حَدَثٌ مِن لا حدث. هذا ما يجمل الجدل الذي أثير حول تلويح النائب البرلماني مصطفى الرميد بتقديم استقالته من مجلس النواب. ولعل أول ما يثير الانتباه في هذه القضية أن النائب الرميد يتحمل مسؤوليتين: الأولى بوصفه رئيس الفريق النيابي لحزب العدالة والتنمية، وهو ما كان يفرض عليه أن يعرض قضيته على الفريق النيابي أولا، والثانية بوصفه نائبا برلمانيا يربطه تعاقد مبدئي وميثاق شرف مع الناخبين الذين طوقوه بأمانة إسماع أصواتهم في المؤسسة التشريعية. والمفارقة أن التلويح بالاستقالة وقع استنادا على ردود أفعال في غير الدائرة التي ينوب عنها، وإنما في مسقط رأسه، مما يضفي بعدا شخصيا على الوقائع، مع أن الأمر، في جوهره، يتعلق بنشاط إنساني خيري كان يجب أن يبقى بعيدا عن التسييس. وما دام الموضوع يهم فئات معوزة من ساكنة المنطقة، فإن إرجاءه يوما أو أسبوعا، إلى حين الحصول على ترخيص إداري، كما هو الشأن في كل التظاهرات الإنسانية والثقافية والاجتماعية، لن يضير في شيء، ما دامت العبرة تكمن في استفادة مواطنين من خدمات قافلة إنسانية. ما تطرحه الملابسات التي أحيطت بالقضية، أنها كانت بمثابة شجرة أريد بها إخفاء الغابة، ذلك أن المحامي مصطفى الرميد، وهو رجل قانون محنك، يعرف جيدا أن الحصول على رخصة إدارية محضة لا يتطلب مجهودا كبيرا، بل يحتم طرق البيوت المفتوحة من أبوابها. فالإجراءات الإدارية لا تتطلب أكثر من إشعار قائد المنطقة أو رئيس دائرتها بالنشاط المزمع القيام به. ولا يحتاج الأمر إلى الاتصال بعامل الإقليم أو وزير الداخلية، إلا إذا كان يراد من وراء ذلك اللجوء إلى وسائل تعجيزية. وإنها لمفارقة أن يعلن الرميد أنه اتصل بطبيب المستشفى الذي لم يبد أي مانع، لكن شريطة حيازة ترخيص من مندوبية وزارة الصحة ذات الصلاحية في قضية من هذا النوع. وهو إذ يعلن أنه أجرى اتصالا أو كتب رسالة لوزارة الداخلية في الموضوع، فإن العذر هنا يصبح أكبر من الزلة، وإذا سلمنا افتراضا أن وزير الداخلية يكون مضطرا إلى الرد على استفسارات أي نائب أو مستشار في حينه، ودون تأخير، فإن ذلك يفرض على الوزير ألا يقوم بأي شيء سوى الرد على المكالمات، بمعدل مكالمة واحدة مع كل نائب أو مستشار سيكون على وزير الداخلية أن يمطط ساعات اليوم الواحد إلى أزيد من قانون الطبيعة الذي يتعاقب فيه الليل والنهار. لكن الملفت في هذه العملية أن اللجوء إلى السلطة المركزية في قضية كان يجب أن تحل في النطاق المحلي، إنما يعكس نظرة دونية إلى توزيع الصلاحيات بين المركز والفروع، علما بأن النجاعة تتطلب حل المشاكل على النطاق المحلي، في إطار تكريس منظور اللاتمركز. يهم إن كان الرميد فجر من خلال عمله هذا زوبعة في فنجان، ولكن الأهم أن القضايا التي أثارها تلويحه بالاستقالة أعادت أمورا كثيرة إلى نصابها. فهو تحدث عن البعد السياسي من وراء التعزية التي بعث بها الملك محمد السادس إليه لمواساته في فقدان والده. ولم تكد تمضي غير أسابيع قليلة على مواراته التراب، حتى أخرج ورقته من قبره، في وقت يدرك فيه جيدا أن مكانة المؤسسة الملكية فوق الأحزاب والصراعات السياسية، بل إنه ما فتئ يردد أن الملكية يجب أن تنأى بنفسها عن المعارك الحزبية، فكيف سمح لنفسه أن يقحم شخص الملك في قضية أراد أن يضفي عليها بعدا سياسيا، مع أن الوقائع الدالة تؤكد أن الملك يبعث برسائل المواساة والتعازي إلى كافة المواطنين عندما يتعرضون لمكروه?! ولعلها المرة الثانية التي يصدر فيها مجلس النواب بلاغين حاسمين في قضايا تمس جوهر الممارسات النيابية وحرمة المؤسسة التشريعية. المرة الأولى عندما استنجد نائب من حزب العدالة والتنمية في وجدة بالجارة الفرنسية، طالبا الحماية الأجنبية. وهذه المرة من خلال السلوك الذي أقدم عليه الرميد، لتبخيس العمل النيابي. لكن الرسالة تبقى قوية وواضحة، ومفادها أن المؤسسات يجب أن تبقى بعيدة عن أي مزايدات، فهي وجدت لتكريس منهجية الحوار، في ظل التعددية والاختلاف. ومن يريد أن يكون خارج المؤسسات له أن يفعل ذلك، لكن دون إقحامها في معارك ذات طابع شخصي. ولا أحد يساوره الشك في أن حزب العدالة والتنمية الذي أصبح جزءا من معادلة المشهد السياسي في البلاد أقحم في غير ما يمليه عليه وجوده كحزب سياسي مسؤول، يعمل في إطار مشروع ويلتزم بالقوانين سارية المفعول. وإذا كانت له معارك وأسبقيات فإن مجال خوضها يبقى هو المؤسسة التشريعية التي لا يقبل أحد المساس بحرمتها، لأنها قلعة للديمقراطية التي تتبلور وتكتمل عبر الممارسات وليس من خلال انتهاج أسلوب الهروب إلى الأمام.