بائع «الديطاي»، حارس السيارة، سائق الطاكسي، النادل، العاهرة، وآخرون..إنه الجيش الآخر من المخبرين، أو بالأحرى «مخابرات القرب»، إنهم في كل مكان يمارسون مهنا مختلفة ويطلقون آذانهم بين الناس ويسجلون كل الكلمات، إنهم عيون رجال «الديستي»، والدرك، ورجال الاستعلامات التي لاتنام. رجال ونساء يفوق عددهم عدد أعوان السلطة لأنهم في النهاية قد يكونون كل الناس. «بين ماكدونالدز وأوطيل حياة ريجينسي يشتغل معنا أكثر من 20 مخبرا»، يقول ضابط أمن يشتغل بإحدى الفرق الأمنية بالعاصمة الاقتصادية، التي أنشئت في السنوات الأخيرة، قبل أن يستطرد: «إنهم يمارسون مهنا مختلفة، فمنهم النادل وحارس السيارات والبقال وبائع الديطاي.. وآخرون». لكن كيف تمكن الجهاز الأمني من استقطاب جميع هؤلاء وماهي المعايير المعتمدة لاختيار «آذان» و«عيون» من خارج صفوف عائلة الأمن، تعمل على تأمين أهم مرحلة في تتبع نشاط كل مهدد للأمن العام أو مجرم محتمل؟ يجيب الضابط: «نحن نعرف من نرشح للاشتغال معنا.. والحيثيات المرتبطة بالموضوع تدخل في دائرة أسرار المهنة». وما هي أجورهم أو التعويضات المالية التي يتلقونها؟ «هذا أيضا سر..». خلف عيون البرلمان لنتخيل أن مجرد المسافة الفاصلة بين «ماكدونالدز» و«حياة ريجينسي»، والتي لا تتعدى 100 متر فقط، يوجد بها 20 مخبرا موزعين على مركز العاصمة الاقتصادية، ويشتغلون مع فرقة أمنية واحدة، مع العلم بأن لكل فرقة أمنية مخبروها، معنى هذا أن مركز المدينة ونواحيه يعج بالمخبرين «هذا ليس غريبا لأن وسط العاصمة كان دائما مستهدفا سواء من طرف المجرمين أو الإرهابيين»، يقول أحد المتتبعين للملف. لا أحد يعرف أين تبدأ شبكة المخبرين وأين تنتهي، لأنه، كما صرح بذلك أحد الظرفاء الأمنيين، «الجميع مخبر»، والعهدة في هذا الكلام على رجل الأمن. وفي النهاية، فتصريح هذا الرجل يحمل كثيرا من معالم الحقيقة لأن «كل شخص هو مشروع مخبر»، كما يوضح أحد العارفين، من أصغر بائع «ديطاي» إلى أكبر إطار. إنهم في كل مكان، ولا أحد يعرف عددهم الحقيقي أو كيف يتم صرف رواتبهم. ويضيف مصدرنا أن «ما يصرف لهم يدخل في ما يسمى ميزانية المباحث والتي كان يصل رقمها في الماضي القريب إلى 30 مليارا تمر وراء عيون البرلمان»، أما عددهم فلا يعرفه أحد، غير أن العارفين يؤكدون أنه في التسعينيات من القرن الماضي كانت هناك تعليمات بإحصاء كل المخبرين التابعين للأجهزة الأمنية، ولم يستطع أحد معرفة الرقم الحقيقي آنذاك، لأن أغلب الفرق الأمنية «رفضت التصريح بمصادر أخبارها»، وتم حصر عدد المخبرين آنذاك في ما يقارب 16 ألف مخبر. استغلال نقط الضعف «دوز للعربي هو اللي يعطيك لخبار»، الكلام لأحد رجال الأمن التابعين لواحدة من الفرق الأمنية الخاصة بالدارالبيضاء، والخبر المنتظر هو التأكد من وجود أحد المجرمين بمنزل عائلته بالمدينة القديمة بالدارالبيضاء، سيتم الاتصال وسيؤكد العربي الخبر دون تردد وستنطلق الفرقة الأمنية لاعتقال المشتبه به. وفي ثوان، سيتم العثور عليه بالفعل ببيت عائلته بالمدينة القديمة. غير أن المثير في هذه الحكاية ليس هو نجاح الفرقة في إلقاء القبض على المطلوب، وإنما هو المصدر الذي أكد الخبر، والذي يشتغل بقالا بالمدينة القديمة بالدارالبيضاء، وهو شيخ في ربيعه الستين، بجلباب تقليدي، ولا يمكن أن تشك ولو للحظة واحدة أنه مخبر سري يتقاضى أجرا شهريا وهاتفه النقال معبأ دائما. المخبرون وأعوان السلطة وأعوان أعوان السلطة «ليس لهم سن محدد، ولا مهنة محددة ولا شكل مميز»، يفسر أحدهم. إنهم ككل الناس أو إنهم بالأحرى كل الناس: إنه حارس السيارة الذي يتعاون مع السلطة من أجل المحافظة على بطاقة «حارس السيارات» الحمراء التي يعلقها على صدره، إنه بائع الديطاي الذي قبل التعاون بعد أن أطلق سراحه من قضية مخدرات، إنه النادل الذي يخبر بما يتحصل عليه من معلومات رغم أنفه من أجل الحصول على بعض الحماية، وهو البقال والخراز والبائع المتجول... والرابط المتين بين كل هؤلاء هو أنهم «جميعا يمارسون مهنا بسيطة»، يؤكد أحد المصادر، الذي يضيف أن «التعامل مع هؤلاء يكون أحيانا بمنطق استغلال نقاط الضعف»، ويستطرد المصدر قائلا: «إن استقطاب هؤلاء لا يكون صعبا لأن أغلبهم تكون له أخطاء يستغلها رجال الأمن.. وبالتالي، فإن التعاون لا يكون دائما عن طيب خاطر». أخبار نساء المكان: «عين الذياب»، الساعة تشير إلى الرابعة صباحا. فرقة أمنية بالزي المدني تنتظر أن يبدأ عشاق ليل الدارالبيضاء في مغادرة حانات وملاهي «لا كورنيش». العميد أمر بالبحث عن أحد تجار المخدرات الذي اعتاد الجلوس بأحد الملاهي الليلية الشهيرة. لا أحد يعرف إن كان يجلس إلى طاولته المعتادة أم لا، ولا يستطيع أعضاء الفرقة ولوج الحانة، وسيكون قرار العميد هو الاتصال بإحدى سائقات الطاكسي المعروفات بالدارالبيضاء. إنها سيدة في الأربعينات من عمرها، تلبس جلبابا تقليديا أنيقا، وتضع ماكياجا خفيفا، وصلت إلى مكان تواجد الفرقة مباشرة بعد المكالمة الهاتفية، صعد العميد برفقتها إلى الطاكسي، وانطلق بينهما حديث طويل لا يعرف مضامينه أحد سواهما، «لقد كانت تشتغل عاهرة في السابق ونحن نثق بها كثيرا..»، يقول أحد أعضاء الفرقة، قبل أن يستطرد: «أخبار النساء تكون دائما مضبوطة وأكيدة». وكان خبر العملية أن «المعني قد وصله خبر تواجدكم بالمكان وقد غادر الحانة منذ نصف ساعة». الثقة الكبيرة التي أبداها هذا الضابط بخصوص مصادره من النساء، تؤكدها مصادر أخرى التي قالت: «إن أغلب العاهرات يشتغلن كجواسيس لرجال الأمن، ومنهن من يقمن بإعداد تقارير دورية». في المقابل، فإن مصادر أخرى أكدت أن «كل هؤلاء ليسوا كافين لمراقبة مدينة بحجم الدارالبيضاء»، وكان أبرز ما حدث خلال الشهور الماضية هو ما قيل إنه «شبه قرار» رسمي يقضي بتزويد أغلب حانات الدارالبيضاء بكاميرات للمراقبة، وأيضا بعض المقاهي المعرفة في وسط العاصمة الاقتصاية، وهو ما وصفه أحد رجال الأمن ب«الضروري لاستتباب الأمن بالدارالبيضاء» دون أن يضيف تعليقات أخرى، وأصبح من الممكن مشاهدة كاميرات للمراقبة بوضوح داخل بعض المقاهي والحانات، كما أكدت بعض المصادر أن «كل الملاهي الليلة بلاكورنيش مزودة بكاميرات مراقبة ومخبرين». بالقرب من بناية ماكدونالدز بشارع محمد الخامس بالدارالبيضاء، يوجد العديد من المخبرين، من بينهم محمد «اسم مستعار»، والذي يمارس إحدى المهن البسيطة بعين المكان، والذي صرح ل«المساء» بأنه «سبق لي أن قضيت مدة من الزمن بالسجن»، وكان واضحا من كلامه أن الأمر يتعلق بقضية جنايات. محمد يشتغل مع أغلب الفرق الأمنية بالدارالبيضاء ويزود الجميع بالمعلومات، وقد رفض التصريح بما حصل ويحصل عليه نظير هذا التعاون، لكنه يؤكد في المقابل: «أنا لا أقدم أية تقارير ولست ملزما بأي شيء معين أو مهام معينة، ولكنني فقط أجيب عندما يسألونني بحكم معرفتي بأغلب رواد المكان». ويعتبر أيضا من بين أبرز المخبرين، الذين يمارسون مهنة «الكولابو»، سائقو الطاكسيات الحمراء بالدارالبيضاء، كما أن بعضهم يمنحون سياراتهم لبعض فرق الأمن الخاصة للقيام ببعض الحملات السرية الشهرية، وهو ما أكده أحد «الشيفورات» بالدارالبيضاء، وأضاف أن «أغلب من يشتغلون مع رجال الأمن هم من سائقي الليل»، فيما قال أحد المواطنين الذي كان يستقل الطاكسي الصغير تعليقا على كلام الشيفور: «كلشي بياع آخويا، ما بقات تيقة». «بائع الديطاي» إنهم في كل مكان، يمارسون كل تلك المهن الصغيرة: بائع الديطاي الذي يراقب أوضاع وسط المدينة، الخراز، وحارس السيارات الذي يكشف أسماء اللصوص وقطاع الطرق وعلاقات أصحاب السيارات، نادل المقهى الذي يخبر عن الزبناء، رجال أمن الشركات الخاصة الذين يربطون علاقات استخباراتية مع رجال المخابرات، العاهرات اللائي يبلغن عن كل المسؤولين والسياسيين الذين يتقاسمون معهن السهر أو الأَسِرّة، هكذا يختلط كل شيء، وهكذا يبقى الجميع تحت الحراسة النظرية. قريبا من ولاية أمن الدارالبيضاء، يجلس خالد، بائع الديطاي، الذي يعرف كل رجال ونساء الولاية. الوصول إلى هذا الشاب المخبر، ذي ال25 ربيعا، كان بإيعاز من بعض باعة الديطاي، الذين يعرفونه جميعا، ويخشونه، كما لا يترددون في وصفه ب«المقدم»، فيما ينفي هو أية علاقة له بالفرق الأمنية التي تجوب شوارع الدارالبيضاء صباح مساء. ويضيف: «كون كنت خدام مع البوليس كون بيخير»، غير أن باعة الديطاي الآخرين يؤكدون أنه «في كل مرة يحدث شيء في بارك ياسمينة أو شارع الراشيدي يكون هو أول من يسرب الخبر»، وهذا الكلام صرح به بائعو «ديطاي». تظهر التعزيزات الأمنية وتختفي من جنبات فندق «ريجينسي» –أحد أكبر فنادق البيضاء- حسب طبيعة الزبائن الذين يحلون ضيوفا على غرفه أو أجنحته، من وزراء ومسؤولين أجانب.. لكن اختفاء أصحاب الزي الرسمي من حين إلى آخر لا يعني أبدا انسحاب الآلة الأمنية من محيط الفندق.. لأن هناك عيونا لا تنام.