إذا نجح عباس الفاسي في أن ينقل إلى قمة دول الساحل والصحراء صورة الموقف الأوربي حيال ما تواجهه المنطقة من مخاطر وتحديات أمنية، سيكون أوفى المغرب حقه، من خلال إبراز كيف أن الرباط كانت المدافع الأمين عن مصالح الدول الإفريقية، إبان انعقاد أولى قمة مغربية أوربية في غرناطة قبل بضعة أشهر. ومع أن تلك القمة كانت مخصصة للبحث في مجالات العلاقات الجديدة التي باتت تربط المغرب والاتحاد الأوربي، في ضوء مقاربة الوضع المتقدم الذي انتزعه المغرب بقوة التزاماته في أن يكون الشريك المفضل للاتحاد الأوربي في منطقة الشمال الإفريقي، فإن المنظور الشامل لتلك الشراكة، ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، يحتم أن يكون الجوار المغربي قابلا لاستيعاب هذا التحول، سواء كان ذلك على صعيد فض النزاعات التي تحول دون الانصراف إلى مواجهة القضايا الأساسية، أو على مستوى تكريس الاستقرار الذي بدونه لا يمكن تحقيق أي تنمية أو ازدهار، عدا أن تداعيات الأوضاع المأساوية في بلدان الساحل تعتبر في مقدمة أسباب تنامي الهجرة غير الشرعية والاتجار في تهريب الأسلحة والبضائع والمخدرات. من هذا المنطق، فإن تركيز المغرب على البعد الإفريقي في علاقاته مع منظومة الاتحاد الأوربي، يتماشى والحاجة إلى فضاءات متجانسة تكفل قيام حوار الأنداد، وبالذات عبر تقوية التعاون جنوب جنوب، لأنه لا يمكن لمنطقة الشمال الإفريقي أن تتنكر لهويتها الثقافية والتزاماتها السياسية، كما لا يمكن تصور أن تنهض بأوضاعها، دون أن ترافقها دول الجوار والامتداد في ذلك. وحين يبدي المغرب مزيدا من الحرص على انتشال بلدان الساحل جنوب الصحراء من أزماتها الاقتصادية وصعوباتها السياسية وتردياتها الأمنية والإنمائية، فإنه يفعل ذلك بوازع أن ضمان جوار أقل مشاكل يدفع في اتجاه تعزيز الحوار مع الشركاء الأوربيين وغيرهم. وكما أن الاستقرار يشكل أهم عامل مشجع على التنمية، فإن تدفق الاستثمارات الخارجية يبقى رهن سيادة الاستقرار وتأهيل النسيج الاقتصادي والاجتماعي وتطوير آليات الاستيعاب والتعاون. بين النظرة إلى أزمات بلدان الساحل جنوب الصحراء، لفرض نوع من الهيمنة والتبعية، والانتقاص من حرية القرار السياسي، كما تفعل الجزائر التي دأبت على استقلال الانفلات الأمني للاضطلاع بدور على مقاس طموحاتها الإقليمية، وبين النظرة البديلة القائمة على احترام الإرادة والمساعدة في التنمية وإسماع صوت الأزمات لاضطلاع الشركاء الدوليين بمسؤولياتهم السياسية والأخلاقية، يختلف التوجه، وبالتالي تختلف الخيارات والالتزامات. كثيرون لم يستوعبوا معنى أن ينضم المغرب إلى تجمع بلدان الساحل والصحراء، حين عرض عليه الأمر، فقد تصور البعض أن الأمر يتعلق بنزوة سياسية، أو أن الغرب يسعى إلى استبدال غيابه عن الاتحاد الإفريقي بإيجاد موطئ قدم في هذا التجمع الإقليمي، فيما ذهب آخرون إلى الربط بين هذا الانتماء ونوعية العلاقات المتميزة التي تجمع المغرب والجماهير الليبية، رغم ما يعتريها في بعض الأحيان من سوء فهم. الواقع يغاير ذلك، فثمة خيارات ذات أبعاد استراتيجية، هي التي جعلت المغرب يولي اهتماما أكبر بجواره الإفريقي في الامتداد العمودي نحو موريتانيا وغامبيا وغينيا وغيرها، ولو تأتى لذلك الامتداد أن يتعزز أفقيا عبر الاتجاه شرقا نحو الجزائر وباقي مكونات الاتحاد المغاربي، لكنا أمام تكتل بشري وجغرافي واقتصادي بإمكانه أن يشكل قوة حقيقية في عصر التكتلات، غير أن الخلافات التي لا تزيد سوى استفحالا بين الجزائر والمغرب حدت من ذلك الامتداد الأفقي، لكنها لم تؤثر في التوجه الآخر الذي كان قد برز على الصعيد الاقتصادي منذ التفكير في الطريق السيار الرابط بين طنجة ولاغوس، مخترقا الفضاء الإفريقي الشاسع. إنها لمفارقة حقيقية أن يكون المغرب يفكر في رفع الحواجز وإتاحة تنقل وعبور الأشخاص والممتلكات في هذا الفضاء الحيوي، الذي ما زال فيه الرهان قائما على إمكان تحقيق حلم الربط القاري بين إفريقيا وأوربا عبر مضيق جبل طارق، فيما تنكفئ الجزائر متسلحة بوهم إقفال الحدود، كما يعكس ذلك موقفها الأكثر تشددا وتناقضا إزاء إبقاء الحدود المغربية الجزائرية مغلقة إلى ما شاء الله. نحن هنا أمام مقاربتين، إحداهما تتوخى الانفتاح وكسر الحواجز والانشغال بالمعضلات الحقيقية التي تواجه المنطقة وامتداداتها الإقليمية في الساحة الأفريقية، والثانية تروم الانغلاق والاحتماء بوهم بقايا الحرب الباردة التي كانت تقسم الدول والشعوب بمعايير إيديولوجية متجاوزة. لقد دلت وقائع على أن تعاطي الجزائر مع ما يعتمل في الساحل جنوب الصحراء من مشاكل، ظل يخضع لأجندة انتهازية، لا مكان فيها لمعاملات الأنداد، بل ذهبت، أبعد من ذلك، إلى شن حروب لإبعاد المغرب عن مجاله الحيوي والاستراتيجي في المنطقة، كما تجلى ذلك في عقد اجتماعات أمنية وعسكرية روعي أن يكون المغرب مستبعدا عنها. الراجح عبر استخلاصات ميدانية واستقراءات موضوعية أن الجزائر ليست بعيدة عما تعانيه بلدان الساحل جنوب الصحراء من أزمات، ومن غير المفهوم أن تكون بلاد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، التي اكتوت أكثر من غيرها بنار ولهيب الإرهاب، هي التي ما فتئت تمارس لعبة تقريب عود الثقاب من الحطب في المنطقة ذاتها. وإذا كان هناك من يذهب إلى ربط الموقف الجزائري برغبة دفينة في تدويل الظاهرة الإرهابية إقليميا على الأقل، فإن الثابت أن من لم يستطع أن يحرز التقدم الكافي في التغلب على الظاهرة واجتثاثها من داخل حدوده، لا يمكنه أن يفعل ذلك خارج الحدود. إن قمة دول الساحل والصحراء مناسبة سانحة أمام القادة المعنيين لإعادة تقليب الصفحات واستخلاص العبر. ولا شك أن صوت المغرب في هذا اللقاء سيكون مسموعا ومقنعا، فالمعركة في تثبيت الوجود الإفريقي ليست قائمة داخل الاتحاد الإفريقي، الذي يحمل في ذاته كثيرا من أسباب عجزه ، لكنها غير بعيدة عن منطقة الساحل جنوب الصحراء. ويكفي المغرب أنه كان أحسن سفير للدول المعنية في حواراتها مع الشركاء الأوربيين والأمريكيين، وما عدا ذلك مجرد تفاصيل.