رحل عن عالمنا الروائي البرتغالي الشهير وصاحب نوبل للآداب خوسيه ساراماغو، بعد حياة حافلة بالكتابة الروائية والمسرحية والعمل الصحفي وبعد معاناة مع مرض سرطان الدم، وقد ترك الروائي الراحل العديد من المؤلفات وبلغت شهرته الآفاق حيث ترجمت كتبه إلى حوالي 25 لغة، كما اشتهر بدفاعه عن القضية الفلسطينية. عندما وصلني خبر رحيل صاحب جائزة نوبل للأدب لسنة 1998 البرتغالي جوزي ساراماغو (توفي يوم الجمعة الماضي)، شعرت بنوع من الحزن وبأن العالم العربي فقد مثقفا وصديقا دافع باستماتة عن قضاياه، خصوصا القضية الفلسطينية، وبأن الشعوب المستضعفة والمحبة للسلام رحل عنها صوت قوي ورنان كان وفيا لإيصال رسائلها. تذكرت لقائي به في مدينة «تورينو» وحواري معه داخل أحد فنادقها، كما تذكرت مواقفه القوية المسانِدةَ للفلسطينيين والأخرى المناهضة للاستبداد والسيطرة، التي جعلت الصهاينة يصفونه بالمعادي للسامية.. وجعلت الفاتيكان تعتبره «كافرا»، قبل أن تمنحه بعض الحكومات الغربية صفة «الكاتب المزعج»... كان الرجل، وخلافا لعدد كبير من المثقفين العرب، يتميز بالجرأة والشجاعة وبالمواقف الواضحة و غير الرمادية ولم يكن يكترث لا بالحصار الذي يمكن أن يفرضه عليه يهود أوربا ولا بالتهميش الذي قد يلاقيه من طرف بعض دور النشر الأوربية التي كانت –ومازالت- تحت سيطرة أياد صهيونية... وبقدر ما كانت رغبته في إظهار الحقيقة وقدرته على التعبير مزعجة ومقلقة للإمبرياليين والمسيطرين على العالم وعلى خيراته، كانت تجد لها صدى ووقعاً كبيرين لدى الشعوب والجماهير المحبة للحرية وللسلام... عندما جالسته وحاورته، قبل أربع سنوات في عاصمة «البييمونتي» (تورينو)، كان العالم الإسلامي حينها منتفضا وغاضبا من الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى الرسول الكريم وكان الخبر يتصدر غالبية وسائل الإعلام الأوربية والغربية، بصفة عامة. تصفَّح ساراماغو بعض الصحف الإيطالية والإسبانية ليلقي نظرة على العناوين وعلى الرسوم الكاريكاتورية التي هزت العالم الإسلامي وقال لي، قبل أن يضعها جانبا: «رسوم تافهة وإعلام غير مسؤول لا يعي ما يفعله ويعتبر هذه الرسوم حرية للرأي والتعبير.. فلو قامت وسيلة إعلام غربية بمثل هذا الفعل ضد الإسرائيليين لتحرك الصهاينة وتمت معاقبة المسؤولين... لست ضد الإسرائيليين ولا اليهود، بل ضد الاستبداد وسياسية التضليل والكيل بمكيالين»... شعرت بأن كلمات الرجل لا تعني فقط أنه متعاطف مع العالم الإسلامي ومع كل ما هو عربي وفلسطيني، بل كان يحاول من خلالها إبراز أن العالم يحتاج إلى تغيير جذري وإلى القضاء على الأنانيين والمسؤولين من أصحاب القرار، بالكشف عن حقائق تهم الشعوب وتوحد صفوفها، عوض خلق فتن في ما بينها. فالكشف عن الحقائق وصراحة جوزي ساراماغو هما ما دفعه إلى طلب اللجوء السياسي في إسبانيا والإقامة بالقرب من المغرب في «لاتزاروتي» (جزر الخالدات)، بعد أن أقامت الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية والأوربية الدنيا عليه، بسبب مؤلَّفه «الإنجيل حسب المسيح» وبسببجرأته وقدرته على التعبير وانتقاده المسيحيين، من خلال الكشف عن بعض الفصول التاريخية لهذا الدين، جعلت الفاتيكان تنتقد السويديين وتحتج عليهم لمنحهم إياه جائزة نوبل للأدب... عارض ساراماغو النظام المستبد في البرتغال، الذي صنعه أنتونيو دي أوليفييرا سالازار، كما رحب بثورة 25 أبريل 1974، التي أزالت ذلك النظام ولُقبت ب«ثورة القرنفل». استمرت رحلته النضالية ضد الاستبداد والإمبريالية الجديدة، وهذه المرة ضد إسرائيل وأمريكا بوش والقوى الغربية الأخرى، وكان يعتبر أن مواجهتها لا تتطلب حربا حقيقية وأسلحة تكنولوجية بل قلما وورقة بيضاء ومواقف ثابتة: «للتعبير عن مواقفي والكشف عن الحقائق لا أحتاج إلى حاسوب وتكنولوجيا، لكتابتها، بل كنت ومازلت أكتب مؤلفاتي وشِعري بالآلة الكاتبة القديمة»... مات ساراماغو لكن جملتَه هذه ومؤلفاتِه وشِعرَه ومواقفَه وحواراتِه ستبقى حية وخالدة في أذهان محبي السلام والعدالة والحقيقة في العالم أجمع.