يستيقظ الكاتبُ. وقبل أن يفرك عينيه يشعل جهاز الكومبيوتر بدل سيجارته الأولى. عليه أن يطل على صيد الصباح من الرسائل الإلكترونية. كل يوم ورزقه. هذا الصباح جاءت رسالة من معجبة عربية من بلاد أستراليا، قرأت الليلة نصا له في مجلة إلكترونية، وأرادت أن تبدي امتنانا له. يمضي الكاتب ساعة في التأكد من موضوع عشرات الرسائل الفضولية التي تتسرب إلى بريده. مواطن إفريقي يعرض عليه مقاسمة ثروة جنرال نسيها صاحبها في البنك قبل أن يتوفى. رسالة من مختبر طبي يعرض وصفة جديدة لعلاج تساقط الشعر. يمر الكاتب بعد ذلك إلى تصفح عشرات المواقع الأدبية. كُتاب يملؤون الفضاءَ الافتراضي الجديد. وداعا الجد غيتنبرغ. لا ينسى الكاتب أن يعيد إرسال نفس نصِّه الأخير، وللمرة العاشرة، إلى موقع جديد. آلاف القراء الذين اطلعوا عليه في المواقع السابقة لا يكفون. يجب على الكاتب أن يستحق عالميته. تلك قناعته. ولماذا لا يكون عالميا وقد جاوز قراؤه، كما يشير عداد الصفحة الإلكترونية، عددَ قراء «مائة عام من العزلة» للعم ماركيز. ولكي يكرس الفرق، يحرص على الولوج بنفسه إلى الصفحة أكثر من مرة في اليوم. بدون أن ينسى أن يدع هناك كلمة جميلة في حق نفسه، باسم مستعار، وسيكون الأفضل أن يكون اسم فتاة، لكي يبعد الشبهة عن نفسه. لا بأس. فهو أيضا قارئ وفيٌّ لنصوصه. ثم ما المانع من أن يدعو أصدقاءه الافتراضيين وأفراد عائلته الفعليين هذه المرة إلى الاطلاع على الصفحة. شيء من الماركوتينغ لا يضر بقدرما يمكن أن ينفع. ثم إن الأمر لن يتطلب منهم أكثر من نقرة بسيطة وخفيفة على الرابط. يمضي الكاتب ما تبقى من صبحيته الافتراضية في تحيين بْلوغه الخاص. يُدخل حواره الجديد الذي خص به برنامجا إذاعيا غير مسموع وأمضى الليلة في تفريغه. تحدث فيه عن أزمة القراءة في بلده، وعن أزمة الكتابة، وعن أزمة الحداثة، وعن أزمة قصيدة النثر وعن أزمة الثقافة وعن أزمة الهوية. عليه أن يعطي بعض الحياة لصفحته الخاصة. فهي نافذته على الكون. كما يصرح بذلك. ضدا على حرب الإقصاء التي يتعرض لها اسمه كل يوم من طرف أعداء عديدين بدءا من المكتب المركزي لاتحاد كتاب جزيرة السيد نبيل لحلو إلى أصغر فرع بقرية قصية من الوطن الكبير. ثم لا ينسى أن يرسل الرابط الإلكتروني لحواره إلى عشرات الأصدقاء والقراء الافتراضيين. يحرص الكاتب الافتراضي على قراءة النصوص العالمية بلغاتها، مستعينا بمحرك الترجمة. أما حوادث الترجمة الأشبه بحوادث سير فظيعة فلا تضر، بل تخدم رغبة الكاتب في تحطيم اللغة والمعنى وفي قتل أب مفترَض لا يجمعه به إلا الخير والإحسان. يمضي الكاتب يومه في التواصل، مع قراء افتراضيين ومع مواقع افتراضية. في المساء، يشعر بعزلة. هي نفسها عزلة نصه. كم يمضي الكاتب من الوقت في التواصل. نصف يوم؟ اليوم كله؟ متى يجد الكاتب الحداثي الوقت للكتابة. خذ أيها الكاتب الافتراضي الكبير أي مؤلَّف لفقيه أو عالِم من أي قرن هجري سحيق تختاره وسيصدمك عمق التواصل الحقيقي الذي يبنيه المؤلِّف مع مصنفات مجايليه أو سابقيه. ولك أن تتأمل كيف يستطيع فقيه أو عالم، اعتدتَ أن تسميه، وفق مرجعتيك اليسارية، محافظا، أن يشيد صرحا للحوار، في لحظة لم يكن هناك لا غوغل ولا ياهو ولا مكتوب دوت كوم ولا هم يحزنون. اقرأ حواشي العلماء وشروحهم وطررهم وتعاليقهم وختماتهم. تأمل فهارسَهم وأسانيدهم، حيث تنمو شجرة المعرفة عبر مسارات مشيخة لم تكن تحتاج إلى وصفات البنك الدولي ولا إلى خدمات خبراء يقتاتون من الأزمات. التواصل الحقيقي يبدأ بين النصوص وينتهي عندها.