الأستاذ محمد فتحي صحفي لامع وأديب موهوب.. ذهب مؤخرا إلى الإسكندرية في إجازة مع طفليه وزوجته وأختها الآنسة نشوى.. وقد قضوا جميعا وقتا رائعا، ثم فجأة حدثت واقعة مؤسفة: فقد صدمت سيارة مسرعة الآنسة نشوى وهي تعبر الطريق، فأصيبت بجروح وكسور شديدة وتمزقت ملابسها وفقدت وعيها. ولأنها أثناء الحادثة كانت وحدها، فقد نقلها بعض المارة إلى المستشفى الأميري بمحطة الرمل.. إلى هنا، تبدو الحكاية طبيعية: حادث سيارة أدى إلى إصابة إنسانة، فتم نقلها إلى المستشفى بغرض إسعافها، لكن ما حدث بعد ذلك أغرب من الخيال.. فقد تم إلقاء المصابة مع عشرات المصابين في مكان يحمل اسم «وحدة عواطف النجار للطوارئ». ولمدة ساعتين، ظلت نشوى بلا علاج ولا إسعاف ولم يفحصها أي طبيب. وصل محمد فتحي إلى المستشفى ووجد نشوى تكاد تحتضر، فطلب طبيبا للكشف عليها لكن أحدا لم يهتم. مع مرور الوقت ولامبالاة العاملين في المستشفى، فقد فتحي أعصابه وراح يصرخ في وجه كل من يقابلهم: عاوزين دكتور.. أرجوكم.. المريضة بتموت. لم يأت طبيب للكشف على المصابة وإنما جاء أمين شرطة ليخبر محمد فتحي بأن وقوفه بجوار نشوى ممنوع لأن هذا عنبر حريم غير مسموح للرجال بدخوله. أخذ فتحي يهددهم بأنه صحفي وسوف ينشر كل شيء عن الجرائم التي يرتكبونها في حق المرضى البؤساء.. هنا فقط ظهر طبيب شاب ليكشف على المريضة، بعد ثلاث ساعات كاملة على وصولها محطمة إلى المستشفى، ثم أعلن أنها تحتاج إلى أشعة واكتفى بذلك وتركها من جديد ملقاة في مكانها. بعد اتصالات مكثفة، أفلح محمد فتحي في الاتصال بمدير المستشفى الدكتور محمد المرادني الذي بدا منزعجا للغاية من فكرة أن يتصل به أحد بشأن المرضى، فبادر إلى سؤال فتحي متهكما: ما المطلوب مني.. سعادتك؟! أخبره فتحي بأن أخت زوجته تموت وأنها ملقاة في المستشفى التابع له بدون رعاية ولا أشعة منذ أكثر من ثلاث ساعات.. عندئذ قال الدكتور المرادني: تأخير الأشعة مسألة عادية جدا.. حتى لو كنت في مستشفى خاص ودفعت أتعاب الأطباء، ممكن الأشعة تتأخر. أراد المدير أن يذكر فتحي بأن نشوى مريضة مجانية وبالتالي لا يحق لأهلها الشكوى من أي شيء.. قال فتحي للمدير كلاما كثيرا عن الإنسانية وواجب الطبيب في رعاية المرضى. وبعد حوار طويل بين فتحي والمدير (الذي يبدو أنه يدير المستشفي عن بعد بواسطة التليفون)، أمر سيادته بإجراء الأشعة لنشوى. وهنا، حدثت مشكلة جديدة.. فقد اقترب عامل نظافة من نشوى التي ساءت حالتها تماما، وهم بنقلها على ذراعيه إلى قسم الأشعة. اعترض محمد فتحي لأن نقل المريض المصاب بكسور يحتاج إلى مسعف مدرب، وإلا فإن تحريك جسم المصاب بطريقة عشوائية قد يؤدى إلى قتله. سخر العاملون في المستشفى من فكرة فتحي وبدت لهم غريبة جدا وقالوا له: مسعفين إيه..؟! ما عندناش الكلام ده.. يا إما العامل ده ينقلها يا إما نسيبها في مطرحها.. وصاح عامل النظافة وهو يقترب من المصابة المسكينة: يا عم خليها على الله.. شيل.. شيل. وجذبها بطريقة عنيفة فدوت صرخاتها في جنبات المستشفى. أخيرا، عملت نشوى الأشعة المقطعية وخرجت لتعمل الأشعة السينية. وهنا جاء دور عامل الأشعة، وهذا الرجل (بإجماع العاملين في المستشفى) عابس ومتجهم دائما، يعامل المرضى بطريقة فظة ويتكبر عليهم، وإذا لم يعجبه المريض فإنه يعلن أن الجهاز عطلان ويمتنع عن عمل الأشعة مهما كانت حالة المريض خطيرة، بالإضافة إلى ذلك فهو ملتح يتبنى الفكر السلفي.. ظل عامل الأشعة يتلكأ في حجرته وذهب إليه فتحي أكثر من مرة يرجوه أن يحضر لإجراء الأشعة للمريضة.. وأخيرا، جاء وصاح في الموجودين: الحريم تخرج بره.. مش عاوز حريم هنا. حاولت زوجة فتحي أن تفهمه أنها أخت المريضة، لكنه أصر على خروجها وسمح ببقاء فتحي باعتباره «محرم»، ثم أمسك بذراع المريضة بعنف ولما صرخت صاح فيها غاضبا: وطي صوتك خالص.. مش عاوز صوت.. وجد محمد فتحي نفسه في موقف صعب لأنه لو تشاجر مع العامل الملتحي فسوف تضيع على نشوى فرصة الأشعة، مما يعني قتلها، فلجأ إلى حيلة ليكسب رضى العامل، فبدأ يوجه الحديث إلى المريضة مستعملا تعبيرات السلفيين «ما تنسيش تبقي تحطي الطرحة اللي نسيناها بره على شعرك.. معلهش يا أختي.. جزاك الله خيرا يا أستاذ.. إقري قرآن يا ماما.. الله المستعان يافندم.. جزاك الله خيرا.. جزاك الله خيرا». حققت الخطة هدفها، فلان العامل الملتحي ورضي عن المريضة وأجرى لها الأشعة.. بعد هذا الإهمال الذي يصل إلى حد الإجرام، كان من الطبيعي أن تموت نشوى في المستشفى الأميري، لكن الله أراد أن يمنحها عمرا جديدا فاستطاع محمد فتحي، بما يشبه المعجزة، أن ينقلها إلى مستشفي خاص حيث أجريت لها عملية عاجلة أنقذت حياتها. هذه الواقعة، التي أرسلها الأستاذ محمد فتحي إلي بكل تفاصيلها، تحمل في ثناياها الإجابة عن السؤال: من يقتل الفقراء في مصر؟! إن مسؤولية قتل المرضى الفقراء في مستشفيات الدولة تتعدى وزير الصحة إلى رئيس الجمهورية نفسه. إن مأساة مصر تبدأ من الرئيس مبارك نفسه الذي هو، بالرغم من احترامنا لشخصه ومنصبه، لم ينتخبه أحد ولا يستطيع أحد محاسبته، وبالتالي فهو لا يشعر باحتياج حقيقي إلى إرضاء المصريين ولا يعبأ كثيرا برأيهم في ما يفعله لأنه يعلم أنه قابض على السلطة بالقوة ولديه أجهزة قمع جبارة كفيلة بالتنكيل بأي شخص يسعى إلى زحزحته من منصبه.. هذا الرئيس الذي يعلو على المحاسبة، المحصن ضد التغيير، يختار وزراءه ويقيلهم لأسباب لا يجد نفسه مضطرا إلى شرحها للرأي العام وبالتالي يصبح هؤلاء الوزراء مسؤولين أمامه فقط وليس أمام المصريين، فيصير كل همهم إرضاء الرئيس ولا يعبؤون إطلاقا بما يحدث للناس نتيجة سياساتهم.. ولعلنا نذكر ما فعله وزير الصحة حاتم الجبلي، المسؤول عن قتل مئات المرضى في مستشفياته البائسة، عندما ترك كل شيء وظل على مدى أسابيع جالسا بجوار الرئيس أثناء علاجه في ألمانيا. إن صحة سيادة الرئيس عند وزير الصحة أهم ألف مرة من حياة المرضى الفقراء لأن الرئيس وحده هو الذي يملك إقالته في أية لحظة.. في ظل هذا الانفصال الكامل بين السلطة والناس، يظهر نموذج يتكرر في الحكومة المصرية: مدير المستشفى الذي توصل إلى إرضاء رؤسائه بطريقة ما، مما جعله محصنا بدوره ضد المحاسبة وهو لا يكلف نفسه حتى بالذهاب إلى المستشفى وإنما يديره تليفونيا كما أنه يتعامل مع المرضى الفقراء باعتبارهم كائنات مزعجة يشكلون عبئا عليه وعلى المجتمع، ثم يأتي التشوه الأخير في سلوك عامل الأشعة، الذي هو فقير وبائس ومحبط تماما مثل المرضى، لكن إحساسه بالتعاسة يتحول إلى سلوك عدواني ضد المرضى، فيستمتع بالتحكم فيهم وإذلالهم، وهو إلى ذلك يفهم الدين باعتباره مظاهر وملابس وعبادات بعيدا عن القيم الإنسانية مثل الأمانة والرحمة التي هي أهم ما في الدين.. هذه الدائرة الجهنمية، التي تبدأ بالاستبداد وتؤدي إلى الإهمال والفساد، تتكرر كل يوم في مصر وتنتهي بقتل المزيد من الفقراء.. الذي حدث في المستشفى الأميري هو ذاته ما حدث في عشرات العمارات التي انهارت على رؤوس سكانها والعبارات الغارقة والقطارات المحترقة.. من المحزن أن عدد ضحايا الفساد والإهمال في مصر يفوق عدد شهداء مصر في حروبها جميعا.. أي أن النظام المصري قد قتل من المصريين أكثر من الذين قتلتهم إسرائيل.. إن إيقاف هذه الجرائم البشعة التي ترتكب كل يوم ضد الفقراء لن يتحقق أبدا بنقل مدير أو عقاب عامل.. عندما يكون الرئيس ووزراؤه منتخبين وقابلين للمحاسبة والعزل بواسطة الشعب، عندئذ فقط سيحرصون على حياة المصريين وصحتهم وكرامتهم. الديمقراطية هي الحل.