خمس عشرة سنة قبل وفاته في 1910، كتب ليو تولستوي رواية قصيرة تحمل عنوان «حاجي مراد» استوحى فيها تجربة إقامته في القوقاز كموظف حكومي في منتصف القرن التاسع عشر، حيث عاين عن كثب، وباندهاش، بسالة مقاومة المقاتلين الشيشانيين، بزعامة الأمير (شامل)، لشراسة الاحتلال الروسي، متأملا أهمية تأثير العامل الروحي في نهج رجال المقاومة أسلوبَ حرب لا هوادة فيها دفاعا عن هويتهم الدينية. لقد أثارت الرواية إبان صدورها، بُعيد وفاة الكاتب، استغراب النقاد الروس الذين لم يفهموا لماذا انتظر تولستوي كل هذه السنين (نصف قرن تقريبا) قبل أن يُقدمَ على إنجاز ملحمته الجميلة التي تعبر عن تعاطف واضح من المقاتلين المسلمين الذين شبههم، في مستهلها وخاتمتها، بنبات الأرقِطيون «الذي يدافع عن نفسه بقوة، ويصعب اجتثاثه إلا بعناء». قراءتان قبل نيف وثلاثين سنة قرأت رواية «أنّا كارنينا» في صيغتها الكاملة: في ذلك الوقت لم تثر انتباهي، إلا لماما، الأصداء التي عكستها مصائر بعض الشخصيات، في نهاية الرواية، عن حرب محتملة الوقوع بين روسيا وتركيا بسبب قمع هذه الأخيرة انتفاضة للصرب في البلقان. كنت أدرك إذ ذاك أن الصرب هم إحدى القوميات التي تشكل فيدريالية يوغوسلافيا، وأن الإشارة إلى أوضاعهم الماضية تحت الحكم التركي في رواية «أنّا كارنينا» لم تكن، بالنسبة لي، سوى تذكير بتاريخ غابر، واستعمار تلاشى ولم يعد له وجود. كنت، دون أن أدري، أقرأ ماضيا روائيا على ضوء واقع ماثل. لكن عودة الصرب لاحتلال المشهد الإعلامي مجددا بعد انفراط عقد فيدرالية يوغوسلافيا في أوائل التسعينات، وقيام دولة صربيا، وضلوع صرب البوسنة، إبان الحرب الأهلية، في عملية «التطهير العرقي» ضد المسلمين البوسنيين، واشتداد المعارك في إقليم كوسوفو بين الاستقلاليين الألبان والجيش الصربي، وأخيرا إعلان استقلال كوسوفو بدعم من أمريكا والاتحاد الأوروبي ومعارضة روسيا... كل ذلك جعلني، أثناء قراءتي الأخيرة ل «أنّا كارنينا»، أنظر إلى نهاية الرواية نظرةً مُحيّنة، تتغيا استجلاء ملابسات الحاضر القريب، وكذا مواقف الكاتب، كما انعكست في مجرى نص أدبي ينتمي إلى الربع الثالث من القرن التاسع عشر. هناك روايات تجعل من التاريخ موضوعا لها، فتستلهم وقائعه، وتجعل من شخصياته الحقيقية كائنات متخيلة بامتياز. لكن هناك روايات أخرى يقتحمها التاريخ عنوة، ودون استئذان، مؤثرا بصورة واضحة في مجازاتها أو بعض تحولاتها السردية. لقد سمعت الكاتب الإسباني (خوان غويتيصولو) يتحدث ذات يوم عن ظروف كتابته رواية «الأربعينية» (1991)، وكيف وجد نفسه منساقا، إثر هجوم الدول المتحالفة على بغداد إبان حرب الخليج الأولى، إلى إدراج مشاهد القصف والتدمير الناتجة عن ذلك كمجازات مكوّنة لتخييل الجحيم الأخروي في صورته المعاصرة. تاريخ يقتحم الرواية المؤكد أن تولستوي، أثناء كتابته رواية «أنّا كارنينا» فيما بين 1871 و 1875، لم يكن يتوقع أن تفرض نفسَها عليه، بكل حدة، وقائع قيام الصرب بانتفاضة ضد الأتراك، واستعدادات روسيا لخوض حرب دفاعا عن إخوانها السلافيين. إذ كان منشغلا بالكتابة، كأي روائي، حسب مخطط وضعه سلفاً ينتهي مَتْنه السردي بانتحار بطلة الرواية (أنّا) عندما فاجأت الانتفاضة الصربية الجميع، فتحولت أنظار الرأي العام الروسي نحو البلقان، وتعالت الأصوات عبر الصحف المحلية تلتمس من القيصر (ألكسندر الثاني) التخلي عن تردده والتدخل بصرامة لحماية الملة الأرثودوكسية من بطش «الكفار المسلمين». هكذا وجد الكاتب الروسي نفسه، في نوفمبر 1876، مضطرا لمغادرة ضيعته والسفر إلى موسكو على عجل قصد تسجيل انطباعاته مباشرة عن الأجواء والاستعدادات الجارية تحسبا لحرب محتملة الوقوع. كان، في أعماقه، يشعر بحزن شديد إزاء ما سيقع، ولم يكن يشاطر الناس حماسهم واندفاعهم، ملاحظا أن المسيحي الحقيقي مطالب بتجنب كل عمل «بهيمي، بالغ الفظاعة» يؤدي إلى تدمير الإنسان فيه، وفي خصمه «حتى وإن كان مسلما». لقد سجل تولستوي، في «يومياته»، ما يلي: «يذهبون لتخليص الصرب من البطش والتسلط. حسنا، ألم يسمعوا قسسهم وهم يردون تقاعس أولئك عن قتال الأتراك إلى ثخانتهم وكثرة شحومهم؟. هكذا يخرج الفلاحون الروس، النحاف، العراة، ليدافعوا عن الصرب السِّمان. ومن أجل هؤلاء، سيتم انتزاع آخر كوبك من الروس الجياع بدعوى التضامن والإيمان». صورة كاريكاتورية، لكنها تكشف، ولا ريب، فداحة شعور الكاتب بالكارثة التي يجري الإعداد لها. قرين الكاتب لاحظ (ل. دومهر L.Domehr)، كاتب إحدى مقدمات «أنّا كارنينا» في طبعة (لا بلياد)، أن خاتمة الرواية «دالة دلالة واضحة على آراء تولستوي الاجتماعية والسياسية» وأنها تتضمن «بصراحة لاذعة» ما كان الكاتب يفكر فيه بخصوص «الجنون الصربي» وتعاطف الروس الأخرق. إن هذا التحليل يطابق في مداه ما تفطن إليه (فيودور دوستويفسكي)، المعروف بميولاته السلافية المتطرفة، من أن (ليفين)، وهو إحدى أبرز شخصيات الرواية المذكورة، كان يعبّر عن موقف تولستوي الحقيقي من حرب البلقان، وكذا ما لاحظه الشاعر الروسي (فيت Fet) من أن الشخصية نفسها لا تعدو أن تكون «قناع تولستوي، الإنسان لا الشاعر». والمعروف أن (دوستويفسكي) عبّر، في كتابه «يوميات كاتب»، عن غضب لا حد له مما اعتبره انحرافا مبدعا، في قامة تولستوي، «عن إجماع الأمة الروسية في مسألة حيوية ومقدسة كمناصرة الصرب» . ينتهي القسم السابع من رواية «أنّا كارنينا» بانتحار (أنّا) رميا بنفسها تحت عجلات قطار، بينما يبدأ القسم الثامن والأخير بعد مرور بضعة شهور على الحادث الأليم. إن منطلق هذا القسم يؤشر إلى تغير السجل السردي للرواية واقتحام التاريخ لمتنها: فنحن نشاهد هنا الكاتب (سيرجي إيفانوفيتش)، أخا (ليفين) غير الشقيق، وهو يتطلع بقلق إلى تسجيل الأصداء المحتملة التي سيخلفها، في الأوساط الثقافية، صدور كتاب له عن «أسس أنظمة الحكم في كل من روسيا وأوروبا». سيكون الحصاد زهيدا بصورة مؤسفة، والسبب ما أخذ الناس ينشغلون به من حوادث البلقان. لقد كان (سيرجي) يتعاطف بقوة مع الصرب، ويعتبر الولاء القومي إزاءهم واجبا وطنيا، غير أن ذلك لم يحل بينه وبين اختيار السفر إلى مزرعة أخيه (ليفين) للإنصات إلى مواقف هذا الأخير ومناقشتها. سيرى (سيرجي)، عند توقف روتيني في إحدى محطات القطار، أفواج المتطوعين الروس وهم يتدافعون إلى العربات التي تُقِلهم إلى الجبهة التركية، كما سيسمع أنباء عن الهزائم التي ألحقها الروس بالأتراك، فضلا عن نبأ تطوع الكونت (أليكسيس فرونسكي)، عشيق (أنّا)، للقتال إلى جانب الصرب فرارا من فوضى أحاسيسه. صيغتان في الصورة المقابلة لهذه الاهتمامات الظرفية، يقف (ليفين) الذي تشغله مسائل الوجود ومنطق الفعل الإنساني: إن سعادته الزوجية، وعمله الدائب إلى جانب فلاحي ضيعته مرشدا و معينا، يشكلان منطلقا له للبحث عن فلسفة تتجاوز الفعل والسعادة وتستوعبهما في آن: فلسفة تَعتبر إلهامَ الخير لدى البشر، «مسيحيين كانوا أو مسلمين»، دليلا على وجود إنسانية كونية. هكذا، ولدى لقائه بأخيه الذي سيخبره بما شاهده في محطة القطار من حماس المتطوعين لقتال الصرب، يعبّر (ليفين) عن استغرابه من هذا الهياج العاطفي، قبل أن يلاحظ أن الشعب الروسي لا يدرك في العمق حقيقة ما يحدث، وأن جهله وأميته لا يسمحان له بتقدير الوضع تقديرا سديدا. إن الأمر، في اعتقاده، لا يتعلق فقط بدفع ملايين الناس للتضحية بأنفسهم عبثا، وإنما يتعلق بقتل آخرين، أي إنجاز فعل القتل الذي هو النقيض الصارخ لإلهام الخير: «فكيف يمكن قبول ادعاء حفنة من الناس، عبر الصحافة، حق تمثيل إرادة أمة، مع أن هذه الإرادة ليست في الحقيقة سوى إرادة الانتقام والقتل». هناك صيغة أخرى، لم تُنشر، للقسم الثامن من الرواية تتبنّى سردا يتصف بقدر أكبر من النقد والسخرية. هكذا يشير الراوي إلى أن اهتمام مجتمع موسكو بالمسألة الصربية لا يعدو أن يكون دُرجةً عابرة لملء فراغ أمسيات الشتاء. لقد أصبحت حفلات الرقص والموسيقى والمحاضرات والمآدب تنظم من أجل الإخوة السلافيين، كما أن الكتب غدت تُنشر لكي يكون ريعها لهم. هناك مستفيدون عديدون من هذا الوضع: أصحاب الصحف الذين يتمكنون من بيع أكبر عدد من مطبوعاتهم، ثم جنرالات الجيش المتقاعدون، ثم المحررون الصحفيون الذين فقدوا مناصبهم، فالوزراء الذين بدون حقائب، وأخيرا زعماء الأحزاب الذين أصبحوا بدون أنصار. يتعلق الأمر بكرة ثلج يزداد حجمها ضخامة بفعل التدحرج المتواصل: «... هكذا يغدو تعميم الكذب وحجب الحقائق عملا سياسيا يرمي إلى إثارة الناس، كما أن تكرار نفس الكلمات ووجهات النظر التي تحول دون التعبير عن رأي مخالف أصبح مكسبا اجتماعيا جديدا يعني خلق رأي عام وحيد ومدجّن». وراء هذه المشاهد يثوي تاريخ معقد ونقاش فكري شغل المثقفين الروس حقبة من الزمن. فإثر تأييد بريطانيا لتركيا في رفضها سعي روسيا إلى الحصول على صفة الدولة الحامية للمسيحيين الأرثودوكس، دخلت القوات الروسية إلى إمارات الدانوب فأعلنت تركيا الحرب على روسيا. هكذا حدث إنزالٌ بريطاني فرنسي في جزيرة القرم، وإثر سقوط (سباستوبول)، بعد حصار طويل، تم توقيع معاهدة باريس 1856 التي قضت بانسحاب روسيا من دلتا الدانوب، وتحييد البحر الأسود، وفرض حماية أوروبية على مسيحيي تركيا بضمان من الإمبراطورية العثمانية. لقد شجعت هذه التقلبات زعماء القوميات السلافية الواقعة، منذ القرن الخامس عشر الميلادي، تحت الحكم التركي على إعلان تمردهم، وهو ما دفع الأتراك إلى شن حملة تأديبية بالغة الشراسة فأعلنت روسيا الحرب على الإمبراطورية العثمانية، بعد اتفاق مع دولة النمسا يقضي بضرورة العمل سوية على تحرير شعوب البلقان المسيحية. لقد واكب هذه التحولات العنيفة بروز حلقات جدل ثقافي ذي خلفيات سياسية انطلاقا من موسكو. هكذا أكد طائفة من المثقفين الروس على دور روسيا باعتباره مهمة كونية، في حين دعت طائفة أخرى إلى احتذاء سياسة تحررية على النموذج الغربي. لقد كان أنصار الاتجاه الأول، وهم في أغلبهم من دعاة الوحدة السلافية الكبرى، يعتمدون في تحليلهم على وهم قرب انهيار أوروبا كقوة روحية وضرورة قيام روسيا بدورها الخلقي إزاءها، في حين كان مشايعو الاتجاه الثاني يرون حتمية إدخال إصلاحات على النظامين السياسي والاقتصادي الروسي وتحجيم دور الكنيسة في الحياة العامة. الرقابة ومصاعب النشر عقب عودة تولستوي من موسكو، شرع في كتابة القسم الأخير من رواية «أنّا كارنينا» التي كانت فصولها تنشر تباعا على صفحات جريدة «الرسول الروسي» (Le Messager Russe) التي كان يديرها (كاتكوف). لقد كان هذا القسم أشبه بتعليق على الأوضاع في روسيا إبان أزمة البلقان: كانت الصحف، بدون استثناء، تعمد إلى إيقاظ حماس الناس إلى الحرب، وهكذا التحق العديد من القراء بفيالق المتطوعين، كما بادرت النساء إلى تنظيم حملات لجمع التبرعات من أجل أهالي صربيا والجبل الأسود. كان بعض الضباط يعتقدون أن الحرب ضد الأتراك لن تكون سوى نزهة في «أرض الكفار»، لكن تولستوي لم يتردد في التعبير عن قناعاته حيال هذه الأوضاع معتبرا سلوك المتطوعين للقتال «ضالا» وأن «مصلحة أي مجتمع نابعة في العمق من السنن الأخلاقي المنغرس في كل قلب بشري» وأنه «ليس من حق أحد أن يرغب في الحرب أو يدافع عنها مهما كان هدفها نبيلا». تلقى (كاتكوف) نص القسم الأخير من رواية «أنّا كارنينا» في أوائل أبريل 1877 فقرأه مغضبا، ثم لم يلبث أن أعاده إلى تولستوي مصحوبا بكلمة يقترح فيها عليه تلطيف مواقف (ليفين) من الحرب لأسباب تتعلق بالرقابة التي وقع تشديدها بهذه المناسبة. غير أن الكاتب، بعد إعمال النظر، قرر الإبقاء على القسم الأخير كما هو دون تغيير، وذلك ما حدا ب (كاتكوف) إلى رفض نشره على صفحات جريدته، مقترحا على تولستوي نشره في كراس مستقل. هكذا صدر أحد أعداد شهر يونيو 1877 من صحيفة «الرسول الروسي» خاليا من الفصل المذكور، و مذيلا فقط بملاحظة من وضع هيأة التحرير تلخص، في بضع جمل، نهاية «أنّا كارنينا»، مبرزة ذهاب الكونت (أليكسيس فرونسكي) للقتال كمتطوع إلى جانب الصرب. موقف فردي في إحدى محاضراته، اعتبر (فلادمير نابوكوف) القسم الأخير من الرواية أكثر ارتباطا بآراء تولستوي الخاصة في وتيرة تسارع أحداث البلقان منه بمنطق السرد. مع ذلك يبدو من الصعب الاستنتاج، انطلاقا مما سبق، أن الكاتب الروسي كان يقف موقفا معاديا للصرب، وأنه كان يستلطف أعداءهم في مقابل ذلك. فطبيعة مقاربته للوضع لم تكن سياسية، بل يغلب عليها نزوع إلى المهادنة والسلم ناتج عن شعوره بأن الشعب الروسي، في فقره ولامبالاته، لم يكن باستطاعته التورط في حرب ضروس، وقودها الدين والقومية. لكن ذلك النزوع لا يخلو، مع ذلك، من ميل إلى موقف فردي مستقل ومعاكس للتيار، وهو الموقف الذي عبّر عنه في إحدى رسائله إلى عمته (ألكساندرا) حيث تحدث عن «السعادة التي أشعر بها لكوني لا أنتمي إلى أي من الفريقين» (5/6/1878). موقف فردي لكنه ليس ظرفيا، بل تعود جذوره إلى أزمة الهوية الدينية التي شكلت هاجسا قديما من هواجس الكاتب، وإن كانت الأزمة قد ازدادت حدة في بداية سبعينات القرن التاسع عشر حينما قرر البحث عن طريق خاص به نحو مسيحية أقل ارتباطا بالمعجزات والأساطير والبهرجة الكنسية، واكثر التحاما بمعيش الفقراء والمستضعفين بصفة عامة. لقاء مع أسرى أتراك في إحدى المعارك الحدودية تم أسر مجموعة من الجنود الأتراك، فنقلوا إلى ضواحي مدينة (تولا) التي لم تكن بعيدة عن ضيعة تولستوي ومقر سكناه في (يسنايا- بوليانا). اصطحب الكاتب الروسي ثلة من أبنائه وذهب إلى هناك، يحذوه فضول عارم للتعرف على الأسرى المسلمين عن كثب. دخلوا إلى ساحة مصنع مهجور لتكرير السكر، تحول بالمناسبة إلى معتقل، فأبصروا رجالا طوال القامات، حسان القسمات، على رؤوسهم طرابيش حمراء صغيرة، وعلى وجوههم علامات إباء حزين ذكّرت الكاتب بوجوه أسرى شيشانيين رآهم في القوقاز قبل ربع قرن. سمع تولستوي بعضهم يتحدث الروسية فتقدم منهم، وجاذبهم أطراف الحديث، ثم أعطاهم سجائر ونقودا، قبل أن يستفسرهم عن أحوالهم. لقد دهش الكاتب عندما علم أن كل واحد منهم كان يحمل، في جرابه، نسخة من المصحف الكريم وأنهم كانوا، رغم ظروف الأسر، يؤدون الصلاة في أوقاتها. لدى مغادرة المعتقل، قال تولستوي لأبنائه وهو منشرح: «هل رأيتم؟ إنهم قوم رائعون، مهذبون ولطفاء». استنكر الأبناء رأي أبيهم في أولئك الأسرى: كانوا يسمعون من حولهم دوما أن الأتراك هم ألد أعداء المسيحيين الأرثودوكس وأشد الناس فتكا بهم. كان (ميخائيل)، في ذلك الوقت، أصغر أبناء الكاتب فلم يدرك مغزى رد فعل إخوته اليافعين تجاه استلطاف أبيهم للأسرى الأتراك. ويروي أحد كتاب سيرة تولستوي أن (ميخائيل)، عندما غادر روسيا بصفة نهائية في أوائل عشرينات القرن الماضي، بعد نجاح الثورة البلشفية، حل بفرنسا في بادئ الأمر، ثم لم يلبث أن جاء للاستقرار بالمغرب سنة 1935 حيث أقام تسع سنوات قبل أن يقضي نحبه بالرباط سنة 1944 وقد ذرف على الثمانين. فهل كان (ميخائيل)، حين قرر الاستقرار في بلد مسلم والموت فيه، يردد، دون أن يدري، أصداء غامضة من مشاعر أبيه حيال الإسلام والمسلمين؟ ربما.