ما الذي يبقى حين يتخلى عنك الكل، وحين تصبح هذه الحياة حملا ثقيلا تنوء به كتفاك المتعبتان وترشح به نظرة منكسرة وأمل أوهن من ورق شفاف؟ ما الذي يبقى من رحلة سفر محفوفة باختبارات ومحن ويوقفها الموت أحيانا؟ أغراض وأشياء صغيرة تتحدد قيمتها فقط في شهادتها على مأساة. الأغراض شريرة وهي مرايا تتعقبنا وتطاردنا، وقد عثر عليها بعد موت المهاجرين السريين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى جزيرة لامبيدوسا الإيطالية. لم يكن ثمة في هذا السياق من محاكمة أو اتهام. تعتبر هاته الأغراض قرائن وأدلة إثبات وحضور لما يمكن أن يشبه الحياة. يبدو من البديهي القول إن أي رجل عديل لرجل آخر، لكن عندما يتكالب القدر على أرضك وأسرتك، وحينما تحوم المصائب باطراد حول حياتك ولا تجد من حل آخر غير المنفى، فإنك ترحل دون أن تلتفت خلفك لترى أطفالك وأبويك وهم من تجشمت من أجلهم عناء هذه الرحلة الطويلة والمحفوفة بالمخاطر والنهايات الغامضة. ثمة أشخاص يحملون معهم بعض التراب الملفوف في منديل أو بضع جرعات من ماء البئر، وهي وسائل لمحاربة النسيان. أن تغادر القرية وتعبر البلاد والصحراء وبلدانا أخرى والبحر والوصول في جنح ليل غير مقمر إلى السواحل الإيطالية أو الإسبانية يحدوك الأمل العظيم في أن تفلت من المراقبة وأن تذوب وسط الجموع كي تعثر على عمل وتنقذ أولئك الذين خلفتهم وراءك. ذلك هو الاختبار والمصير. هذه الرحلة تتم كل يوم ويتم تصوير هاته الأغراض كي تشهد على مأساة لا تنتهي. صور جثث الغرقى، الأحذية المطروحة على الساحل، وثيقة مقروءة بالكاد، علبة سجائر محلية الصنع، محلول مضاد لآثار البرد والجوع على الحنجرة، بعض أعقاب السجائر، رأس القذافي فوق قطعة من ورقة نقدية، القذافي الظافر وغير المبالي بمصير شعبه، فرشاة متهالكة وربما حافظة أوراق تحوي صورا للأبناء. هاته الصور التي تقدم لنا منذ سنوات لم تحدث التأثير المطلوب والمتمثل في ثني الرجال والنساء عن تجريب حظهم على الأرض الأوربية. تتغير الوجوه وتتحمل الأجساد التعب، وثمة في الأعماق الأسئلة ذاتها: لماذا كل هذا الظلم؟ لماذا كل هذا البؤس؟ هل قدرنا أن نكون ملاعين الأرض الأبديين؟ الأزمة. أية أزمة؟ أزمتهم أم أزمة أوربا؟ تعني الأزمة بالنسبة إليهم أن مصيبتهم سوف تكون أكثر فداحة وقسوة. سوف يكون العبور باهظ الثمن والشأن نفسه بالنسبة إلى العواقب. هذا كل ما في الأمر. لقد استبطنوا فكرة الموت ولم يعد بهم خوف من أي شيء، لأنهم لا يملكون ما يخشون خسارته. الأزمة حقيقة لا ريب فيها، وقد سمعوا الكثير عنها، لكنهم، شأن الملايين من الفقراء، لا يفقهون دلالتها، وبدرجة أقل عواقبها. لكن الأزمة لم تفعل سوى أن بدأت، وحين يتضاعف عدد العاطلين عن العمل، ويضطر المهاجرون الشرعيون إلى الرحيل بسبب إغلاق المصانع لأبوابها، فإن المرشحين للهجرة السرية سوف يشرعون ربما في الفهم. بيد أن ذلك لن يكون كافيا لوقف الحلم. يبدو من الصعب على الأفارقة جنوب الصحراء استيعاب مفهوم الأزمة المالية العالمية داخل متخيلهم، ذلك أنهم ولدوا وترعرعوا في غمرة الأزمة وعاشوا بالعدم وفي غياب الحد الأدنى المقيم للأود. ومهما يكن، فإن أوربا سوف تبقى، وإن خسرت المال، غنية. وهي فكرة راسخة ولن يكون في المقدور تغييرها في سياق رؤيتهم للعالم. لقد عانى بعضهم من الأزمة في أسوأ تمثيلاتها، ولم ير أبناؤه من الحياة إلا صورا ووعودا شأن الطفل الصغير في فيلم «سارق الدراجة» لفيتوريو دي سيكا. كيف يسعنا أن نخبرهم بأن أوربا سوف تكون أقل ثراء، وكيف نبين لهم أن المنفى لا يمثل حلا لمشاكلهم؟ سوف يقولون إننا لا نتحدث اللغة ذاتها وليست لنا الحاجيات والمتطلبات نفسها. لديكم الفائض عن الحاجة ولا نملك الحد الأدنى، وهو ما يمكن عدّه حوار صم وبكم. لن تأتي الحلول من الأعماق السحيقة لخيبة الأمل، وإنما بالأحرى من الإرادة الحقيقية للأوربيين الذين يستمرون في استغلال بعض الدول الإفريقية من خلال تقديم الدعم إلى أنظمة ديكتاتورية والقبول بممارسة الارتشاء وإفقار الملايين من الأفارقة الذين لا يستفيدون من ثروات بلدانهم المعدنية والبترولية. وعليه، ينبغي لأوربا أن تتحول إلى كلية أخلاقية. ينبغي لها بكل تأكيد أن تستثمر، لكن عليها في الآن نفسه أن تتحول إلى «دركي» حارس للقانون والعدالة والديمقراطية. وقد رأينا في هذا السياق ما كانت تخفيه فضيحة شركة «إلف» من ارتشاء وتقاسم للثروات وعمولات مشتطة واحتقار للمواطن الإفريقي. من بين هؤلاء المسافرين دون أمل أشخاص ينحدرون من بلد غني جدا مثل نيجيريا، وآخرون من الغابون أو الجزائر. ونحن نعرف مأساة أولئك الشابات النيجيريات اللاتي يحترفن الدعارة في ضواحي المدن الإيطالية. لكن الأدهى من ذلك يتمثل في أن نحيط علما بالعدد الهائل من مليارات الدولارات التي تجنيها هذه البلدان من بيع البترول أو الغاز الطبيعي. أين تذهب كل هذه الأموال؟ لماذا تتوفر البلدان الغنية على شعوب فقيرة؟ لماذا يخاطر بعض الشباب بحياتهم في المياه الأوربية في الوقت الذي تستطيع فيه بلدانهم أن توفر لهم العمل وما هو أكثر من ذلك؟ ينبغي أن نضع حدا لمفهوم مصلحة الدولة وأشكال المجاملة حيال أنظمة غير شعبية ومرتشية. يتعلق الأمر بقضية أخلاقية وليست اقتصادية. ولكي لا نرى أبدا على شاشات التلفزيون هؤلاء البؤساء المهانين الذين نكل بهم القدر بعد شهور من الاختبارات والمسير، فإنه ينبغي لنا العودة إلى جذر المشكل، وهذا الجذر مشترك بين الأوربيين والأفارقة. لعل من بين آثار الأزمة أنها أتاحت إعادة توزيع الأوراق، إذ إننا نعيش لحظة تاريخية. ذلك أن الهجرة على صعيد كوكبنا هي قرينة دالة على الجنون الذي رافق أقوياء العالم. وإذا تنكبنا في الوقت الراهن فعل شيء ما حيال غياب المساواة والظلم، وإذا اكتفينا بمراقبة اتساع رقعة المجاعة والإحباط، فإنه لن يكون في مقدور أوربا ولا أمريكا أن تنعما بالسلام. وسوف يكون من العبث تحصين حدودهما بالأسوار المنيعة، إذ سوف يكون ثمة دائما رجال ونساء يبذلون الغالي والنفيس ويسترخصون أرواحهم كي لا يعيشوا تحت وطأة الإهانة والجوع. يتعلق الأمل العظيم الذي تخلق عن انتخاب باراك أوباما أيضا بمهاجري العالم. قد يحدث أن يرتكب الرئيس الجديد للولايات المتحدة أخطاء وقد يخلف أشكالا من خيبة الأمل، وقد قال ذلك ونبهنا إليه. لكن إذا كان ثمة حقل ينبغي أن يهتم به ويقترح في شأنه حلولا، فسوف يكون لا محالة حقل الهجرة. تشكل الحدود المكسيكية الأمريكية فضاء للمآسي بشكل يومي، وهو يعرف أيضا أن جزءا كبيرا من العالم يعاني من الفقر والجوع ويدرك جيدا نصيب بلاده من المسؤولية عن ذلك. وإفريقيا ترى فيه أكثر من رئيس للولايات المتحدةالأمريكية، بحكم أنها تعتبره واحدا من أبنائها. ونحن نعرف أن أصولنا تلاحقنا وإن حاولنا طمس آثارها. وبداهة، فبعد ثماني سنوات من حكم الرئيس جورج بوش، فإن ما سوف يأتيه أوباما من أفعال لن يكون إلا خيرا. وهو يعرف أن الشعوب تنتظر منه الكثير في ما يهم قضايا العدالة والكرامة. لقد أدانت منظمة هيومان رايتس واتش العديد من الدول الأوربية بسبب طريقتها في التعامل مع المهاجرين. وتعتبر أمريكا بدورها هدفا لانتقادات هذه المنظمة. وعليه، تضحي الهجرة، وخصوصا غير الشرعية، علامة على مرض وألم عالم يهيمن فيه بقوة الظلم والقسوة. وبما أن أوباما استعاد حلم مارتن لوثر كينج، فإن ذلك يلزمه بأن يستشرف الحدود القصوى. ذلك أن القس الأسود العظيم لم يكن يتحدث فقط عن أشكال التمييز العنصري في أمريكا، وإنما عن الفقراء والمهانين في كل أنحاء العالم، أي ملاعين الأرض الذين كان فرانز فانون يرغب في الدفاع عنهم. ترجمة: عبد المنعم الشنتوف