للأسف الشديد ليست لدينا مؤسسة تمنح جائزة الوزير الأكثر إثارة للسخرية في الحكومة كما يحدث في فرنسا. فقد منحت لجنة تحكيم مكونة من صحافيين يمثلون مختلف الجرائد والمجلات والقنوات التلفزيونية الفرنسية برئاسة الصحافي جون ميو جائزة السخرية السياسية لوزير البيئة جون لوي بورلو، بسبب تفوقه على كل وزراء «فرانسوا فيون» في إثارة السخرية بتصريحاته المضحكة، وأشهرها على الإطلاق قوله أن «ساركوزي هو أول رئيس كان مجبرا على المرور عبر الإليزي لكي يصبح رئيسا». ولو كانت لدينا نحن أيضا مؤسسة تمنح جائزة للوزراء الأكثر إثارة للسخرية لكان عباس الفاسي الوزير الأول صاحب دعوتها بدون منازع. فقد أثبت قبل يومين عندما استدعى بعض الصحف والمجلات، دون غيرها، إلى الإقامة التي وضعها الملك رهن إشارته، أنه ساخر سياسي كبير لا يشق له غبار. ولو فكر سليم الشيخ المدير الجديد للقناة الثانية في إنقاذ شبكة برامج رمضان التي «شبكها» مصطفى بنعلي قبل أن يغادر، لوجد في قفشات عباس الفاسي ونوادره ما «يقتل» به المغاربة من الضحك ساعة الإفطار. ولعل أول شيء يشد الانتباه في اللقاء، الذي عقده عباس الفاسي للصحافيين الذين اختارهم بعناية، هو أنه اشتكى إليهم من ظلم الصحافة الوطنية والدولية، وقال أنه أكبر ضحية للصحافة في هذه البلاد. ويجب على عباس الفاسي قبل أن «يوشح» نفسه بهذا اللقب، لقب ضحية الصحافة، أن يطلب الإذن أولا من منير الماجدي، السكرتير الخاص للملك، الذي سبقه قبل أشهر وقال في لقاء صحافي بالرباط بأنه لو كانت هناك شركة لتسجيل حقوق طبع السب والشتم لكان سجل عندها حقوق هذه الجرائم باسمه، لأنه أكبر شخصية عمومية في المغرب تتعرض للتشهير الصحافي. ومعه حق في أن يطالب بهذا الأصل التجاري، خصوصا عندما نسترجع شريط «الأحداث» ونتذكر كل المسلسلات التي خصصتها بعض الجرائد لمنير الماجدي بسبب استفادته من أرض للأحباس في تارودانت قدرها أربعة هكتارات، في الوقت الذي التزمت نفس هذه المنابر الصمت وهي تسمع وترى كيف استفادت مؤسسة الضحى من مئات الهكتارات التابعة للأحباس والأملاك المخزنية بدون مناقصة وبثمن بطاطا. المهم أن عباس الفاسي غاضب وعاتب على الصحافة الوطنية، لأنها تقاعست عن نصرته ولم «تهب» مثل رجل واحد لكي تدافع عنه عندما صلبته مجلة «جون أفريك» على غلافها وعنونت صورته بسؤال مستفز يقول «لماذا يصلح عباس الفاسي». والمضحك في الأمر أن عباس أوشك أن يحول تقاعس الصحافة عن الوقوف وراءه في هذه المعركة الإعلامية، إلى تقاعس عن أداء واجب وطني. فالهجوم الذي شنته مجلة بشير بن يحمد، استهدف «مؤسسة الوزير الأول التي تتمتع بثقة صاحب الجلالة والشعب». حسب ما قاله عباس. ومن يسمع عباس يشكو من الضرر الذي سببته له مجلة «جون أفريك» يتساءل لماذا لا يلجأ سعادته إلى القضاء الفرنسي ويسجل شكاية بالمجلة ويطالب بإنصافه. لماذا سيطالب الصحافيين المغاربة، الذين نصفهم متابع أمام القضاء بتهم ثقيلة يمكن أن تتسبب في إفلاس مؤسساتهم، بتولي مهمة الدفاع عن عباس. ببساطة لأنهم عندنا فالحون فقط في جرجرتنا نحن الصحافيين المغاربة أمام القضاء، عملا بالمقولة الشهيرة «أسد علي وفي الحروب نعامة». ومن يسمع عباس يطالب الصحافة الوطنية بالدفاع عنه ضد هجومات الصحافة الأجنبية، يستغرب قدوم هذا الطلب من وزير أول لديه جريدتان ناطقتان بالعربية والفرنسية تصدران عن حزبه، ولديه وسائل الإعلام العمومية التي ترافقه أينما حل وارتحل، ولديه صحف موالية للحكومة «تلحن» كلامه وتصريحاته كل يوم على طول صفحاتها. فما ضر عباس الفاسي أن تكون هناك جريدتان أو ثلاثة تغرد خارج السرب وتنتقده بين يوم وآخر. ولعل ما يبرهن على أن قشابة عباس ضيقة بالفعل وأن سعادته لا يحتمل النقد، هو حذفه أسماء الجرائد والمجلات التي تنتقده من لائحة المدعوين لحضور لقائه الصحافي. وما عليه لكي يفهم أنه مخطئ تماما في هذا التصرف سوى أن يتأمل قرار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي اتخذه بإرسال دعوة مكتوبة إلى إدارة مجلة «ماريان» التي لم تدخر صفحة واحدة من صفحاتها منذ صدروها للسخرية من نيكولا ساركوزي وزوجته السابقة والحالية وقراراته السياسية عمدة ومرشحا للرئاسة ورئيسا للجمهورية، يدعوها فيها إلى تشريفه بالحضور إلى الإليزي للجلوس والتعرف إليهم. أما عندنا فعباس يعتبر أن كل جريدة أو مجلة لا تمجد منجزات حكومته الباهرة تستحق أن تطرد من لقاءاته وتسجل في اللائحة السوداء. ولعل قمة السخرية السياسية السوداء التي أبان عنها عباس هي عندما قال لمدعويه بأن كل ما ينشر حول مرضه في الصحافة ليس سوى إشاعات. ولكي يقدم الدليل على أن صحته «زي البمب» كما يقول المصريون، استشهد بأسفاره العديدة وقال أن أحسن رد على المشككين في صحته «هو الجولات الماراطونية التي تقودني بلا توقف إلى عواصم العالم، إذ لا أكاد أنزل من طائرة حتى أمتطي أخرى». وهذه أول مرة نسمع أن تحول عباس الفاسي إلى عباس بن فرناس يمكن أن يدفع عنه فرضية اعتلال صحته. وقد اكتشفنا من خلال ما كتبه بعض الزملاء الذين حضروا اللقاء أنهم لا يفهمون في «التغطيات» الصحافية فقط وإنما أيضا في الطب، بدون علم أبو قراط طبعا. وهكذا كتب بعضهم أن عباس الفاسي تحدث خلال اللقاء لثلاث ساعات متتالية دون أن يشرب قطرة ماء واحدة. وهذا، حسب ما كتبه أحدهم «ما يدل على سلامة وضعه الصحي». ويبدو أن بعض الزملاء أخطؤوا الطريق إلى مهنة الصحافة، خصوصا مع كل المواهب الكلينيكية التي «كشفوا» عنها بعد لقائهم بالوزير الأول. فمكانهم الحقيقي في مستشفيات ياسمينة بادو، فالمسكينة تعاني من نقص حاد في اليد العاملة. وما غاب عن هؤلاء «الأطباء» الجدد هو أن عباس الفاسي تجنب شرب الماء طيلة ثلاث ساعات كاملة حتى لا يضطر إلى مغادرتهم كل خمس دقائق إلى دورة المياه. وهذا ليس لغزا بالنسبة للذين يتعايشون مع فرد من عائلتهم مصاب بداء السكري. ولذلك فضل أن يتحمل العطش على أن يطفئ عطشه ويصبح مجبرا مغادرة ضيوفه كل ربع ساعة، فيفتح شهية بعضهم للتعليق والتعلاق. وحتى عندما أثار أحدهم تأخر البت في عدد من مشاريع القوانين التي يتم تجميدها بمقبرة القوانين في الأمانة العامة للحكومة بسبب مرض عبد الصادق ربيع، قال عباس بأنه يرفض الحديث في الوضع الصحي لوزير في حكومته، وأن على الجميع احترام خصوصية الحياة الشخصية لهذا الأخير. والظاهر أن عباس لا يفرق بين الحياة الشخصية للمواطنين العاديين وبين الحياة الشخصية للمسؤولين العموميين. وفي الدول الديمقراطية يعتبر الوضع الصحي للوزراء والمسؤولين الكبار شأنا عاما وليس شأنا خاصا. لأن الوزير الأول أو أعضاء حكومته يتصرفون في أموال عمومية ويتخذون قرارات سياسية يمكن أن ترهن مستقبل البلد، ولذلك فأي اعتلال في حالتهم الصحية يجب أن يعلم به الرأي العام. وهذا طبعا لا يعكس أي نوع من أنواع الشماتة لا سمح الله، ولكن يعكس مستوى الشفافية والوضوح الذي يجب أن تشتغل فيه المؤسسات الرسمية، خصوصا المنتخبة. لكن يبدو أن عباس يضع احترام الرأي العام واحترام الذين انتخبوه، على قلتهم، ضمن آخر سلم اهتماماته. فقد قال للصحافيين بأن ما يهمه أولا وأخيرا هو «رضى صاحب الجلالة عليه». وهو ليس مسؤولا لا أمام الصحافة ولا أمام الرأي العام الذي تمثله، بل مسؤول فقط أمام الملك والبرلمان. رغم أنه لم «يشرف» هذا البرلمان بطلعته البهية إلا يوم تنصيبه وزيرا أول ويوم تقديمه ل«حصلته» الحكومية بعد انقضاء مائة يوم على تنصب حكومته. غير أن السبق الصحفي الذي كشف عنه عباس خلال لقائه بالزملاء الصحافيين ليس فقط هو أنه سليم ومعافى وقادر على الطيران بدون توقف، ولكن أيضا كونه يتوفر على مقدرات خارقة للعادة في التنجيم وعلم الغيب وكشف الطالع. فقد قال بأنه لا يعلم فقط بوقوع بعض القضايا الحساسة، وإنما يعلم بها أحيانا قبل وقوعها. ولذلك ربما علم بعدم وقوع أي شيء في سيدي إفني، رغم أن قنوات العالم بأسره كانت تذيع صور المواجهات بالحجارة بين المواطنين وقوات الأمن نقلا عن «يوتوب»، أطال الله عمره. يبدو أننا في المغرب نعيش في السياسة ما يسمى في لعبة «الرونضة» بالعباسية. غير الله يخرج هاد «الضمصة» على خير والسلام.