عندما نشرنا خبرا صغيرا، في ركن سري للغاية، يتحدث عن اجتماع العقيد القذافي مع أعضاء من الحزب الحاكم في الجزائر وحديثه أمامهم عن الاستفتاء كحل وحيد لقضية الصحراء، اعتقد البعض أن الأمر يتعلق بإحدى فلتات اللسان التي اشتهر بها «ثائر» ليبيا العجوز. لكن هذا الاعتقاد سيزول عندما سيقتل العقيد الشك باليقين في لقائه بصحافيين من قناة «فرانس 24»، وسيعود ليس فقط إلى التأكيد على ما قاله بخصوص الاستفتاء في الصحراء، وإنما سيذهب إلى حد تهديد كل من سيعترض على الاستفتاء بدفع ثمن رفضه. لقد كان القذافي مهذبا هذه المرة، على غير عادته، ولم يقل إن المغرب سيدفع ثمن رفضه للاستفتاء، بل ترك تهديده عائما وغامضا، مع أن الجميع يعرف أنه إذا كانت هناك من دولة ترفض الاستفتاء في الصحراء فهي المغرب تحديدا. العقيد إذن يهدد المغرب بدفع ثمن استمراره في رفض الاستفتاء. طبعا، نحن لا نستغرب صدور مثل هذا التهديد عن القذافي، فمن جانب هذا الرجل يجب توقع الأسوأ. الغريب أن هذا «الانقلاب» المفاجئ في الموقف الليبي جاء في وقت يحظى فيه مقترح الحكم الذاتي الموسع للصحراء تحت السيادة المغربية بدعم الولاياتالمتحدةالأمريكية وفرنسا والدول الأوربية والصين وروسيا وجزء كبير من الدول العربية. المغرب اليوم في موقف لا يحسد عليه يستدعي لمّ شمل جميع قواه الحية داخل المغرب وخارجه من أجل الدفاع عن استقراره ونموه الذي يجلب عليه حسد جيرانه. فنحن الآن نوجد بين حكومة إسبانية تريد أن تجردنا من صفة الوضع المتقدم الذي حصلت عليه بلادنا مع الاتحاد الأوربي بدعوى أننا نضطهد الأقليات الدينية المسيحية، وبين دولة العسكر في الجزائر التي يريد جنرالاتها تبرير استعدادهم للخطر المغربي بعقد صفقات التسلح بعائدات البترول والغاز لتبرير العمولات التي يربحونها ويكدسونها في البنوك الأوربية بأسماء أبنائهم وزوجاتهم ويحرمون منها الشعب الجزائري الفقير. جنرالات الجزائر لا يمولون فقط الحملات المسعورة للوبيات في مجلس الشيوخ الأمريكي ضد المغرب، وإنما أصبحوا يستغلون الأزمة المالية التي تعيشها الصحافة الأمريكية لشراء مقالات للرأي من أجل اتهام المغرب باحتلال الصحراء ونهب خيراتها، كما كتبت ذلك جريدة «نيويورك تايم» مؤخرا. مع أن أبسط متتبع لملف الصحراء يعرف أن المغرب استثمر منذ 1975 أكثر من أربعة ملايير دولار في الأقاليم الصحراوية، وبفضل ذلك رأت مدن بكاملها النور فوق كثبان الرمال. واليوم، لم يعد الأمر مقتصرا فقط على التحالف الجزائري الإسباني، وإنما أضاف العقيد القذافي «كرموصته» إلى هذا «الشريط» الطويل الذي يلتف حول عنق المغرب. الآن فقط سيفهم اليازغي وعباس الفاسي ووفده الوزاري رفيع المستوى، الذي ذهب لتطييب خاطر العقيد بعد الحكم علينا من طرف القضاء المغربي بدفع 100 مليون لملك ملوك إفريقيا كتعويض، أنهم كانوا على خطأ عندما تصوروا أن العقيد غير موقفه من قضية الصحراء. ستفهم وفود الشبيبة الحزبية المغربية التي ذهبت مجتمعة في طائرة تابعة للطيران الليبي، كادت تقتلهم جميعا، أنهم أخطؤوا الطريق عندما توجهوا نحو طرابلس للجلوس متزاحمين داخل خيمة العقيد الذي يهوى الخطابة وطرد الذباب بمروحته البدائية الملفوفة قبضتها في روق الألمنيوم. سيفهم مثقفو الكيلو الذين هبوا لتلبية دعوة العقيد، هو الذي يكره المثقفين ويحتقرهم، وقبلوا الجلوس بين يدي رئيس نصب نفسه ملكا أبديا على دولة يديرها من خيمته كما لو كانت شركة مسجلة في اسم عائلته، أنهم أصبحوا مفطرين عندما تسحروا مع القذافي وصفقوا له وهو يسلط سيف القضاء على رقاب ثلاث جرائد مغربية دفعة واحدة. هؤلاء جميعهم مدعوون إلى مراجعة دروس التاريخ لكي يفهموا أن القذافي لن يغير موقفه المبدئي المساند للبوليساريو، لسبب بسيط هو أن القذافي هو الأب الشرعي للبوليساريو، وليس هناك أب يفرط في أبنائه. لنعد إلى سنة 1969 عندما نفذ القذافي انقلابه على ملك ليبيا، ولنتذكر ما قاله بخصوص كرهه الشديد للملكيات أينما كانت وحلمه باستلهام مشروع جمال عبد الناصر، بطله القومي، لتصدير الثورة نحو المغرب. ولم ينتظر القذافي طويلا من أجل البدء في إخراج مشروعه وتنزيله على أرض الواقع، وقد بدأ فعلا في تنفيذه سنة 1973 عندما تورط في أحداث مولاي بوعزة بنواحي خنيفرة، ومد معارضين مغاربة بالمال فيما تكفل الجزائريون بمدهم بالسلاح لقلب نظام الحسن الثاني الخارج لتوه من الانقلابين العسكريين المتتابعين لسنتي 1971 و1972. في الجانب الليبي، كان المسؤول عن وضع خطة قلب الأوضاع في المغرب هو الكولونيل الخويلدي الحميدي والكولونيل مصطفى الخروبي والكولونيل عبد السلام جلود. أما التغطية السياسية للعملية، فقد كان يشرف عليها وزير الداخلية الليبي عبد المونيم الهوني، وقد كان هو المكلف شخصيا بإيصال «خناشي» الدولار إلى أقطاب المعارضة اليسارية الذين كانوا يديرون المعركة من قلب العاصمة الليبية التي كانوا يتخذون منها ملاذا. أما من الناحية الجزائرية، فقد كان كل من المسؤولين الأمنيين الشريف مسعدية وعلي الخافي هما المسؤولان عن تأطير وتكوين وتسريب المعارضين المغاربة لتنفيذ مخطط الإطاحة بالنظام. عندما فشلت كل هذه المؤامرات، فهم القذافي أن الحل الوحيد لتنفيذ مخططه الرامي إلى إنشاء فيدرالية تضم تونس ومصر وليبيا والجزائر يكون هو على رأسها، هو اقتراحه على بومدين إنشاء جبهة البوليساريو مقابل حصول الجزائر على الجزء الغربي من الصحراء ومنفذ على المحيط الأطلسي، فيما تحصل ليبيا على الجزء الشرقي للمغرب. وهكذا تكفل بومدين بتوفير المهاد لمولود القذافي الجديد، ووجد في تندوف المكان المناسب لها، وفوض لذراعيه السياسيين الأسطوريين قاصدي مرباح وعبد الحفيظ بوفوس، إضافة إلى رأس حربة دبلوماسيته اللامع عبد العزيز بوتفليقة، مهمة حشد الدعم السياسي في الخارج لهذه المنظمة التي تكفل القذافي بتسليحها بفضل الجسر الجوي الذي سهر على وضعه بين ليبيا وروسيا والذي زود البوليساريو بالدبابات وقذائف «سام» ورشاشات الكلاشينكوف روسية الصنع، فيما تكفل عبد الرحمن اليوسفي وحميد برادة بتنشيط برامج معادية للنظام المغربي عبر أثير إذاعة «صوت التحرير» الليبية. وهكذا عندما فشلت محاولات القذافي وبومدين في زعزعة عرش الحسن الثاني من الداخل، جربا المحاولة على الحدود الجزائرية المغربية. وأصبحت الذراع العسكرية لجنرالات الجزائر وعقيد ليبيا جاهزة لكي تحارب المغرب طيلة ثلاثين سنة من أجل استنزافه ماليا. فالمغرب ليست لديه آبار بترول وغاز، مثل ليبيا والجزائر، لكي يصرف منها على حربه طويلة الأمد في الصحراء. ولهذا السبب بالضبط قبل الحسن الثاني فكرة الاستفتاء بعدما توسط بينه وبين خصومه ملك إسبانيا وصدام حسين والملك فهد لدفعه نحو قبول فكرة الاستفتاء. وبفضل قبول فكرة الاستفتاء، استطاع المغرب أن يوقف النزيف المالي الذي سببته له الجزائر وليبيا بواسطة ذراعها العسكرية البوليساريو في حرب الصحراء، واستطاعت المنطقة أن تعرف السلام لعشرين سنة بعد وضع الطرفين للسلاح والجلوس إلى طاولات المفاوضات التي تستمر إلى اليوم. عبقرية الحسن الثاني لم تتوقف عند القبول بالاستفتاء لإنهاء الحرب، وإنما تعدت ذلك إلى الانضمام إلى ليبيا في توقيع معاهدة من أجل الاتحاد العربي الإفريقي سنة 1984. وهو التوقيع الذي ضرب به الحسن الثاني عصفورين بحجر واحد، أولا أشبع رغبة العقيد القذافي في الزعامة العربية، وثانيا استطاع أن يضمن حياده في ملف الصحراء. وبمجرد ما فهم الحسن الثاني أن قدرة العقيد القذافي على الإيذاء لم تعد كبيرة، انسحب من هذا المؤتمر. وهكذا، ففي الوقت الذي اعتقد فيه الجميع أن فكرة الاستفتاء ماتت منذ ذلك الوقت، نرى كيف أن القذافي لازال يحن إلى كوابيس الماضي. رغم أنه يرى كيف أن المنتظم الدولي يسير نحو دعم مقترح الحكم الذاتي الموسع الذي على أساسه يفاوض المغرب قيادة البوليساريو ومن ورائها الجزائر. إن الهدف من هذه المعركة غير الدبلوماسية، التي يقودها العقيد القذافي ومعه جنرالات الجزائر في الإعلام الأوربي والأمريكي ضد وحدة المغرب، واضح وضوح الشمس ويجب على جميع المغاربة أن يكونوا واعين بخلفياته. هناك اليوم سعي حثيث من طرف إسبانياوالجزائر وليبيا إلى وقف التحول الجذري الذي تعرفه مناطق كاملة من المغرب ظلت مهملة طيلة أكثر من ثلاثين سنة كان النظام خلالها منشغلا بحماية استقراره من ضربات هؤلاء الجيران. اليوم، يرى هؤلاء الجيران، خصوصا الجزائر وليبيا، أن المغرب، الذي ليست لديه آبار للغاز ولا للبترول، أطلق ملكه مشاريع كبرى ستغير وجه المنطقة الشرقية والشمالية والجنوبية للمملكة. هذه المشاريع تثير ليس فقط حسد وغيرة الجيران، وإنما ستعرضهم في القريب العاجل لمساءلة شعبية قاسية قد تنتهي بإسقاط «عروشهم» التي جلسوا فوقها كرؤساء لكنهم، وبسبب عقدتهم الدفينة من الملكية، حولوا أنفسهم إلى ملوك أبديين يفكرون في توريث جمهورياتهم لأبنائهم. القذافي وبوتفليقة خائفان من وصول اليوم الذي سيسألهما فيه شعباهما لماذا يتقدم ويتطور المغرب الذي لا يوجد فيه بترول ولا غاز طبيعي، بينما تغوص الجزائر وليبيا في التخلف والفساد والفقر رغم عائدات النفط والغاز التي لا تعد ولا تحصى؟ ولهذا السبب يجب أن يبقى المغرب رهينة بين أيدي هؤلاء «الأشقاء» الذين لم يسبق لهم طوال تاريخهم أن توحدوا سوى ضد المغرب. وإذا كان لدينا أشقاء بكل هذه القدرة على العداء، فما حاجتنا أصلا إلى أعداء.