يسميها أصدقاؤها «الحاجة العزيزة»، وهو اللقب الذي صارت تنادى به منذ أن أدت مناسك الحج، ويتهمها خصومها بنشر الدعارة والكفر، ولكن عائشة الشنا، رئيسة جمعية التضامن النسوي، تفتح هنا قلبها لقراء «المساء» لتروي جوانب مؤثرة من حياتها. - كانت أول تجاربك المهنية إذن هي كاتبة في مستشفى؟ < نعم، وقد عشت تجربة مهمة، على الرغم من أنه تولد لدي خوف كبير من إصابتي بمرض الجذام، بحكم أنني كنت مكلفة بالمرضى المصابين به. وقد أدت مخاوفي من الإصابة بالمرض إلى تعرضي لانهيار عصبي حاد. كنت أرفض ذلك العمل، لكنني كنت أفكر في الراتب وأمي. الطبيب المشرف حاول إقناعي بأنني لا يمكن أن أصاب وخضعت للتلقيح، وعلى الرغم من ذلك لم أرتح. - غادرت العمل إذن؟ < في تلك الفترة تأثر أعضاء النقابة لحالتي، وكلموا الطبيب المشرف على وضعي وطلبوا منه أن يجد لي عملا بديلا. - كنت ساعتها منخرطة في النقابة؟ < أبدا، فأنا لم أكن منخرطة وكنت أسمع بها فقط، لكن الأعضاء تأثروا لحال تلك الشابة ذات الضفيرتين الطويلتين، فقرروا التدخل لفائدتي لدى مدير المستشفى آنذاك. كنت في تلك الفترة اكتريت بيتا أنا ووالدتي، وصرت ربة الأسرة بالمعنى المادي، فيما ظلت أمي هي صاحبة القرار دائما في البيت. لم أطلب شيئا من أعضاء النقابة لكنهم تفهموا رفضي لطبيعة العمل، وقرروا مساعدتي من تلقاء أنفسهم، وبالفعل تمكنت، بعد تدخل النقابة، من العمل بالمركز الصحي بمنطقة بين المدون بدلا عن العمل مع مرضى الجذام. - وماذا كان عملك هناك؟ < عملت ممرضة، وكنت مؤطرة من قبل مشرفة فرنسية ومساعدة اجتماعية. كنت صغيرة في السن، وعلى الرغم من ذلك تمكنت من نسج علاقة قوية مع المرضى، وهو ما لاحظته المشرفة على القسم. في تلك الفترة كان هناك قسم للتربية الصحية تابع للعصبة المغربية لحماية الطفولة، وكان يلزمهم منشطة متطوعة للعمل معهم. سجلت نفسي معهم وأصبحت أتلقى دروسا مهمة حول التربية الصحية، التي كانت تتولى أمورها امرأة فرنسية ذات شخصية قوية، حيث عملت ممرضة أثناء الحرب العالمية الثانية، وساهمت في علاج ضحايا تلك الحرب... وهي من دربتني رفقة مجموعة من الفتيات على التعامل مع الناس، حيث كنا نقوم بحملات توعية في المدن والقرى. في تلك الفترة، كانت العصبة تمنح مرضى السل مساعدة مالية من أجل مساعدتهم على تحسين التغذية، وكنت أتولى إعداد الملف الاجتماعي للمرضى واللائحة. في يوم من الأيام تلقيت استدعاء من المساعدة الاجتماعية الرئيسية. كانت المساعدة شخصية مرموقة في تلك الفترة، وهو ما جعلني أشعر بخوف كبير جراء الاستدعاء. التقيت بها وكانت أول جملة بادرتني بها هي: «لا يمكن أن تضيعي حياتك كممرضة عادية»، شعرت بأنها سبتني ولم أستطع أن أجيب، وكان كل ما قلته لها كلمات متقطعة هي أنني أحب عملي... لدي والدتي... والكراء، وأضفت أنني انقطعت عن الدراسة منذ مدة، فأجابت بأن الأمر ليس مشكلة، وأنها ستسجلني لإجراء مباراة ولوج مدرسة المساعدات الاجتماعيات. وكان لا بد لي من أجل ولوج هذه المدرسة أن ألج مدرسة الدولة للممرضات التي تتطلب مستوى الباكالوريا. - عدت إذن إلى الدراسة من جديد؟ < سجلتني رغما عني في المدرستين معا، وقدمتني إلى مساعدة اجتماعية من أجل شراء الكتب. - تخليت عن العمل وعن الأجرة؟ < ليس تماما، فقد كنت أتقاضى 7500 ريال بعد الزيادة، إذ كان أول أجر تقاضيته في مسيرتي المهنية هو 3500 ريال. وكانت تكفيني لسد مصاريف الكراء والماء والكهرباء. رغما عني اشتريت الكتب، وكانت المساعدة الاجتماعية تعمل على تأطيري من أجل اجتياز الامتحان. فكرت في حيلة للتخلص من الامتحان، فقررت أن أجتاز الامتحان الصعب حتى أرسب، وبالتالي لا يمكنني اجتياز الامتحان الآخر، إذ لم يكن لي غرض في الدراسة، وكنت أحب عملي ولم تكن لدي مشاكل. وبالفعل، اجتزت الامتحان الصعب، وفي يوم الامتحان الآخر اشتريت تذكرة وذهبت لمشاهدة فيلم في سينما لانكس. كانت مفاجأتي كبيرة عندما أخبروني بأنني نجحت في الامتحان، كانت المساعدة الاجتماعية الفرنسية هي من زف لي الخبر، غير أنني تحليت بشجاعة استثنائية وأخبرتها بأنني لن أدخل المدرسة على الرغم من ذلك. سألتني لماذا، فأجبتها بأن لدي التزامات عائلية. نظرت لي وقالت إنه ستكون لي منحة دراسة تقدر ب1800 ريال، فقلت إنها غير كافية لأداء مصاريف البيت. في هذه اللحظة تحركت خيوط التضامن، وأنا أومن بأنه إذا كنت أعطي شيئا للمجتمع في الوقت الراهن، فأنا لا أمنحنه إلا جزءا بسيطا مما منحني إياه في السابق. فقد توجهت المساعدة الاجتماعية الرئيسية إلى وزير الصحة يوسف بلعباس وأخبرته بقصتي، فبدأ يبحث لي عن منصب تابع للوزارة أستطيع أن أجني منه ما أتقاضاه من عملي مع العصبة المغربية لمحاربة داء السل. وبالفعل تمكنت من الحصول على عمل والدراسة في آن واحد. فيما بعد سيتم إغلاق مدرسة المساعدات الاجتماعيات، ولم أفهم دواعي هذا الإغلاق إلا مؤخرا عندما التقيت صدفة سنة 2007 بالمساعدة الفرنسية التي أطرتني في تلك الفترة، حيث أخبرتني بأن المغرب في سنوات 1959 و1960 لم تكن له سياسة اجتماعية، وهو ما تطلب عودتها إلى فرنسا وإغلاق المدرسة بدل تضييع الوقت. دخلت مدرسة الممرضات، ولم أتمكن من دخول مدرسة المساعدات الاجتماعيات التي أغلقت، وكنت أعتقد أن موت المديرة هو السبب الكامن وراء إغلاق المدرسة، ولم أفهم الدواعي الحقيقية للإغلاق إلا في سنة 2007.