الحديث عن تاريخ العبيد المغاربة يثير أكثر من شهية الفضول الصحفي، إنه تاريخ يمتد ويتصل بمساحات زمنية شاسعة ومثيرة حين تتداخل العديد من الأحداث السياسية والاجتماعية وأيضا الفنية، لتصبح في النهاية رافدا مميزا لهوية مكون أساسي من المكونات البشرية المغربية، من مرحلة النزوح والترحيل القسري حتى فترات الاندماج الفعلي والانصهار الاجتماعي. هكذا سنتجه من خلال هذه السلسلة إلى بناء قاعدة تاريخية ستمكننا من فهم مسار هذا التاريخ برجوعنا إلى أصل تسمية إفريقيا وتبيان أقسامها وتقسيم أرض السودان الغربي إلى ممالك وأصل الأفارقة السود، وسنوضح علاقة المغرب التاريخية مع بلاد السودان، حتى نصل إلى العهد السعدي وبالضبط مع السلطان أحمد المنصور الذهبي الذي يرجع إليه السبب في النزوح البشري الهام للعبيد الأفارقة، وسنقف بعد ذلك على فترة الحكم العلوي حتى المولى إسماعيل ومرحلة إنشاء جيش البخاري، وما ترتب عن ذلك بعد وفاته، إذ سنقدم قراءة سياسية أفقية لشريط الأحداث ودور العبيد المغاربة في مبايعة الملوك وتحكمهم في إدارة المخزن حتى مصيرهم مع السلطان سيدي محمد بن عبد الله وتفريقهم وإعادة انتشارهم وتمليكهم. وسنختم بحثنا بإبراز جانب مهم من هويتهم الفنية، ونعني بذلك فن كًناوة الذي اقتعدت تمظهراته الجمالية في صورة ليلة الدردبة التي دأب المغاربة على نعتها بالليلة الكناوية، وسنوضح ذلك ونفصل فيه بمجموعة من المعطيات والقراءات الجديدة. سنعتمد كذلك في جزء كبير في قراءتنا على معطيات المؤرخ الحسن الوزان (ليون الإفريقي) لعدة اعتبارات منهجية أساسها كونه من المؤرخين القلائل الذي لم يكتبوا التاريخ من وحي المراجع، بل لأنه قام برحلة من ضمن رحلاته إلى بلاد السودان صحبة عمه الذي كان مكلفا سنة 1511م بسفارة بين ملك فاس محمد الوطاسي وملك سنغاي محمد أسكيا الكبير، وكان كتاب «وصف إفريقيا» ولا يزال أهم المراجع التاريخية، لا كونه يرجع إلى أكثر من 500 سنة فحسب، بل أيضا لدقته ولغزارة معلوماته. يرجع حسن الوزان أصل تسمية إفريقيا، باللغة العربية من فعل فرق بمعنى فصل باللاتينية (SEPARAVIT)، وهناك –يضيف- رأيان في أصل هذه التسمية، يعتمد الأول على كون هذا الجزء من المعمور مفصولا عن أوروبا وجزء من آسيا بالبحر المتوسط، ويذهب الرأي الثاني إلى أن هذا الاسم مشتق من إفريقش ملك اليمن الذي كان أول من سكن هذه البلاد، فلما لم يستطع الرجوع إلى مملكته بعد أن غلبه الأشوريون وطردوه، اجتاز النيل مسرعا، ثم تابع سيره نحو الغرب، ولم يقف حتى وصل إلى ضواحي قرطاج. لذلك نرى العرب لا يكادون يعتبرون إفريقيا سوى ضاحية قرطاج نفسها، بينما يطلقون اسم المغرب على سائر إفريقيا. أما أقسام إفريقيا فجاءت في «وصف إفريقيا» مقسمة إلى أربعة أقسام، هي بلاد البربر، ونوميديا، وليبيا وأرض السودان التي حدد الوزان بدايتها شرقا بمملكة كاوكة، وتمتد غربا إلى مملكة ولاتة، وتتابع في الشمال صحراء ليبيا، وتنتهي جنوبا إلى المحيط، ويشق أرض السودان نهر النيجر نابعا من بحيرة عظيمة (بحيرة التشاد، أما أجمل أرض السودان فهي ما امتد منها على طول مجرى النيجر. وبخصوص تقسيم أرض السودان إلى ممالك، يقول الوزان: «تنقسم بلاد السودان أيضا إلى ممالك نجهل بعضها لبعدها عن تجارتنا. لذلك لن أتعرض إلا للبلاد التي ذهبت إليها وترددت عليها كثيرا، أو التي كان التجار يأتون منها إلى البلدان التي زرتها، فيبيعون بضائعهم ويزودونني بمعلومات عنها. ولا أكتم أني زرت خمس عشرة مملكة من أرض السودان، وفاتني أضعافها لم أزرها، وكل منها معروف ومجاور للممالك التي كنت فيها. وإليك أسماء هذه الممالك، ابتداء من الغرب إلى الشرق: ولاتة، جني، مالي، تنبكتو، كاوو، كوبير، أغدس، كانو، كلاتسينة، زكزك، زنفرة، ونكرة، بورنو، كاوكا، ونوبة. وهذه هي الممالك الخمس عشرة الواقع معظمها على نهر النيجر... وتبعد هذه الممالك بعضها عن بعض، تفصل رمال القفار أو ماء النيجر بين عشر منها. ومن المعلوم أنه كان على رأس كل مملكة منها ملك مستقل، إلا أنها اليوم خاضعة إلى ثلاثة ملوك: ملك تمبكتو الذي يملك الحظ الأوفر منها، وملك بورنو الذي يملك أقلها، وملك كاوو الذي يسيطر على سائرها، ويلاحظ أن لملك دانكلة هو الآخر مملكة صغيرة. وهناك عدة ممالك أخرى تتاخم في اتجاه الجنوب الممالك الآنفة الذكر، وهي: بيتو، وتميام ودوامة ومدرة وكرهان، وملوكها كسائر سكانها أثرياء كثيرو الاتجار، يحكمون بالعدل ويدبرون أمورهم أحسن تدبير. أما سكان باقي الممالك فإنهم أحط من الحيوان الأعجم». أما جانب تاريخ الإسكان والإعمار بإفريقيا، فقد اتجه الوزان إلى فرضيات بعض الجغرافيين والمؤرخين التي تعتبر أن إفريقيا كانت خالية في القديم من السكان باستثناء أرض السودان، إذ المؤكد أن بلاد البربر ونوميديا لم تكن كل منهما مسكونتين طوال عدة قرون. وعن أصل الأفارقة السود فيرجعه صاحب «وصف إفريقيا» إلى نسل كوش بن حان بن نوح، ومهما اختلفت مظاهر الأفارقة البيض والسود، يضيف الوزان، فإنهم ينتمون تقريبا إلى نفس الأصل، ذلك أن الأفارقة البيض، إما أتوا من فلسطين، والفلسطينيون ينتسبون إلى مصرائيم بن كوش، وإما من بلاد سبأ، وسبأ بن هامة بن كوش. ولبلاد السودان الغربي عدة لغات ولهجات متباينة، صنفها الوزان إلى سونغاي وتستعمل في ولاتة، وتمبكتو، وجني، ومالي، وكثاوو، ولغة الكوبر وتستعمل في بلاد كوبر، وكانو، وكاسنا، وبرزكزك، ووانكرة، وهناك أيضا لغة في بورنو تشبه المستعملة في كاو كاو، وأخرى بقيت مستعملة في مملكة النوبة تختلط فيها العربية والسريانية والقبطية. ولتدقيق هذه المعطيات راجعنا التحقيق الذي أنجزه محمد حجي ومحمد الأخضر على كتاب «وصف إفريقيا»، حيث اعتبرا أن اللغات التي كان يعنيها الوزان هي في الأصح لهجات، وأن اللغة التي قال عنها إنها تستعمل في بلاد كوبر هي لهجة الحوصة، واللغة التي في بورنو هي لهجة الكنوري، أما تلك التي في كاوكاو فهي لهجة الكنمبو. أما ديانة الأفارقة القدامى وبالخصوص السود منهم، فقد أورد الوزان أنهم كانوا يعبدون «كيغيمو» ومعناه في لغتهم رب السماء، واعتنقوا الديانة اليهودية طوال سنين عديدة، إلى أن أصبحت بعض الممالك مسيحية فدانوا بالمسيحية وأخلصوا لها، إلى أن قامت بعض الفرق الإسلامية فجاء بعض المسلمين دعاة إلى هذه المناطق، وأقنعوا هؤلاء باعتناق دينهم حتى أصبحت الممالك السود المتاخمة لليبيا مسلمة، أما سائر السودانيين الذين يقطنون بساحل المحيط فمازالوا وثنيين يعبدون الأصنام. وقد وصف الوزان الممالك الخمس عشرة للسودان التي زارها وأقام في بعضها، حيث حدد مواقعها الجغرافية وذكر عادات أهلها ووصف أرضها وبعض ملوكها، وهي كلها معطيات تاريخية دقيقة وغزيرة تستحق القراءة غير المجزأة، وقد تفيد في زوايا منهجية أخرى أكثر تخصصا مما نرجوه هنا. أما الناصري فقد أفرد في كتابه «الاستقصا» فصلا لخص فيه تاريخ سودان المغرب، إذ عمل من خلاله على الإحاطة بأصل أهل السودان مع ذكر بعض الممالك مستندا على عدة مراجع تاريخية كابن خلدون وكتاب «نزهة المشتاق»، وكتاب «نصيحة أهل السودان»، وتقييد «معراج الصعود» للشيخ أبو العباس أحمد بابا السوداني، و«شرح المقامات الحريرية» للشريشي. يقول الناصري: «اعلم أن هؤلاء السودان هم من نسل حام بن نوح عليه السلام باتفاق النسابين والمؤرخين، ويجاور البربر بأرض المغرب منهم أمم من جهة الغرب على مصب النيل السوداني فيه، وتتصل بهم من جهة الشرق أمة أخرى تعرف بصوصو بصادين أو سينين مهملتين مضمومتين، ثم بعدها أمة أخرى يقال لها مالي، ثم بعدها أمة أخرى تسمى كوكو ويقال: كاغو، ثم بعدها أمة أخرى تعرف بتكرور، ويقال لهم أيضا: سنغاي، ثم بعدها أمة أخرى تدعى كانم، وهم أهل مملكة برنو المجاورة لإفريقية من جهة قبلتها». ويذكر في الأخير الناصري أن أهل مملكة غانة كانوا في صدر الإسلام من أعظم أمم السودان وقد أسلموا قديما وكان لهم ملك ضخم، وكانت حاضرة ملكهم هي غانة التي إليها ينتهي تجار المغرب الذين يتواجدون بها بكثرة.