في الوقت الذي كان فيه أحمد حرزني، رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ضيفا على «نادي الصحافة الوطني» بواشنطن يتغنى أمام أفراد الجالية المغربية المقيمة بأمريكا، حول دولة الحق والقانون التي تسود في بلادهم التي هاجروا منها، واصفا الحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان في المغرب بالمبالغات، خلال هذا الوقت كان أفراد بعض عائلات تلك الجالية الذين بقوا في سيدي إفني يعيشون تحت الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع والتدخلات الهمجية لرجال العنيكري من أجل فك الحصار الذي ضربه المحتجون على ميناء المدينة منذ أيام للضغط على السلطات المحلية للاستجابة لمطالبهم الاجتماعية. رغم اجتهاد أحمد حرزني في وصف المغرب من واشنطن بالدولة التي قطعت مع عهد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، فإن من يذهب إلى سيدي إفني اليوم يكتشف أن المدينة تشبه كثيرا مدينة الدارالبيضاء سنة 1981 في يومها الثاني لاندلاع انتفاضة الخبز. فالشوارع مقفرة والأزقة مقطوعة بالحجارة والحواجز الأمنية، ونوافذ المنازل أغلقت بأوامر عسكرية تحت طائلة الرمي بالرصاص. العشرات من أبناء المدينة معتقلون على ذمة التحقيق، وآخرون جرحى. المئات من المحتجين هربوا إلى الجبال للاحتماء من بطش قوات التدخل السريع والقوات المساعدة، في ما يشبه حرب عصابات مفتوحة على المجهول. أولا يجب الإشارة إلى نقطة أساسية وهي أن ما وقع في سيدي إفني خطير جدا. خصوصا بالنظر إلى توقيته، وإلى الظرفية الاقتصادية والسياسية الحساسة التي يجتازها المغرب. فأن يفضل المسؤولون الأمنيون اللجوء إلى خيار القوة لفك حصار مدني مضروب حول الميناء، عوض استنفاد الوسائل السياسية المتعارف عليها، في غياب الملك المسافر خارج تراب المملكة، يعتبر استهانة بالأمن العام. فالذين حركوا الآلة الأمنية لقمع حركة احتجاجية مدنية، وأعطوا الأوامر باقتحام بيوت السكان وترويع النساء والأطفال، وأخذ ممتلكات البعض بالقوة، لم يضعوا في حسابهم أنهم يساهمون في إهانة سكان منطقة لها رمزيتها التاريخية والسياسية والعرقية في المغرب. فسكان سيدي إفني المنحدرون من قبائل آيت باعمران يشهد لهم التاريخ بمقاومتهم الشرسة للاستعمار الإسباني. والذين يجهلون صلابة أبناء هذه القبائل المجاهدة ما عليهم سوى أن يراجعوا كتب التاريخ الإسباني التي أرخت لمعركة الجيش الإسباني الأخيرة في سيدي إفني، حيث يعترف جنرالات الجيش الإسباني بأن الحصار الذي ضربه مقاومو قبائل آيت باعمران عليهم جعلهم يشربون بولهم بسبب العطش، قبل أن يخرجوا صاغرين من المدينة. لذلك فقد كان اللجوء إلى خيار القوة والقمع لفك الحصار عن الميناء خطأ سياسيا جسيما. سيجد فيه بعض غلاة الأمازيغية ما يبرر خرافة طلبهم للحماية من الدول الأجنبية. كما يصنع الدغرني وحواريوه هذه الأيام في إسبانياوواشنطن وغيرها من الدول الأوربية. صحيح أن اللجوء إلى محاصرة الميناء الوحيد في المدينة من طرف المحتجين فيه مس بمصالح مستثمرين وشركات تعيش من خيرات شواطئ المدينة. وصحيح أن الخسارة التي كلفها الحصار يمكن أن تؤدي ببعض هذه الشركات إلى الإفلاس. ولذلك كان من اللازم استنفاد كل الحلول السلمية مع المحتجين لفك الحصار والعودة إلى طاولة الحوار. لكن محاصرة الميناء من طرف السكرتارية المحلية وتسبب الحصار في مليار سنتيم من الخسارة، لا يجب أن ينسينا أيضا الحصار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الذي تعاني منه المدينة منذ طردها لآخر جندي إسباني إلى اليوم. وهو حصار كلف السكان مئات الملايير دون أن يلمسوا رغبة حقيقية من طرف الدولة لفك الحصار عن أحفاد الباعمرانيين. على الرغم من أن الملك زار المدينة مرتين، وقدمت له مشاريع التنمية على الأوراق مرت عليها أكثر من سنتين ولازالت حبيسة الأوراق التي رسمت عليها. فبماذا يطالب الباعمرانيون حتى يستحقوا من الجنرال العنيكري وحسني بنسلميان وشكيب بنموسى أن يحاصروا مدينتهم ويطبقوا فيها قانون حظر التجول ويحولوا أزقتها إلى متاريس ويجبروا أبناءها على الاحتماء بالجبال هربا من الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع. إنهم يطالبون بإنشاء وحدتين صناعيتين بالميناء، حتى يجد أبناء المدينة فرصا لشغل يقيهم البطالة. فقد تعب الباعمرانيون من رؤية كل تلك الأطنان من السمك تغادر شواطئهم وتمضي عبر مينائهم إلى مصانع في مدن أخرى، فيما تمضي عائداتها إلى حسابات بنكية يملكها المستفيدون من بقع المناطق الصناعية التي فوتت لهم بالميناء، بينما الباعمرانيون الذين هم أولى الناس بالاستفادة من ثروات منطقتهم يتفرجون طيلة سنوات على هذه الثروات وهي تمر من تحت أنوفهم دون أن ينالهم نصيب منها. إنهم يطالبون بتوسيع الطريق الرابطة بين سيدي لإفني وطانطان، وبإتمام أشغال توسيع الميناء، الشريان الأساسي الذي يضخ الحياة في المدينة. إنهم يطالبون بتزويد المستشفى العمومي بالحقن والضمادات وخيوط العمليات الجراحية، ويطالبون بالأطباء والممرضين حتى تلد نساؤهم بسلام وحتى يعالجوا مرضاهم وجرحاهم دون الاضطرار إلى السفر نحو مستشفيات المدن المجاورة. هل هذه المطالب خطيرة إلى درجة استنفار الجيش والدرك والقوات المساعدة وقوات التدخل السريع، ومحاصرة المدينة وإجبار السكان على إغلاق نوافذهم ومعها أفواههم حتى إشعار آخر. يبدو أن الدولة لم تستفد مما وقع في صفرو عندما انتفض السكان ضد غلاء المعيشة قبل أشهر. ولذلك سنرى شباب سيدي إفني يساقون إلى المحاكم بتهم مشابهة للتهم التي حوكم بها شباب صفرو. قبل أن يمر الوقت، ما يكفي لكي تهدأ الأمور، ليصدر عفو ملكي على المتابعين أو تبرئهم المحكمة. ثم تعود الأمور إلى نقطة الصفر. فهل بمثل هذه المقاربة الأمنية والقمعية تعتقد الدولة أنها ستحل إشكالية التنمية في مدينة سيدي إفني. إذا كان بعض «أبطال» سنوات الرصاص يشعرون بالحنين إلى تلك السنوات السوداء في كل مرة يسمعون فيها صرخة احتجاج في مدينة ما من مدن هذا المغرب الصامد، إذا كان هؤلاء «الأبطال» الأشاوس يستعيضون اليوم عن هوايتهم القديمة في رمي الأحرار من سكان هذا المغرب بالرصاص المطاطي لعدم قدرتهم، بسبب الحرج من كاميرات العالم المصوبة نحوهم، على رميهم بالرصاص الحي كما كانوا يصنعون أيام الحسن الثاني، إذا كان هؤلاء الجنرالات الذين تتحرق أصابعهم للضغط على الزناد والعودة بالمغرب إلى سنواته المظلمة، تلك التي نكتشف اليوم مقابرها الجماعية والسرية، فإن جميع المكونات الحية لهذه البلاد وجميع الأحرار وجميع الهيئات الحقوقية والسياسية والمدنية التي تقاوم من أجل غد أفضل للمغاربة، يجب أن تتوحد اليوم لكي تتصدى لهؤلاء الأمنيين الرجعيين الذين لا يتقنون سوى لغة الرصاص سواء كان حديديا أو نحاسيا للاستجابة لمطالب الناس البسطاء في العيش الكريم داخل وطنهم. إنها لمأساة حقيقية أن نسمع سكان بعض المدن المفقرة التي كانت خلال سنوات الاستعمار أكثر ازدهارا ورخاء من الآن، يتمنون عودة هذا الاستعمار لأنه أرحم من بعض المسؤولين الجوعانين الذين آلت إليهم أمورهم. وإنها لمأساة كبرى أن تكون كل المدن التي تطعم ميزانية الدولة ومعها الأرصدة البنكية لبعض النافذين في السلطة، هي المدن الأكثر تعرضا للتفقير والتهميش والقمع. أليس من العار على المغرب وحكومته ألا تستفيد خريبكة ووادزم وكل المدن التي تستخرج منها ثروات الفوسفاط من عائدات هذه الثروة التي ظلت الدولة تستخرجها من أراضيها طيلة كل هذه السنوات. أليس عارا ألا تعود ثروة آسفي السمكية على المدينة وسكانها بالرخاء. والشيء نفسه نقوله عن مدن الصحراء التي لا يستفيد من سمكها ورمالها سوى المحظوظين وعائلاتهم. إن المغرب الذي نريد جميعا يوجد في غنى عن الرصاص سواء كان مطاطيا أو نحاسيا. والذين يعتقدون أنه بالرصاص والغازات المسيلة للدموع وحدها يمكن أن نحقق التنمية والانتقال الديمقراطي، إنما يلعبون بالنار. الشباب المغربي اليوم يريد الشغل والكرامة، لا تخييره بين الصدقة أو القنابل المسيلة للدموع. لقد ذرف آباء هؤلاء الشباب ما يكفي من الدموع طيلة ثلاثين سنة الماضية، ألم تكفيكم كل تلك الدموع ؟