذه الحرب، وتجعل أمريكا تركز على مشكلاتها الداخلية الفعلية..»، فما كان من روبرت إلا أن رد عليه وبقوة : «لا يمكنني تحدي رئيس في منصبه ومن حزبي، لأنه لم يحدث ذلك سابقا ولم يفعله أحد قبلي»، فتدخلت زوجته وقالت : «أعتقد أنك تستطيع الفوز والرب أعلم أنني لا أريد أن تشاركني الحملة فيك ولكنني أردت حقا أن تفعل هذا فأنا أعتقد بأنك ستفوز...»، واقتنع روبرت بكلام زوجته ومدير حملته اقتناعا مبدئيا فقط. الطفل الساحر.. سرحان سرحان هكذا رسمت العديد من الصحف الأمريكية والدولية صورة سرحان سرحان الذي اتهم باغتيال السيناتور روبرت كنيدي، وصفت العديد من الصحف سرحان بالشخص المعتوه أو المجنون «صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية»، وبحثت صحف أخرى في دوافعه السياسية للجريمة صحيفة «لوموند» الفرنسية، وصحيفة «الايكونوميت» البريطانية. سرحان مازال يقبع في زنزانة الصمت إلى حد الآن بسجن «سوليداد» في كاليفورنيا. سرحان بشارة سرحان فلسطيني من عائلة مسيحية ولد في القدس وهاجر إلى الولاياتالمتحدة بعد النكبة، وعمد في العام 1968 إلى اغتيال السيناتور روبرت كنيدي، وحُكم علية بالإعدام ثم خفف الحكم إلى المؤبد، ويقضي حاليا عقوبة السجن في الولاياتالمتحدة، ينتظر رحمة سجانيه. زنزانة الصمت التي شغلت أكبر حيز من الفراغ والعتمة في حياته، وهو الإنسان الذي لا يجيد قواعد اللعبة الكبرى التي دارت خلف الكواليس. يقول سرحان في تقرير نشرته جريدة القادسية العراقية بتاريخ فاتح غشت 1991 تحت عنوان: «اغتيال روبرت كنيدي... الحقيقة المرة»، يقول سرحان «(... ) لقد قتلت أمريكا رمزي وهي فلسطين (...) ما زلت أمقت هذا الوضع، فأمريكا سلخت مني وطني وهويتي وانتزعت مني كل ما له قيمة في حياتي». لماذا لا يعتبر الرأي العام ذلك جريمة ؟ ولماذا يحق للولايات المتحدة أن تقوم بمحاولات لاغتيال رؤساء الدول الأخرى ولكنها تثور عندما يقوم شخص عادي في ذهنية مضطربة في الخامس من يونيو عام 1968م باغتيال أحد أطفال أمريكا ؟ وفي المحكمة قال سرحان للقضاة وللشعب الأمريكي أثناء محاكمته «(...) حسنا يا سيدي، حين تنقل بلدا بأكمله، من منازله وأرضه وأعماله، يا سيدي إلى الخارج ليأتي بدلا منه مجموعة من الغرباء اليهود والصهاينة إلى فلسطين، أليس هذا خطأ كبيرا وظلما كبيرا؟ فعرب فلسطين لم يفعلوا شيئا، لم يفعلوا شيئا يبرر الطريقة التي عاملهم بها الغرب يا سيدي... لقد أثّر بي ذلك كثيرا وبعمق، أين هي العدالة في هذا الوضع؟ أين مناصرة المظلومين؟ إن الإسرائيليين ليسوا بمظلومين في الشرق الأوسط، اللاجئون هم المظلومون يا سيدي ولأنهم لا يملكون سبيلا للدفاع عن أنفسهم فإن الإسرائيليين والصهاينة يواصلون ضربهم، إن ذلك يحرق أعصابي حرقا يا سيدي، ومع ذلك يأتي أحد الأشخاص الذي كان سيصبح رئيسا للولايات المتحدة ويدعم هذا الكيان الصهيوني المغتصب لأرضنا ولشعبنا، يدعمه، بدون تحفظات، ماديا وسياسيا وعسكريا، لماذا لأننا عرب ولا نستحق الحياة كما كان يردد دائما، وأنا أردت أن أقول له إننا أعلى قدرا ودرجة منه ومن الصهاينه..». بهذه الكلمات ختم سرحان سرحان دفاعه أمام أنظار المحكمة والقضاة باغتياله لروبرت كنيدي في الخامس من يونيو عام 1968 بعد تأييده المطلق للسياسات الإسرائيلية الصهيونية في فلسطين ووصفه العرب والمسلمين بأنهم ليسوا بشرا ولا يستحقون الحياة. يتبع