عاش الجواسيس في خيال الناس كشخصيات وهمية ساحرة منذ فترة طويلة، فمن منا لم ينبهر بشخصية الجاسوس الشهير جيمس بوند ولم يتابع أفلامه بشغف شديد، ولكن هل يعرف الناس، على وجه اليقين، شيئاً عن حياة هؤلاء الأفراد الذين اختاروا «الفن القذر»، خاصة أن الخيانة لديهم تنبع من معين الجشع والطمع وحب المال وضعف النفس ووهن الإيمان وغياب الولاء والانتماء والسعي لإرضاء الشهوات والوقوع فريسة للنزوات.. دون أن يقروا بمبدأ الرحمة ولا نداءات الضمير الذي قد يستيقظ فيهم أحيانا. إنه عالم غريب يفتقر إلى العواطف ولا تصنيف للمشاعر تحت سمائه وفي دهاليزه المظلمة الغامضة. إنه عالم تستهوى فيه العقول على اختلاف مداركها وثقافاتها..عالم تقتحم فيه عوالم غريبة غامضة تضج بعجائب الخلق وشذوذ النفس.. عالم متوحش الأذرع، عديم الصفاء، لا يقر بالعلاقات والأعراف ولا يضع وزنا للمشاعر، نسيجه دائما قوانين لا تعرف الرحمة، أساسها الكتمان والسرية والجرأة، ووقودها المال والنساء والشهوة.. عالم يطوي بين أجنحته الأخطبوطية إمبراطوريات وممالك ويقيم نظماً ويدمر جيوشاً وأمماً ويرسم خرائط سياسية للأطماع والمصالح والنفوذ، فمنهن من باعت الوطن والدين في سبيل حبها للآخر العميل و أخرى اعتنقت ديانة أخرى في سبيل إرضاء حبيبها الجاسوس، ومنهن أيضا من عملت ضد وطنها وضمت أفراد عائلتها والمحيطين بها في دهاليز الجاسوسية أو خانت قدسية زواجها ووطنها في سبيل لذة جنسية مع العدو ... إنهن نساء عاشقات في بحر الجاسوسية . في ساعة مبكرة من الفجر أفاقت الفتاة الأخرى، وأخذت تهذي باللغة الفرنسية، التي كانت أمينة تجيدها، فانتبهت أمينة إليها وخرجت عن محيط الهلع الذي غلفها، وقد حاولت طوال ساعتين أن تتحدث مع الفتاة دون جدوى. وما إن نطقت الأخيرة ببضع كلمات حتى صاحت أمينة بالفرنسية: «أوه يا عزيزتي.. حسبتك عربية مثلي. فردت عليها الفتاة :أأنت عربية؟ - نعم..من الأردن. لماذا يفعلون بك ذلك؟ - حظي المشؤوم يا عزيزتي. حظي هو الذي جاء بي إلى هنا.اسمي سيمون دوابرفيه.. فرنسية من شيربورج على بحر المانش. قصتي طويلة، لن أستطيع سردها لك الآن، وكل ما أطلبه منك هو حفظ رقم التلفون هذا، وهو رقم أمي، وفي حالة ما أطلقوا سراحك كلميها وأخبريها بأنني هنا. فقاطعتها قائلة أمينة: ألا تظني بأنهم سيطلقون سراحك قبلي. فأنت هنا منذ سنوات كما أخبرتني.. أليس كذلك؟ -نعم أنا هنا منذ سنوات، لكن لا أعتقد بأنهم سيطلقون سراحي، خاصة أن قصتي وراءها الموساد الذين وعدوني بالكثير، لكنهم لم يفعلوا شيئا من وعودهم الكاذبة. فقاطعتها أمينة بهمس: أخدعك رجال الموساد مثلي؟. لقد أقنعوني بأن الفلسطينيين أغبياء. وفي حالة انكشافي لن يتركوني بين أيديهم أبداً، وسيخطفونني كما خطفوا إيخمان النازي من الأرجنتين. فجاء الرد سريعا من سيمون.إذ قالت: لا تعولي على هذا عزيزتي. فقد قالوا لي الكثير أنا أيضا، ووعدوني بألا يمسني أحد مهما كانت ظروف اعتقالي.(هكذا وقعت أمينة في الفخ. فهذه الفتاة التي تدعى سيمون ليست إلا أحد عناصر المخابرات الفلسطينية التي اندست معها لتوقع بها وتسحب لسانها وكل شيء مسجل الآن على كاسيت ويسمع من طرف القادة الأمنيين: علي سلامة وأبو إياد وأبو داود وأبو الهول) . لكن وقع أقدام ثقيلة كانت تقترب هي التي قطعت الحوار بينهما، وسرعان ما ظهر ثلاثة ضباط يتبعهم عدد من الجنود يحملون الكشافات المبهرة، تجاهلوا أمينة واتجهوا إلى الفتاة الفرنسية على بعد أربع خطوات منها. وكانت المسكينة ترتجف في رعب، وعيناها الزائغتان تبحثاًن عن شعاع أمل لإنقاذها، لكن الضابط الكبير، الذي كان يبدو متبرماً عجولاً، أمر أحد مرافقيه بأن يسألها لآخر مرة عن أعوانها في لبنان. و لما أجابت بالنفي، أشار بيده في حركة ذات مغزى، فاصطف أربعة جنود يحملون بنادقهم الآلية (بنادق لا تحمل الرصاص الحي، بل تحمل كبسولات معبأة بالدم فقط وذات صوت حقيقي كالسلاح الأصلي) واتخذوا وضع الاستعداد وقد جذبوا أجزاء الرشاشات... وانطلقت الرصاصات المزيفة إلى صدر الفتاة فافترشت الأرض كومة من حطام، وامتد صراخ أمينة يشرخ جدران الكهف الصخرية، ويتموج ملتاعاً في جوف الليل إلى عنان الفضاء. صراخ هيستيري متواصل يحمل أبشع مشاعرها رعباً، هي التي تعودت التوحش والسادية، وانتزعت ما بداخلها من نبضات رحمة وحنان. عندئذ قال أحد الضباط لقائده: سيادة العقيد ألا نعدم هذه هي الأخرى؟. فاجاب على الفور: إن لم تتكلم قبل منتصف النهار، لن نجد حلاً آخر.ارموا الجثة خلف الجبل ودقوا رأسها بالصخور (مشيرا إلى الجنود بقرف شديد). وهنا انهارت أمينة تماماً وفقدت آخر قلاع دفاعاتها وصرخت في ضعف: سأتكلم. سأقول لكم كل شيء. أخرجوني من هنا لأنني خائفة من الدم.أخرجوني لأتكلم. وبصوت أجش صاح فيها أبو إياد: أنت كاذبة ومخادعة وستضيعين وقتنا هراء.علقوها من أرجلها على الحائط واقطعوا عنها الماء والأكل حتى أعود. وما إن علقوها على السقف وتناوبوا على ضربها بالسياط، حتى اشتد إصرارها على الاعتراف كي يكف الجنود عن تمزيق جسدها. لكنهم لم يرحموها واستمروا في تعذيبها دون اكتراث بصراخها أو بأنهم يضربون امرأة..وأي امرأة.. فقد كانت عربية! وقرب الظهر توقفت أسفل مدخل الكهف سيارة جيب، ترجل منها ضابط برتبة مقدم وجنديان، أحدهما يحمل حقيبة متوسطة الحجم، تحمل جهاز تسجيل متطور ذا سعة عالية، وبقيت امرأة أخرى في سيارة الجيب. وضع الجندي جهاز التسجيل بعناية فوق قطعة صخرية مستوية بالقرب من أمينة، وانهمك الآخر في شد الأسلاك الكهربائية إلى بطارية السيارة الجيب، بينما وقف الضابط يقلب بعض الأوراق بين يديه، متجاهلاً الالتفات إلى أمينة المفتي، وسألها في صوت حاد:من هو رئيسك المباشر؟ فأجابت أمينة على الفور: إنه أشيتوف ...إبرييل أشيتوف. فقال وهو لا يزال ينظر إلى الأوراق بين يديه: أين جهاز اللاسلكي ونوتة الشفرة؟. فأجابته في سرعة مذهلة وهي ترمق الجندي ذا السوط بخوف: أمروني أن أضعه في صندوق القمامة أعلى شقتي ببيروت وأن أحرق أوراق الشفرة التي كانت بالمصحف...وتوالت الأسئلة والاعترافات من طرف أمينة (وهنا تأتي الصدمة الكبرى بالنسبة لها، حيث نزلت الفتاة الفرنسية سيمون من السيارة الجيب واتجهت إلى أمينة برفقة أبي إياد، ليربت على كتفها وهو ينظر إلى أمينة قائلا : انظروا إلى صديقتنا سيمون..لقد قامت حقاً بمعجزة، ونحن جميعاً نجلها لإخلاصها لنا.إنه إخلاص نقي بريء يشبه الفجر، فجر الحياة . ونطقها بالفرنسية L'aurore de la vie ... هكذا كانت مصيدتها قد أعدت لها بكل إخلاص وتفان وإتقان من طرف القادة الأمنيين الفسطينيين بعد أن فشلوا في كافة الطرق لاستجلاء الحقيقة الكاملة منها، فصدماتها اليومية كانت قليلة مقارنة بتلك الصدمة الأخيرة، حيث رددت دون أن تشعر: يا إلهي.. سيمون أما تزالين حية؟! فردت عليها سيمون باللغة العربية: نعم أيتها الخائنة الملعونة. وتوالت الحكاية الكاملة التي سردتها أمينة بكل حذافيرها لضابط التحقيق الفلسطيني. كل شيء بالتفصيل منذ خروجها من الأردن وزواجها من موشيه واعتناقها اليهودية وهجرتها إلى إسرائيل ولحظة دخولها إلى لبنان ومعرفتها بخديجة اللبنانية الأردنية ومانويل ومارون الحايك وإيقاعها بهم في شباك الجاسوسية كذلك. وهنا استطاع الضابط الفلسطيني (متعمدا) أن يزرع الشك في صدر أمينة، فقام بحبك سيناريو متقن وأخذ يسرد بعض تفاصيله عليها، وهي تفاصيل مأخوذة من مذكراتها التي ضبطت في شقتها بفيينا. لقد أوهمها الضابط بأنها كانت ضحية شبكة خداع كبيرة مارستها الموساد عليها ابتداء من سارة (شقيقة موشيه)، التي سكنت معها في غرفتها الداخلية بالقسم الجامعي، والتي لم تكن سوى عميلة للموساد أجهز عليها رجال المخابرات الفلسطينية في فيينا بعد ذلك.كما أن قصة زواجها أيضا كانت محبوكة، وحب موشيه لها كان زائفا، وقصة فقدانه في الأراضي السورية كانت كذلك مصطنعة، فموشيه لا يزال حيا يرزق...كل هذه المعلومات وغيرها كانت مدروسة من طرف الموساد، وقد نجحت خطتها في ذلك. صدمت أمينة عندما سمعت تلك القصة من الضابط الفلسطيني... وهنا كان الضابط المحقق قد سيطر على أمينة(آني موشيه) فخضعت له في استسلام وقد خارت عزيمتها.كان الموقف عصيباً جداً بالنسبة إلى أمينة المفتي، فقد أجاد الضابط التعامل معها بتدرج حتى أوصلها إلى مرحلة الشك والترنح.وليس هناك من شيء بعد الترنح سوى السقوط... وعند السقوط يكون المرء في أقصى حالات ضعفه ويأسه وقهره.فلا عقل عندئذ أوإرادة، وإنما انصياع للآخرين. عندئذ أدركت أمينة أن النهاية قربت، فاستجمعت ما بقي لديها من قوة وقالت للقائد في هلع ووهن: اعترفتُ.. اعترفتُ حتى بأسماء شركائي.اسألوني وسأجيب بصراحة. لا أريد أن أموت... صمت الضابط لحظات مرت بطيئة، مرعبة، ثم نطق آمراً في حسم: أنزلوها. وبدأت عملية استنطاق واستجواب أخرى قام بها أبو الهول، مرورا بأدق التفاصيل وخباياها (شبكة الجاسوسة أمينة كانت تضم لبنانيين وأردنيين ومغربيا اسمه عازار يعيش في تطوان) بعد استكمال إجراءات الاستجواب حمل العقيد أبو الهول الملف إلى قائده أبي داود، الذي خطط بمهارة للإيقاع بها. وبدوره وضع الملف الساخن أمام ياسر عرفات ومساعده الأول أبي إياد لتقرير مصيرها.امتعض أبو إياد أسفاً وقال: يا لها من امرأة شريرة، لم تكتف بما فعلته بنا فأرادت قتلي. و ربت على كتف رئيس مخابراته (علي حسن سلامة) وهو يقول: نشكر الله على أنك وفقت في كشفها، فوجود حية كهذه بيننا كان سيكلفنا الكثير. على الجانب الآخر كان رجال على حسن سلامة على المحك لاصطياد الشركاء في الجاسوسية، وهم خديجة زهران ومانويل عساف ومارون الحايك (عثروا في شقته على الكثير من الملفات ضمن قائمة طويلة تحوي الأرقام السرية لتليفونات قادة المنظمات الفلسطينية، إضافة إلى ملف كبير يتضمن خلاصة تجسسه على تليفوناتهم خلال فترة اعتقال أمينة). وما إن دخلوا شقة خديجة حتى فوجئوا بمانويل عساف إلى جانبها في سرير الخيانة .لكن القدر هنا سيفلت هذا الأخير من عذابات الدنيا التي تنتظره، فهرول مسرعا إلى شباك الشقة وألقى بنفسه منتحرا، فجروا خديجة زهران إلى قبضة سلامة الثائر لتلتحق بصديقها الخائن الآخر مارون الحايك، وتبدأ سلسلة التحقيقات الشاملة بكامل تفاصيلها، كما حدث مع الجاسوسة الأم أمينة المفتي ليتم تسليمهما بعد ذلك إلى السلطات اللبنانية لمحاكمتهما طبقا للقوانين اللبنانية. تفشى خبر اعتقال شبكة تجسس إسرائيلية ترأسها آني موشيه كالنار في الهشيم، فسارعت الصحف اللبنانية إلى نشر الخبر، وارتجت جنبات الموساد بشارع كيريا بتل أبيب، فبدأ التخطيط لاستعادة العميلة الأسطورية.لكن الفلسطينيين كانوا يعلمون ذلك جيداً، فرأى عرفات أن الإبقاء على أمينة في كهف «السعرانة» أمر ضروري حتى يحين الوقت المناسب لتقرير مصيرها النهائي، نابذاً بذلك رغبة علي حسن سلامة في إعدامها، خاصة أن هذا الأخير كان يرى أن قتلها سيصيب عملاء إسرائيل في لبنان بالذعر الشديد، وبالتالي سيسهل عملية كشفهم، أما عرفات فكان يرى أنه من الجيد مبادلتها بأسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، لهم تاريخ حافل في النشاط الفدائي. وكان لعرفات ما أراد.إذ سرعان ما وافقت إسرائيل على عملية تبادل أمينة بواسطة الصليب الأحمر، لكن الاختلاف كان حول مضمون هذه الصفقة، فأبو عمار كان يريد أن يكسب المزيد من الأسرى الفلسطينيين، وإسرائيل كانت مصرة على اثنين من الأسرى ممن اعتقلتهم مؤخرا دون زيادة أو نقصان. وهنا رفض عرفات وهدد بقتل أمينة أمام شاشات التلفاز لتكون عبرة لكل من يفكر في التعامل مع الموساد. وهنا أصيب رئيس الموساد إسحاق حوفي، آنذاك، بالذعر، وكان قرار إسحاق حوفي النهائي تلبية مطلب الفلسطينيين على أن يترك لمنظمة الصليب الأحمر العالمية حرية اختيار الدولة التي ستتم على أرضها وتحت حمايتها عملية المبادلة، بما يضمن عدم وقوع كارثة قد يفكر بها الفلسطينيون، لتكون قبرص هي نقطة اللقاء والتبادل، وتحديدا في الثالث عشر من فبراير 1980 بمطار لارنكا الدولي. يتبع