في أسباب النزول أن الإجراءات التي اتخذت لتصحيح العلاقة بين الإدارة والمواطنين في الحسيمة، استندت في المقام الأول إلى الإصغاء إلى نبض الشارع، أي أنها جاءت استجابة لرغبات تم التعبير عنها من خلال رفع شكاوى إلى السلطة العليا، من أجل رفع الظلم وضمان السير العادي لدواليب الإدارة كي تكون فعلا في خدمة المواطنين، دون إكراه أو ابتزاز أو استغلال للنفوذ. دلالات ذلك أن الإخلال بواجب المسؤولية، كما بلورته المظالم التي أنصت إليها الملك محمد السادس بحدس وضمير الشعب، هو ما أطاح بالقلاع التي نصبها مسؤولون بدرجات مختلفة، ليس من أجل أن تكون لحماية مصالح المواطنين ورعاية شؤونهم، بل لضمان مصالحهم الخاصة وحفر هوة سحيقة بين الإدارة والمواطنين، من شأنها أن تشيع قيم اليأس والتذمر واللامبالاة. فالأخطر في الإخلال بالواجب ليس هو إهمال مصالح المواطنين فقط، وإنما غرس ثقافة التيئيس وفقدان الثقة وإقامة أسوار بين الإدارة والمواطنين، تجعل من تضييق الأفق وممارسة الابتزاز واستغلال النفوذ سياسة قائمة الذات. ما يثير في الإجراءات ذات الطابع القانوني والإداري أنها لم تكتف بتقليب صفحات شكاوى المواطنين التي وضعت الأيادي على مكامن الجراح النازفة في علاقتهم بمختلف المصالح الإدارية والأمنية والقضائية، بل انطلقت من استقراء مضامين تلك الشكاوى لإجراء تحقيقات شاملة، يعتقد أنها صيغت في تقارير مستوفية وضعت على طاولة السلطة العليا للبت فيها، انطلاقا من المسؤوليات الدستورية المخولة لملك البلاد، حيث لا حواجز بينه وبين صراخ المواطنين. والأكيد أن القطاعات المعنية كانت في صورة تلك التقارير التي مست الإحاطة بجوانب الخلل التي تعتري علاقة الإدارة بالمواطنين، الذين يضطرون إلى الخضوع للابتزاز للحصول على وثائق أو قضاء مصالح، فيما ينزع آخرون للاستفادة من الوقت الضائع للعمل على تراكم الثروة عبر مظاهر استغلال النفوذ. وإذا كانت القوانين وحدها لا تكفي لتأمين السير العادي للإدارة وضمان مصالح المواطنين، إذ تتعرض للخرق والانتهاك، فإن المسؤولين عن هذه التصرفات يتعين أن يواجهوا المتابعات القضائية التي تكون في مستوى الاستهتار بالمسؤولية، ومن هنا وجب القول إن القضاء وحده يكون مخولا له البت في أنواع التجاوزات التي علقت بالممارسات غير المسؤولة، وبذلك يكون خيار تحصين الإدارة من العبث قد تعزز أكثر، ليس من خلال إقالة المسؤولين المتورطين فحسب، وإنما عبر الالتزام بمفهوم دولة الحق والقانون. علما أن ما يميز هذه الحركية الجديدة التي تشبه مبادرة ثورة بيضاء ضد الخلل الذي يعتري الإدارة بكل مكوناتها وقطاعاتها، هو أنها تقدم نموذجا عمليا للمفهوم الجديد للسلطة، الذي كان الملك محمد السادس قد دعا إلى الالتزام به في الأشهر الأولى لاعتلائه عرش البلاد. وليس صدفة أن القرارات الجريئة، التي بعثت المزيد من الثقة في نفوس ساكنة الحسيمة وكل أرجاء البلاد، جاءت بتزامن مع استعدادات الشعب المغربي للاحتفال بعيد العرش، فالأمر يتعلق برسالة قوية تفيد بأنه لا تساهل أمام العابثين بالمسؤولية، وأن القانون وحده سلاح الثورة البيضاء التي جاءت تباشيرها الموجهة من منطقة نائية بعيدة عن المركز. لم يحدث في تاريخ المغرب الحديث أن جاءت إجراءات قوية بهذا المعنى، في وقت واحد ودفعة واحدة، لتشمل كل القطاعات في مدينة واحدة. ولعل أبرز ما تنطبع به القرارات الأخيرة، أنها جاءت بعد فترة مضت على زيارة الملك محمد السادس إلى الحسيمة، التي مكث بها طويلا لتفقد أوضاع المواطنين وآفاق تنفيذ المشروعات الإنمائية التي يشرف عليها شخصيا، ومعنى ذلك أن صاحب القرار اتخذ مسافة حيال تلك الأوضاع للتأمل والدراسة والاستقراء، معتمدا على نزاهة التقارير التي أرادها شاملة وصريحة وشفافة، وهذه المنهجية التي يتم تنفيذها بتؤدة وانضباط، ليست موجهة لفائدة ساكنة الحسيمة فقط، وإنما هي رسائل قوية لجميع المسؤولين على اختلاف درجاتهم ومواقعهم وأماكن تمرسهم على المسؤولية. ما حدث في الحسيمة يكتسي أهمية بالغة، بالنظر إلى ما كان يتردد عن تعرض المناطق الشمالية للبلاد إلى الإهمال والتهميش، وبالقدر الذي شكلت فيه زيارة الملك محمد السادس إلى تلك الأقاليم تحولا في التعاطي مع شؤون البلاد، لا فرق بين شمالها وجنوبها وبين شرقها وغربها، بالقدر الذي أبانت أن النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لا يتحقق من خلال إقرارها المشروعات الإنمائية ذات الصلة بتعزيز الموارد المادية والبشرية فقط، وإنما يتجاوز ذلك نحو ترسيخ قيم جديدة في الاضطلاع بالمسؤولية. فلا قيمة لأي مشاريع إن كان يستفيد منها البعض على حساب البعض الآخر، ولا قيمة لأي إنفاق في التنمية إن لم يعد بالنفع على المواطنين في حياتهم العامة والخاصة، بل لا قيمة لأي كلام حول الديمقراطية المحلية وتحسين سجل البلاد في أوضاع حقوق الإنسان، إن كان لا يزال هناك من يفكر بعقلية استعباد الناس وإهانة كرامتهم وفرض إتاوات العصور الغابرة عليهم، لمجرد الحصول على وثيقة أو التسجيل في مدرسة أو تنفيذ مشروع مقاولاتي صغير أو كبير. وإذا كانت الإجراءات مست كل القطاعات، فإن ذلك لا يعني أن البلاد في أمس الحاجة إلى حلول بنيوية لمشاكلها، تبدأ أولا وأخيرا باعتبار المسؤولية تكليفا ونزاهة. ولعل في الرسالة القوية التي تفيد الحاجة إلى مغرب الكفاءات والنزاهات ما يغني عن مغرب الو لاءات والوساطات والتدخلات.