ليست هناك منظومة دينية أو بشرية لا تستند إلى «مطلق»؛ فهو الذي يحفظ لها تماسكها الداخلي ويحميها من التيه المعرفي ويمنح معنى لأجزائها المختلفة المكوِّنة لنسق المنظومة. وحتى إن ادعى البعض تمرده على «المطلقات» و«الثوابت النهائية» إلا أنه في النهاية يعتمد بشكل مضمر على مجموعة من الأفكار والتصورات باعتبارها محدداتٍ رئيسةً للاتجاه العام الذي يحدّد رؤاه ومواقفه. وحتى الذين يقولون: إن المطلق/ الثابت الوحيد هو أن كلَّ شيء متغير؛ عندما تفكك شفرة خطابهم تجدهم أسارى «ثابت» أو «مطلق» معين. فالمقولة السابقة ليست مقولة «تقنية» وليست «آلية» إنما هي «مقولة فلسفية» و«مطلق» ينبني عليها الكثير من الاختيارات والنتائج. وبما أن «المطلق» يتسم بقدر عال من الثبات، فإنه يتحول في منظور من ينطلق منه، إلى «مقدس» لا يجوز التمرد عليه أو نقده أو مسه بسوء؛ لأن ذلك يقود حتما إلى انهيار «البناء» كله. وكما أننا نتحدث عن «مطلق إسلامي» يمكن أن نتحدث أيضا عن «مطلق مسيحي» وعن «مطلق يهودي» وعن «مطلق علماني» و«مطلق حداثي»... ولمَّا كانت علاقة الإنسان ب «مطلقه» علاقة «مصيرية»، لأن هويته إنما تتحدد بالأساس بوجود هذا «المطلق»؛ سواء كان مطلقا ظاهرا مرتبطا بمقدس متعال على الواقع ومفارق له، كما هو الشأن بالنسبة للأديان السماوية، أو كان مطلقا «متواريا» متعلقا بمقدس أرضي كما هو حال الأنساق الأرضية، بما أن الأمر كذلك، فإن احتمال الالتقاء بين أصحاب هذه المطلقات يبقى احتمالا ضعيفا، لأن الاختلاف يشتد عندما تكون «المطلقات النهائية» مختلفة أشد الاختلاف؛ ولربّما قاد هذا الأمر إلى تغليب «خطاب القوة» على «قوة الخطاب» لحسم الكثير من المشاكل التي تعترض سبيل هؤلاء! من هذا المنطلق، وبما أن الإسلام أساسه إلحاق الرحمة بالعالمين، ومنح معنى لحياة البشر، وإدخال السعادة والطمأنينة إلى قلوبهم، فإنه عمل على تنظيم الاختلاف على مستوى المطلقات، بل إنه قعّد مجموعة من «المقدمات النفسية والمعرفية» لتكون بمثابة المنطلق ل«قبول الآخر» و«الإقبال عليه» و«التعايش معه». ولعل أبرز هذه المقدمات ما يمكن الاصطلاح عليه ب«النسبية الإسلامية». صحيح أن المسلمين، كما ينص على ذلك الوحي، يعتقدون أن ما لديهم هو «الحق» وأن ما لدى غيرهم هو «الباطل»، وبأن لديهم «مطلقات» لا يجوز مسها بسوء اجتهادي أو معرفي؛ لكن عندما يلتقي المسلمون بفئة أخرى لها نفس الإيمان الذي لدى المؤمنين، ينبغي أن يتحول «المطلق» إلى «نسبي» حتى يسهل إيجاد قاعدة مشتركة من التعاون والتعايش والالتقاء. فلا يمكن أن أُقبِل على الآخر وأَقبَله إلا إذا كسّرت الحاجز النفسي والعائق المعرفي الذي يحول دون حدوث الإقبال/ القَبول. وهناك آيتان كريمتان تشيران إلى أهمية كسر ذلك العائق/الحاجز عن طريق ترسيخ «النسبية الإسلامية». تتمثل الآية الأولى في قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24]. والآية الثانية من نفس السورة هي قوله عز وجل: (قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [سبأ: 25]. تشير «إِنَّا» في الآية الأولى إلى «الأنا المسلمة» و«إياكم» إلى «الآخر غير المسلم». ومفهوم الآية أيضا أن «الأنا» التقت ب «الآخر» فكان هذا الحوار الذي هو جزء من خطاب «الأنا». ومنطوق الآية يشير إلى الالتقاء المادي بين «الأنا» و»الآخر»، وحدوث حوار بين الطرفين. لكن مفهوم الآية يشمل كل أنواع «الالتقاءات» بين «الأنا» و»الآخر» وإن لم يكن هذا الالتقاء ماديا متعينا. فدلالة الآية منفتحة على دلالات أخرى؛ فليس من الضروري أن يكون الخطاب من «الأنا» فقط عند الالتقاء المباشر مع «الآخر»، إنما أيضا عندما يصاغ خطابٌ ما أو مشروعٌ ما في واقع يشهد تعددا في «المطلقات»، فلكي يحصل إقبال وقَبول متبادلان لابد من كسر الحاجز النفسي المتمثل في الاستعلاء الشعوري النفسي، ومن كسر الحاجز المعرفي المتمثل في الاستعلاء المعرفي نتيجة حصول اليقين بامتلاك الحقيقة. فرغم أن المسلم (أو «الأنا الإسلامية الجمعية») يعتقد أنه على هدى وبأن الآخر في ضلال مبين، إلا أنه أثناء التفكير في التعايش مع الآخر، باعتباره واقعا موضوعيا، ينسب لنفسه احتمالا من 50 % من «الضلال» بل من «الضلال المبين»، وينسب ل «الآخر» احتمالا من 50 % من «الهدى». وهذه مسألة غاية في الأهمية؛ لأن الكثير من الخلافات الفكرية تزول أو تقل انعكاساتها السلبية إذا ما كانت النفوس متقاربة ومتآلفة. وهذا لا يعني أن الهدى والضلال يتعددان وفق الخطاب القرآني! فكل منظومة من حقها أن تُحدّد «الهدى» من «الضلال»، لكن أثناء «الالتقاء الشامل» لا بد من قدر من «النسبية» حتى يحصل «الإقبال» و«القَبول «المتبادلان». في الآية الثانية نجد تمثّلا لمفهوم «النسبية الإسلامية» عندما تلتقي «المطلقات المختلفة»، بشكل رائع جدا يحطم الحاجز النفسي بين الطرفين. فلو لم تكن هذه «النسبية» أساسية في ردم الهوة النفسية بين «الأنا» و«الآخر» لاقتضى السياق ألا ينسب فعل الإجرام «أجرمنا» ل«الأنا المسلمة» ولا أن ينسب فعل العمل «تعملون» ل«الآخر غير المسلم»! وفي هذه الآية أدب كبير مع «الآخر» كفيل بجعل «الإقبال» و«القبول» متبادلين بين الطرفين. لم يقتصر الخطابُ القرآني في الدعوة إلى «الكلمة السواء» على الأسلوب المعرفي والفكري فقط، بل عمل على كسر الحواجز النفسية التي من شأنها الحيلولة دون التعايش بين بني آدم وإن اختلفت منطلقاتُهم ومطلقاتُهم. [email protected]