في الأسبوع نفسه الذي هز فيه التسونامي الدبلوماسي، الذي خلفه الهجوم الدامي على سفينة «مافي مرمرة»، أولئك الذين يديرون دفة السلطة في إسرائيل تاركا إياهم في موقف حرج، كان زعيما دولتين، واحدة في الشرق الأقصى وواحدة في الغرب، يقدمان استقالتيهما من منصبيهما. في ألمانيا، تنحى هورست كولر من منصبه كرئيس، ليُعاقب نفسه على قوله إن نشر القوات العسكرية الألمانية في الخارج خدم المصالح الاقتصادية لبلاده. واستقال يوكيو هاتوياما، رئيس وزراء اليابان، بعد أن أخلف وعدا كان قطعه fنقل قاعدة عسكرية أمريكية قبالة جزيرة «أوكيناوا». في إسرائيل، وفي الوقت نفسه، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع إيهود باراك يتهربان من تحمل المسؤولية عن التفكير الكارثي الذي أدى إلى مداهمة أسطول الحرية، كما كانا يحاولان استخدام إيمانهما وثقتهما المزعومة في القوات الخاصة، التي أقدمت على الغارة، كوسيلة للتغطية على هذا النمط الكارثي في التفكير. نتنياهو وباراك كانا على حق عندما قالا إنه «ليست هناك حاجة إلى إجراء تحقيق». فمن الواضح أن تقييمهما المحفوف بالمخاطر للموقف كان خاطئا تماما، لأن نتنياهو كان يستعد للتوجه إلى البيت الأبيض فيما كانت قوات الكوماندوز تطلق النار على ركاب سفينة المساعدات. ولم يشارك أحد من المسؤولين السياسيين أو العسكريين في اتخاذ قرار الاستيلاء بالقوة على السفن. وبعبارة أخرى، كانت كل الحلول مطروحة ما عدا خيارين اثنين هما الاستيلاء على السفن أو وصولها إلى ميناء غزة. مجموعتان من أعضاء مجلس الوزراء -الذين هم جميعا مسؤولون عن هذه الأزمة- تقولان إنهما سمعتا لأول مرة بالحادث عبر أثير المذياع. إن تعيين لجنة تحقيق للنظر في الاستيلاء الإشكالي على السفينة «مافي مرمرة» ليس غير ضروري فحسب، بل إن إجراء تحقيق كهذا من الممكن أن يحول الاهتمام عن التداعيات الاستراتيجية بعيدة المدى للحصار على غزة ونتائجه الواقعية على الأرض. الرئيس السوري بشار الأسد لم يكن يبالغ عندما وصف «أسطول الحرية» بكونه نقطة تحول في الصراع العربي الإسرائيلي، وقد كان يعني بذلك أن الحادث جر الحكومة الإسرائيلية إلى دائرة من انعدام الأخلاق والاستخفاف بحقوق الإنسان. في هذا الصراع غير المتكافئ بين قوة احتلال وشعب محتل، لا يكفي التفوق العسكري لضمان النصر، بل إنه سرعان ما يصبح عائقا. وفي غياب عملية سلام حقيقية، تسببت ملحمة «أسطول الحرية» في فقدان الدول العربية المعتدلة، بقيادة مصر والمملكة العربية السعودية، لما بقي لديها من زخم، وأصبح الزخم كله الآن في أيدي الإسلاميين الراديكاليين بقيادة إيران. وليست هناك حاجة إلى إزعاج قاض متقاعد فقط حتى يتمكن من الحكم بأن صناع القرار في إسرائيل كان ينبغي أن يكونوا على بينة من تطورات السباق على زعامة الشرق الأوسط. ولا يمكن لأي خبير في القانون البحري أن يقول شيئا من الممكن أن يمنع الجمهور العربي من الضغط على الرئيس المصري حسني مبارك لفتح معبر رفح. نحن لسنا بحاجة إلى لجنة تحقيق لمعرفة أن الحصار الذي يمنع عبور حتى القزبر والإسمنت نحو غزة، قد حول كلا من طهران، التي تنكر الهولوكوست، وأنقرة، التي تنكر الإبادة الجماعية للأرمن، إلى حاملي مساعدات إنسانية إلى الأطفال المحرومين في غزة. وفي الوقت نفسه، فحماس الآن تضحك ملء شدقيها. فقد حول الحصار حماس، التي تقول الولاياتالمتحدة وأوربا إنها منظمة إرهابية، إلى ضحية للعدوان الإسرائيلي. ولا يحتاج الأمر إلى أن تكون خبيرا في شؤون الشرق الأوسط كي تدرك أن كل يوم تستمر فيه إسرائيل في المماطلة في إجراء محادثات سلام مع الفلسطينيين، يعزز من موقف حماس في غزة. كل ما على المرء القيام به هو أن يرى حليف إيران في الشمال وهو يفرك يديه من فرط البهجة من أجل معرفة مدى الخسارة التي يشكلها الجمود على المسار السوري. حتى أفضل أصدقاء إسرائيل في العالم يجدون صعوبة في فهم حكومة نتنياهو-باراك، ناهيك عن تبرير أفعالها. أنتوني كوردسمان، الخبير العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، وهو مركز أبحاث للسياسات الخارجية في واشنطن، كتب في مقال الأسبوع الماضي أن «عمق التزام أمريكا الأخلاقي لا يبرر أو يعذر الإجراءات التي تتخذها الحكومة الإسرائيلية والتي تجعل إسرائيل، دون داع، عبئا استراتيجيا في حين يجب عليها أن تبقى مكسبا ودعامة». كوردسمان، الذي شغل سابقا منصب مدير تقييم المخابرات في وزارة الدفاع، قال أيضا إن التزام الولاياتالمتحدة نحو إسرائيل «لا يعني أنه ينبغي على الولاياتالمتحدة تقديم الدعم إلى الحكومة الإسرائيلية عندما تفشل هذه الحكومة في متابعة عملية السلام بمصداقية مع جيرانها». وفي رأيي، بدلا من رمي تقرير آخر في الأدراج كالتقارير السابقة، قد يكون من الأفضل جعل ملحمة «أسطول الحرية» نقطة تحول في سياسة إسرائيل التي تحكم الحصار على قطاع غزة وتستمر في احتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية، لأن السير في نفس الاتجاه الذي تسير فيه إسرائيل اليوم سيوصلنا حتما إلى ما لا تحمد عقباه.