يوسف شاب في مقتبل العمر يقيم منذ عقدين من الزمن في المركب الاجتماعي لسيدي البرنوصي، بعيدا عن والدته التي تحتل بالكاد سريرا في دار العجزة بعين الشق، وشقيقه النزيل بمركز لمحاربة الإدمان في لشبونة، وشقيقته قيل إنها مسجلة في دفاتر دار الفتاة بورززات، زكرياء يعاني من انقطاع الاتصال بينه وبين شقيقه أحمد النزيل السابق بدار الأطفال لعين الشق بعد أن «حرك» نحو إنجلترا، وشقيقته نعمة النزيلة بالمركز الاجتماعي لطيت مليل، عادل فقد والديه في حرب العراق وظل ينتظر خبرا من تحت الأنقاض وهو مطوق بجنسيته السودانية، خديجة حكمت عليها الظروف بالإقامة الجبرية في دار رعاية للذكور.. حالات عديدة جمعتها المعاناة وفرقتها الظروف. الروبورطاج التالي يرصد جانبا من محنة جمع الشمل المستحيل. كثيرة هي الحالات الإنسانية التي تبتلعها أجساد رمى بها القدر بين أسوار دور الرعاية الاجتماعية، عديدة هي القصص الدامعة التي تروي معاناة الشتات، وتحكي عن أفراد أسر لا يجتمعون تحت سقف واحد، لأن الظروف رسمت لكل منهم مسارا غير معبد في خريطة الحياة. ولد يوسف في ليلة باردة من شتاء سنة 1985 في إحدى مستشفيات الدارالبيضاء، من أم فقدت فرامل العقل وتحولت إلى نزيلة في دار العجزة لعين الشق، لم يولد يوسف وسط زغاريد الفرح، بل وجد نفسه أمام إشكالية البحث عن لقب يستكمل به اسمه المبتور، أحيل كبقية الرضع المتخلى عنهم على مؤسسة للاحسناء الخيرية المهتمة بالأطفال المتخلى عنهم، هناك دبرت الإدارة إشكالية اللقب بعد اختيار الوهابي لقبا لوافد بلا عنوان ولا عقد ازدياد باستثناء بطاقة مغادرة المستشفى التي تؤرخ لحدث صادم. بعد مقام قصير التحق به شقيقه عادل الذي شكل إلى جانبه ثنائيا عنيدا يزحف تارة ويحبو تارة أخرى بحثا عن ممر نحو الحياة، في سن الرابعة التحق يوسف وعادل وثمانية أطفال آخرين بالمركب الاجتماعي لسيدي البرنوصي، بينما استفاد آخرون من أريحية بعض المحسنين الذين تكفلوا بهم بعد أن حرموا من نعمة الشق الثاني لزينة الحياة الدنيا. توقف مسار يوسف عند عتبة الثانوية وظل يحلم بترف لاعبي كرة القدم، ويمني النفس بمستقبل كروي تبين فيما بعد أنه أشبه بالسراب، أما شقيقه عادل فكان أكثر يقظة في استغلال الفرص أمام مرمى الزمن من شقيقه، حين قرر وعمره لا يزيد عن 15 سنة الاختفاء السري في لشبونة، بعد أن شارك في معرض للتلاميذ الموهوبين في الرسم، أما الأم السعدية فلا علم لها بما حصل لأبنائها منذ أن لفظ البطن ما بداخله، فيما تاهت الأخت نحو الجنوب قبل أن تأتي أخبار بوجودها ضمن مؤسسة دار الطالبة للمدينة. لم يكتب ليوسف تحقيق مقولة خادعة تقول «إلا ما جات بالقلم تجي بالقدم»، وتبين أن القدم والقلم لم يحملا للفتى الممتلئ طموحا سوى الآلام الكاتمة للصوت، لكن حين استفاق من غفوته دخل مؤقتا عالم الشغل بحثا عن لقمة عيش تنهي مقامه بين أسوار الخيرية، اشتغل كحارس أمن خاص لأن بنيته الرياضية تسعفه، وانتقل بين بوابات فنادق مصنفة في الجنوب والوسط والشمال دون أن يجد لنفسه تصنيفا في حياة لا ترحم، بعد فترة قصيرة عاد يوسف إلى غرفته في المركب الاجتماعي وتحمل الانتقال من غرفة مكيفة إلى فضاء مختنق بالقصص الأليمة. جرعة أمل في صيف سنة 2007 شارك الفتى في ورش تطوعي بأكادير منظم من طرف جمعية الأوراش المغربية للشباب، هناك كان له موعد مع قدر جديد، بعد أن حكى قصته لفتاة فرنسية كانت ضمن الفريق المتطوع، انتشلته أوريلي من شبح الخصاص والشتات بعد أن قرأت في عينيه سطور الخوف والقلق، تحول العطف إلى عشق متبادل غير مسار تفكيره نحو الضفة الأخرى. يروي يوسف الخيوط الأولى لقصة الحب القادم من وراء البحار: «شعرت في أول يوم لي مع المتطوعين المغاربة والأجانب بانجذاب نحو فتاة فرنسية اقتربت منها فأصغت لمعاناتي وظلت تقدم لي الدعم المادي والمعنوي، قال أحد المشاركين في المخيم التطوعي إن هذه الفرنسية بلهاء لأنها ربطت علاقة مع «ولد الخيرية»، لكن هذا الموقف زادها إصرارا على السير إلى أبعد نقطة في المغامرة غير المتكافئة اجتماعيا». لم تتوقف العلاقة بمجرد انتهاء الورش الصيفي، بل كتب لها عمر جديد لأن أوريلي قررت تبني القضية الإنسانية، ونسج علاقة حب مع فتى جيبه فارغ حقا وقلبه ممتلئ بالحب والشهامة. تعني كلمة أوريلي في القاموس الأمازيغي الرفض، لكن الشابة الفرنسية لم ترفض أبدا الاستمرار في علاقة تنتصب في طريقها العديد من علامات المرور المحذرة، ساعدته على إنجاز جواز سفر ووعدته بالعودة سريعا إلى المغرب، وهو ما حصل ليتحول الحلم إلى حقيقة، «بفضلها تمكنت من زيارة مدن عديدة، رافقتها في رحلة سياسية من طنجة إلى الكويرة، بل إن أوريلي تأبطتني وسافرنا سويا إلى مصر وتونس والكونغو». لازال يوسف ينتظر إشراقة شمس يوم يحمله إلى باريس ليقتسم مع عشيقته شقتها الصغيرة التي تنسيه رطوبة جدران الخيرية. والدة يوسف توجد خارج التغطية لاعلم لها بنبض القلوب، فهي تقضي يومها الرتيب في مأوى للعجزة، يزورها ابنها بين الفينة والأخرى حين يجمع بضعة دراهم تكفيه للتنقل من البرنوصي إلى عين الشق، وحين حاول يوما أن يرافقها خارج المؤسسة تاهت وظل يبحث عنها بين جحافل المتسولات أمام المقابر والمساجد. اختار شقيقه عادل مسلكا آخر، كان موهوبا في فن الرسم والنحت، مما أهله للتفوق في مسابقة نظمها التعاون الوطني سنة 1997 قادت الفتى إلى السفر رفقة عشرة متفوقين من أبناء دور الرعاية إلى البرتغال، هناك رسم الولد لوحة أخرى للهروب من لهيب الفقر والحاجة، ففي منتصف الليل فر عادل من مقر الإقامة وتوجه نحو بيت تقطنه أسرة برتغالية شجعته على البقاء من أجل اكتشاف الحياة، في بلد أول المكتشفين. لكن القدر قاد ابن الخيرية نحو مرفأ آخر، بعد أن انخرط في عالم المخدرات وكسر فرشاة الرسم، يقول شقيقه وهو يطلق زفرات عميقة، «كان يتصل بي بشكل مستمر، لكن بعد عامين انقطع الخط، وعلمت عبر أحد أصدقائه بأنه نزيل في مركز لعلاج الإدمان بلشبونة، لقد طلب مني مدير المركب الاجتماعي التحرك في اتجاه عرض القضية على برنامج مختفون». البحث عن بوصلة الحياة أما زكرياء التائب فهو يعيش بدوره حالة من التفرقة الأسرية، والده كان نزيلا بدار الخير للعنق، وشقيقه الأكبر كان نزيلا بالجمعية الخيرية لعين الشق، قبل أن يتدبر أمر سفر سري عبر إحدى البواخر نحو ميناء في إنجلترا، أما شقيقته الصغرى نعمة فتقطن في مرقد بالمركز الاجتماعي لطيت مليل، يقول زكرياء إن خط الاتصال بوالديه قد انتهى فور ولادته، وأن شقيقه أحمد الذي «حرك» صوب إنجلترا انقطعت أخباره منذ سفره سنة 2003، أما نعمة فهي في نظره نقمة دون أن يقدم مبررا لمعاداته لها، «هذيك مكنحملهاش علاش الله واعلم ماشي ختي واقيلا» يقول زكرياء بنبرة ثائرة. انقطع الفتى عن الدراسة بعد أن استعصى على مدرسيه اختراق جدار دماغه، لينضم إلى عشيرة العاطلين، تقول الباحثة الاجتماعية ربيعة دينار وهي تشرح ل«المساء» معالم شخصية الأطفال المتخلى عنهم، «إن اندماجهم صعب فهم ثائرون وأغلبهم يجد صعوبات في المسار الدراسي، البعض يكتفي برسم الحروف دون أن يستوعب معناها». استأنس زكرياء بحياته الرتيبة داخل المركب إلى درجة التخلص مما تبقى من روابط عائلية بعد أن اختفى شقيقه في أرض الإنجليز، واختفت أخته بين نزيلات طيت مليل، وهو يسعى إلى البحث عن يد تنتشله من الهدر الدراسي. تختلف قصة ياسر عن بقية القصص في وقائعها وحبكتها المثيرة للألم، فالولد جاء إلى دار الرعاية بعد أن ضاقت به السبل، أمه مغربية ووالده سوداني الجنسية، كانت الأسرة الصغيرة تعيش حياتها البسيطة في بغداد، قبل أن يدمر الغزو الأمريكي كل شيء، عادت الأسرة إلى المغرب من أجل فترة استراحة وحين عادت الحياة إلى طبيعتها فسافر الوالدان إلى العراق أملا في إعمار أسرة دمرتها الحروب، لكن دون أن يظهر لهما أثر، أما الابن فأحيل على المركب الاجتماعي في انتظار بشرى من تحت أنقاض العراق. من الصعوبات التي يواجهها عادل كونه سوداني الجنسية، فهو مضطر للسفر بين الفينة والأخرى إلى السفارة السودانية بالرباط من أجل استخلاص وثيقة تحكي هويته. وحيدة في مؤسسة للذكور ومن الحالات الاجتماعية الأكثر تمزقا، حالة فتاة في مقتبل العمر حكم عليها الزمن بالإقامة في مؤسسة لا تأوي بين جدرانها إلا الذكور، صعب جدا على إدارة المؤسسة تدبير هذا الوضع الذي يجعل من خديجة كموني قنبلة موقوتة، لاتبالي بنظرات اليافعين التي تطاردها، وبالابتسامات الشاردة للمراهقين فهي تفكر في مصيرها المبهم بعد أن لفظها شقيقها وسددها الزمن كقذيفة طائشة. يروي سعيد بنرقية حكاية هذه الفتاة: «لقد ولدت في مصحة السجن المدني للدار البيضاء، لأن والدتها كانت تقضي عقوبة حبسية، بتهمة القتل بعد إقدامها على قتل زوجها، وبعد ثلاث سنوات فارقت الأم السجينة الحياة ليفرج عن المعتقلة الصغيرة، أحيلت على روض الأطفال بدار الرعاية الاجتماعية، بقرار مؤقت قبل أن يتحول المؤقت إلى دائم». انتقلت إلى دار الطالب لابن سليمان لأن شقيقها كان يقيم في نفس المؤسسة، لكنها لم تتمكن من السير بثبات في المسار الدراسي، غادرت الدار، لتتعهدها بالرعاية إحدى مستخدمات المؤسسة الخيرية، لكن يصعب على زينة وهبي تتبع الحالة عن قرب، وظلت تبحث لها عن أنصاف حلول، سيما وأن أبناءها دخلوا المراحل الحساسة من العمر، بل إن شقيق خديجة الذي استقبلها ببيته أقل من أسبوع سرعان ما طالبها بالرحيل وكشف لها عن صعوبة تحمل نفقات إضافية. لا تعاني خديجة فقط من تمزق نسيجها الاجتماعي، بل تعيش هواجس البحث عن هوية بعد أن تعذر عليها الحصول على نسخة من دفتر الحالة المدنية، يقول الحارس العام للمؤسسة إدريس حفضان إن إدارة السجن قد أحرقت كل أرشيفها القديم مما تعذر معه على خديجة الحصول على ما يثبت ولادتها داخل المؤسسة العقابية، وأضاف أن المحكمة طلبت إجراء لفيف عدلي وإجراءات أخرى لا زالت خديجة تتعقبها بطول نفس. ولأن خديجة قد أينعت وحان قطافها فإن رجلا عرض على المدير زواجا يخلص الفتاة من شرودها الدائم، لكن يبدو أن الزوج المحتمل كانت له شروطه أولها إخفاء القوام وارتداء النقاب، مما عطل المشروع ورمى به خلف أسوار المركب الاجتماعي. في كل مؤسسة خيرية قصص مماثلة تختلف شخوصها وأزمنتها لكنها تتوحد عند نقطة الشتات، مما يتطلب مجهودا كبيرا للم الشمل بين أسر عانت من التمزق اللاإرادي، ترى ربيعة دينار الباحثة الاجتماعية بالمركب الخيري للبرنوصي أن جمع الشمل ممكن إذا توفرت الإرادة من الجميع، لكن أحيانا يكون الخلل الذهني أو التشرد عائقا أمام المشروع، الذي سيصبح واقعا إذا رصد له المسؤولون ميزانية تكفي لتدبير بيت بسيط وتوفير شغل للقادرين من الأبناء، والرعاية الصحية والنفسية لكل الأفراد الذين عاشوا في أسر مبعثرة. تصطدم المقترحات بالعديد من الحواجز، لكن يبدو أن أبسط الحلول هو إنشاء مركبات اجتماعية للرعاية الشاملة للأطفال والشباب والفتيات والعجزة، حينها يصبح التواصل داخل المحيط الاجتماعي ممكنا. دور الرعاية التابعة للتعاون الوطني < يبلغ عدد دور الرعاية الاجتماعية التابعة للتعاون الوطني 816 مؤسسة حسب إحصاء 2007 . < كان عدد دور الرعاية لايتجاوز 401 مؤسسة حسب إحصائيات سنة 2000 قبل أن يتضاعف الرقم. < لم يتجاوز عدد النزلاء المستفيدين من خدمات دور الرعاية 37500 مستفيد سنة 2002. < ارتفع عدد المستفيدين إلى 58 ألف مستفيد من خدمات دور الرعاية سنة 2007. يبلغ عدد جمعيات المجتمع المدني التي تستفيد من دعم التعاون الوطني 106 جمعيات. < يحتل إقليمتيزنيت الرتبة الأولى وطنيا في عدد الخيريات حيث يصل عددها إلى 40 مؤسسة.