رحلت عائشة وقد خلَّدتْ اسمها كرمز للتحدي بعد أن حققت أمنيتها بالحصول على شهادة الباكلوريا رغم أن السرطان احتل جسدها ونشر فيه عشرات الأورام.. لكنْ خلف تفوقها الدراسي تختفي حكاية حزينة وطويلة مع الألم والأمل والصبر!... في سنة 2007، لم تدرك عائشة الجابري أن الورم الصغير الذي ظهر أسفل يدها سيكون بداية لرحلة طويلة اختلط فيها الألم بمشارط الأطباء والعمليات الجراحية والأخطاء الطبية وحصص العلاج الكيماوي، التي استنزفت طاقتَها الجسدية، دون أن تنجح في سلبها إصرارَها على مواصلة دراستها. باحت عائشة بالألم الذي تشعر به لوالدها الذي استغل فرصة إجرائه فحصاً بسبب إصابة لحقت به، ليطلب من الطبيب معاينة يد عائشة لتكون تلك أول خطوة في رحلة العذاب، بعد أن أكد الطبيب ضرورة خضوعها لعملية جراحية، دون حاجة إلى الفحوصات، وهي العملية التي تمت في إحدى المصحات الخاصة وتبين لاحقا أنها شكَّلت منعطفا خطيرا في حياة عائشة... تسلم الطبيب ثمن العملية واعتبر أن عمله قد انتهى، لكن والد عائشة أصر على ضرورة إخضاع عينة من «الولسيسة» المستأصَلة للفحص، لتأتي النتيجة بخبر نزل كالصاعقة على الأسرة، بعد أن اتضح أن الأمر يتعلق بورم سرطاني خبيث.. حمل الوالد الخبر إلى الطبيب الذي نعته ب«الجزار»، غير أن هذا الأخير اكتفى بتقديم اعتذار بارد، قبل أن يعود ويخبره بأنه يجب أن يتمَّ بتر يد عائشة، وهو ما رفضه الأب، قبل أن يطلب منه الطبيب مجددا نقلها إلى الخارج وعدم عرضها على أي طبيب في المغرب. توالت الأحداث، بعد ذلك، بسرعة، بعد أن اتصلت طبيبة متخصصة بالأب ونصحته بإجراء عملية جراحية ثانية، بعد إخضاع عائشة للفحوصات اللازمة، اتضح من خلالها أن العملية الأولى كانت خطوة طبية متهورة، ليتم التنسيق مع أحد الاختصاصين.. كان هناك خياران لا ثالث لهما: إما إعادة إجراء العملية التي لم تنجح في استئصال الورم الخبيث، أو الخضوع للعلاج الكيماوي ثم إجراء العملية، دون أن ينسى الاختصاصي الذي تسلم ملف عائشة الاتصال ب«الجزار»، الذي أجرى العملية الأولى ويقوم بتوبخيه على «فعلته»... جزار ببذلة طبيب.. خلال العملية الثانية، تم استئصال جزء من يد عائشة، بعد أن اتضح أن العملية الأولى حفزت الخلايا السرطانية على الانتقال إلى مناطق أخرى، منها الكتف والقفص الصدري لجسد الفتاة التي كانت تتابع -بصبر- كيف حرَّف المرض الخبيث مسار حياتها، ما جعلها تخضع لحصص العلاج الكيماوي التي أنهكتها وجعلتها تفقد شعرها وشهيتها للأكل، كمضاعفات للصراع الشرس بين الأشعة والأورام السرطانية التي رفضت أن تنسحب من جسدها. ورغم أن الأسرة حاولت إقناعها بترك الدراسة، ولو بشكل مؤقت، فإن عائشة كانت تصر على الحضور إلى مؤسستها التعليمية، وأحيانا كانت تنهي حصة العلاج الكيماوي وتلتحق مباشرة بفصلها الدراسي، وهو ما فرض على الجميع احترام هذه الفتاة التي أبانت عن قدرة خارقة على الصبر والتحدي، حتى في اللحظات الأخيرة التي سبقت وفاتها، بعد أن أصرت على أداء صلاة الفجر والنطق بالشهادتين وسماع آيات من القران، ساعات بعد توصلها بخبر نجاحها وحصولها على شهادة الباكلوريا، بتفوق، محققة بذلك أمنيتَها الأخيرة في الحياة... الغريب أن عائشة -حسب ما يؤكده والدها- لم تكن تريد الكشف عن أسماء الذين كانوا وراء تدهور حالتها، وأكد أنها كانت بحاجة إلى بعض الأدوية التي اكتشف أنها غير متوفرة في الصيدليات، وأنها توجد فقط في المستشفى الجامعي للأطفال ابن سينا في الرباط، لكن ممرضة وأحد الأطباء رفضا تسليمه هذا الدواء، ما دفعه إلى البحث عن اسم الشركة المصنِّعة له في فرنسا والاتصال بها، غير أن طبيبة فرنسية أجابته، بعد أن شرح لها حالة عائشة، بأن مقر المختبر الذي يتولى تصنيع الدواء تم نقله إلى جنوب إفريقيا، ووعدته بأنها ستبذل أقصى ما في وسعها لمساعدته. في اليوم الموالي لوعدها، رن الهاتف، حاملا خبرا سارا، بعد أن أكدت الطبيبة الفرنسية أن اجتماعا عُقِد بحضور مجموعة من الاختصاصيين الفرنسيين لمناقشة ملف عائشة وأنهم سيتكلفون بتوفير الدواء وتحمل مصاريف نقله إلى المغرب، في ظرف 48 ساعة، لتبدأ رحلة أخرى من العلاج أدركت خلالها عائشة أنها ملزَمة بالتعايش مع مرضها، لذا بادرت إلى البحث عن أدق المعلومات المرتبطة به، وكانت تناقش تفاصيلَه مع الأطباء، كما كانت تحرص على الاطلاع على ملفها الطبي. بعد تسعة أشهر من العلاج، أظهرت الفحوصات نتائج جيدة دفعت الطبيب المشرف على حالتها إلى إخبار أسرة عائشة بأن الأخيرة شُفيتْ من المرض، لكن زمن الفرح كان قصيرا للغاية، فبعد أن سافرت عائشة رفقة قريب لها إلى البرتغال من أجل قضاء عطلة الصيف ونسيان رحلة مرهقة من العلاج، عادت إلى المغرب وخضعت لعملية جراحية على أساس أنها لم تعد بحاجة إلى العلاج الكيماوي، لكن بعد مرور شهر، ومع بداية الموسم الدراسي، أحست عائشة بوجود جسم غريب قرب ثديها لتُنقَل إلى المصحة، وهناك كانت الصدمة قوية للغاية بالنسبة إلى عائشة التي تحملت الكثير، بعد أن اتضح أن الشفاء كان مجرد سراب.. وأن المرض الخبيث يتسلى بعذابها ويصر على أن يسرق منها فرحتَها وأمنيتها في مواصلة الحياة والحصول على أعلى الشهادات الدراسية... خيبة الأمل مرة أخرى، خضعت عائشة لحصص علاج كيماوي، على امتداد تسعة أشهر، حرصت خلالها أيضا على مواصلة الدراسة، ومن جديد، أخبر الأطباء الأسرة بأن حالة ابنتهم قد تحسنت لكن صديقا للعائلة أشعر والدها بوجود «سكانير» جد متطور في فرنسا بإمكانه الكشف عن وجود الأورام، لتقرر الأسرة في صيف سنة 2009 السفر من أجل حسم النتيجة وعدم تكرار نفس السيناريو السابق.. جاءت النتائج بخبر سار جعل الأسرة تتنفس الصعداء وجعل عائشة تُقْبل على الحياة من جديد، بعد أن حصلت على نتائج دراسية جيدة، وقررت التخصص في العلوم الاقتصادية، رغم أن أستاذتها وأقاربها نصحوها بأن تتخصص في العلوم الرياضية. شهرا بعد ذلك، وفي لحظة صفاء اجتمعت فيها العائلة، اقتربت عائشة من والدها الذي احتضنها قبل أن يحس بوجود شيء غريب على ذراعها الأيسر، الأمر الذي جعل عائشة تعيش لحظات من التوجس دفعتها إلى تحسس أجزاء جسمها، خوفا من هذه الأورام العنيدة التي تنبعث في كل مرة... في المصحة، أثبتت الفحوصات أن الأورام انتشرت في أنحاءَ متفرقةٍ من جسمها، ليخبر الطبيب الأسرة بضرورة نقلها إلى فرنسا وبأنه لم يعد هناك ما يمكن فعله!... حزمت الأسرة حقائبها وتم عرض عائشة -برعاية ملكية- على أحد أشهر الاختصاصيين، لتشرع في تلقي حصص العلاج، بعد أن تطوع بعض الأساتذة الفرنسيين لتقديم الدروس لعائشة، حتى لا ينقطع الخيط الذي تستمد منه قوتها، قبل أن يطلبوا منها اجتياز امتحانات الباكلوريا فوق سرير المرض في فرنسا... حين يتحول الألم إلى إرادة ستميل كفة الميزان، مرة أخرى، نحو الحزن وخيبة الأمل، بعد أن اشعر الفريق الفرنسي الذي تابع حالة عائشة أسرةَ الأخيرة بأن وضعها الصحي حرِج، وبأنه ما باليد حيلة، سوى إخضاعها لحصص علاج كيماوي مخفَّف، في انتظار أن تتوصل الأبحاث الطبية إلى شيء جديد، وهو الأمر الذي علمت به عائشة وتقبلته بصبر وإيمان بقضاء الله وقدره، قبل أن تطلب العودة إلى المغرب، حيث تم التنسيق بين الأطباء المغاربة والفرنسيين، على أساس إجراء فحوصات دورية لها كل ثلاثة أشهر في فرنسا... فشلت حصص العلاج الكيماوي المكثَّف التي خضعت لها عائشة في القضاء على الأورام التي كانت تنجح في قتل خلايا الحياة في جسدها المنهَك وتزرع بدلها الموت والآلام الرهيبة التي تجرّعتْها عائشة، في صمت، وقاومتها، بشجاعة، لتواظب على الحضور إلى فصول الدراسة، بعدما عقدت العزم على اجتياز الامتحانات العادية لنيل شهادة الباكلوريا. ومن أجل ذلك، رفضت تناول المهدئات حتى تبقى قادرة على التركيز، رغم أن آلامها كانت لا تطاق، غير أن المرض عاندها وأقعدها طريحة الفراش، ولم تعد عائشة قادرة على المشي. كانت عائشة تعلم -ربما- بخطوات عدوها الذي يسرق منها حياتها، لذا طلبت من والدها أن يبعث لمؤسستها التعليمية، شهادة طبية حتى تتمكن من اجتياز الدورة الاستدراكية، بعد أن كانت قد حُرمت من اجتياز الدورة العادية، كما حرصت على حضور حفل نجاح زملائها الحاصلين على الشهادة، في دورتها العادية، وأخبرت عائشة والدها -وهي تذرف الدموع- بأن حلمها كان ارتداء زي التخرج وتسلم شهادة الباكلوريا ومعانقتهما (والديها) عناقا أخيرا... تحول حفل النجاح إلى احتفال بعائشة، التي عادت وكلها إصرار على تحقيق حلمها، غير أن المرض سيشتد عليها وستزيد معاناتها، بعد أن حار الأطباء في تشخيص إصابة لحقتها على مستوى الكتف، ليخبروا عائلتَها بأنها تعرضت لكسر.. وهي الرواية التي رفضها الأب، وكان مُحِقّاً في ذلك، بعد أن أثبتت فحوصات «السكانير» أن الأمر يتعلق بتطور خطير للأورام السرطانية، التي تناسلت، بشكل سريع، واحتلت مواقع جديدة من جسد عائشة، التي أصبحت عاجزة عن التنفس ومجبَرة على الاستعانة بأوكسجين صناعي... فقدت عائشة ثقتها في الأطباء، دون أن تفقد ثقتها في الله، لذا طلبت وقف العلاج الكيماوي ورفضت تناول المهدِّئات وشرعت في التحضير لامتحانات الباكلوريا، وهي على فراش المرض. غير أن الآلام الشديدة التي عانتها دفعت والدها إلى محاولة إقناعها بالعدول عن فكرة اجتياز الامتحانات وتناول حقن «المورفين»، علها تخفف عنها، لكن عائشة رفضت هذا المُسكِّن الذي يشتت انتباهها أثناء تحضيرها للامتحانات ويُشْعرها بالنعاس، قبل أن يتم البحث عن مهدئات أخرى ليست لها تأثيرات جانبية قوية... صراع شرس مع المرض لم تكن عائشة على علم ببعض الإشاعات التي أطلقها بعض زملائها، ومفادها أن الأساتذة يتساهلون معها في النقط ويأخذون مرضها بعين الاعتبار، لذا حرص أحد الأساتذة على استغلال فرصة حضورها إلى المؤسسة التعليمية ليخضع الفصل لاختبار شاركت فيه عائشة.. وبعد ذلك، أشهر ورقة إجابتها أمام الجميع، ليدركوا بأن تفوق عائشة نابع من اجتهادها ومن ذكائها، الذي يشهد به الجميع.. وهو ما زاد من احترم جميع تلاميذ المؤسسة لعائشة، إلى درجة جعلتهم يضعون جميعا أغطية على رؤوسهم، مثلما فعلت عائشة بعد أن أفقدها العلاج الكيماوي شعرها، رغم أنها لم تكن تتردد في الحضور بدونه إلى الفصل، كما كانت ترفض أن يتم التعامل معها بنوع من الشفقة... قام الطاقم التربوي والإداري بمبادرة طيبة، بعد أن قرر مساعدة عائشة على تحقيق حلمها وتمكينها من اجتياز امتحانات الباكلوريا، بعد أن تطوع عدد من الأساتذة وقدموا لها دروسا داخل المصحة، كما أن الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين رحبت بالفكرة وحرصت مديرة الأكاديمية، التيجانية فرتات، على تقديم الدعم اللازم، ليتم اختيار تلميذة لتقوم بتحرير أجوبة عائشة التي كانت تحرص على مراجعة الأجوبة والتدقيق فيها، تفاديا لوقوع أي خطأ. انتهت الامتحانات وأصرت عائشة على مغادرة المصحة في اتجاه منزل العائلة.. لم تشعر عائشة بالرضا التام على إجاباتها، لأن المرض حاصرها ومنعها من التركيز أكثر.. كانت ترغب في الحصول على ميزة التفوق وليس فقط على النجاح.. ورغم ذلك، كانت معنوياتها مرتفعة. عائشة تنتصر وتحقق أمنيتها الأخيرة.. بعد أسبوع من اجتياز الامتحانات، وفي ليلة وفاتها، تلقى الوالد اتصالا هاتفيا من مديرة الأكاديمية أخبرته فيه بأن عائشة حصلت على نقط جيدة وتمكنت من نيل شهادة الباكلوريا، بميزة «مستحسن»، وبأن الوزير سيقوم بتسليمها شهادة النجاح شخصيا!.. حمل الوالد هذا الخبر السارَّ إلى عائشة، التي قالت والفرحة تغمر وجهها: «الحمد لله»، رغم أن الآلام كانت تعتصرها.. ربما كانت تدرك أنها تعيش لحظاتِها الأخيرةَ، لذا طلبت من والدها الاقتراب منها مع أذان الفجر وطلبت منه أن يحضر لها غطاء الرأس.. تيممت عائشة وأدت صلاتها، قبل أن تطلب من والدها أن يتلو عليها آيات من «سورة الكهف»، وقالت له في النهاية: «الحياة مجرد فيلم»!... كانت عائشة تتظاهر بالنوم، لتمنح والدَها فرصة كي يرتاح قليلا من سهره على تطبيبها.. فرغم أنها كانت تحتضر، فإنها لم تتخلَّ عن طيبوبتها، قبل أن تُسلم الروح إلى باريها، بعد أن قهرت مرضها وانتزعت منه أمنيتَها الأخيرة، بعد ثلاث سنوات من المعاناة، لتتحول عائشة إلى «رمز» للصبر والتحدي وقوة الإرادة!...