في ما يخص التدبير الحكومي لموضوع الهجرة المغربية، يبدو واضحا أن هامش الصلاحيات التي تتمتع بها الحكومة المغربية ضئيل جدا بالمقارنة مع صلاحيات مؤسسات الدولة المكلفة بهذا الموضوع كمؤسسة الحسن الثاني، مؤسسة محمد الخامس، إلى جانب وزارتي الداخلية والخارجية. كما أن موضوع المهاجرين المغاربة كان ولا يزال موضوعا أمنيا توليه الدولة اهتماما خاصا، وتأتي كل المبادرات الملكية للتجاوب مع نبض الجالية وتحقيق المصالحة مع نخبتها التي كانت في طليعة المواجهة خلال سنوات الرصاص. المبادرات الملكية تراوحت من جانب بين رفع مستوى الاهتمام بالجالية وتحسين بعض الخدمات وتشجيع استثماراتها وتحويلاتها للعملة، ومن جانب آخر فتح باب مساهمتها في مشروع الإصلاحات الديمقراطية والتنموية. وتميزت مبادرات الملك محمد السادس بمحاولة توسيع دائرة المشاركة السياسية للمهاجرين، ونهج مقاربة تنعتها الخطابات الملكية ب«التشاورية الإدماجية، القائمة على المشاركة الفعلية، لمختلف المعنيين في اقتراح الحلول الأنسب لها»، خطاب الملك محمد السادس بتاريخ 6 نوفمبر 2006. هذه المقاربة الجديدة للدولة في علاقتها مع الهجرة غيبت أو قلصت من دور الحكومة وبالخصوص وزارة الهجرة في تصريف هذا الملف، واقتصر دور الحكومة على تصريف بعض الخدمات ومتابعة بعض المشاكل المتعلقة بالأفراد، دون الاضطلاع برسم السياسات ولا حتى المشاركة في إنجازها. هذا ما لاحظناه بعد تكليف الملك محمد السادس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بمهمة التهييء لإنشاء مجلس أعلى للجالية، وكذلك حين تعلق الأمر بالحقوق السياسية وبمشاركة هؤلاء في المؤسسات المنتخبة أو المعنية بشؤونهم. مقاربة الدولة إذن تعتمد سياسة للهجرة، ذات بعدين: 1 بعد خارجي يهتم بحقوق المهاجرين المغاربة في بلدان الإقامة، ودعمهم ضد التمييز العنصري والتمييز في الحقوق عبر تفعيل الاتفاقيات الثنائية المبرمة مع دول الإقامة وبالخصوص مع البلدان الأوروبية. هذا البعد يحمل في طياته الاهتمام بمقومات الهوية المغربية، الثقافية والدينية والحرص على استمراريتها ضمانا لاستمرار الارتباط بالوطن وبالدولة. يبدو واضحا أن الهدف من تفعيل هذا البعد لم يعد كما كان في الماضي يتعلق بالعودة والولاء والبيعة، بقدر ما أصبح يهدف دعم استقرار الجالية وتعزيز ارتباطها بدول إقامتها وتقوية دورها في دعم مصالح المغرب من موقعها كلوبي مغربي فاعل وقوي، يمكن استعماله في الضغط والتأثير حول قضايا حيوية بالنسبة إلى المغرب، كموضوع الوحدة الترابية ومشاريع الشراكة مع الوحدة الأوروبية وغيرها. إنجاز هذه المهام يصطدم بدبلوماسية عاجزة عن متابعة مدى تطبيق الاتفاقيات الثنائية المبرمة بين المغرب ودول أخرى، وبالخصوص التي تمس مصالح حيوية للمواطنين المغاربة المقيمين في هذه الدول، فبالأحرى التواصل مع الجالية بشكل حداثي يدعم دور هذه الأخيرة دون أن يؤثر على استقلاليتها وشرعية دورها. 2 بعد داخلي وطني يهتم بمساهمة المهاجرين المغاربة في تنمية المغرب الاقتصادية، إلى جانب دورها في تحديث المغرب والمساهمة في أوراش التنمية والإصلاح. في هذا الباب يدعو الخطاب الملكي السالف الذكر إلى «انتهاج سياسة جديدة، منصفة لجاليتنا بالخارج.. اعترافا منا بكونها في طليعة القوى الحية، المساهمة بدورها الفاعل في تنمية المغرب وتحديثه...». مثل هذا الخطاب يؤشر على أن الدولة تبحث عن مقاربة جديدة في علاقتها مع الهجرة المغربية، وعن سياسة جديدة وعلاقة جديدة مع الجالية تحمل ضمنا نقدا للسياسات السابقة، التي بدأ ينعتها الخطاب الرسمي صراحة باللاعقلانية والتداخل والارتجالية وطغيان المقاربة الأمنية على المقاربات السياسية والاجتماعية، هذه المقاربة نجدها في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى الثانية والثلاثين للمسيرة الخضراء كما يلي: «إعادة التفكير العقلاني والمراجعة الجذرية لسياسة الهجرة باعتماد استراتيجية شمولية تضع حدا لتداخل الأدوار وتعدد الأجهزة، استراتيجية متناسقة تنهض فيها كل سلطة عمومية أو مؤسسة أو هيئة بالمهام المنوطة بها في تكامل وانسجام في حسن تدبير جميع قضايا الهجرة...». بقدرما تروم التوجيهات الملكية مركزة القرار المتعلق بالهجرة ووضع حد لتداخل الأدوار وتعدد الأجهزة، بقدر ما تقلص من هامش الدور الحكومي ومن صلاحيات الحكومة في هذا الشأن، وهو ما يعني بالتالي استمرار إمساك الدولة في شخص الملك بهذا الملف، واقتصار الحكومة على تنفيذ جزء من السياسة المهيأة من طرف جهات وأجهزة خارج الحكومة، بل إن هامش التدبير الحكومي لا يرقى حتى إلى مستوى تنسيق هذه السياسة بعد إنشاء مجلس الجالية المغربية بالخارج وإناطة هذا الدور، صراحة، به. للمقارنة، سنحاول قراءة موجزة في مقررات اللجنة الوزارية المختلطة المكلفة بالهجرة المنعقدة تحت رئاسة الوزير الأول بتاريخ 5 فبراير 2008، ومقارنتها بمقررات الدولة في هذا الشأن وسياستها المدعوة مجازا ب»الجديدة». على مستوى القضايا المرتبطة بمصالح المهاجرين المغاربة داخل المغرب، نص مخطط العمل الأولي لحكومة عباس الفاسي على الكثير من الشعارات نذكر أهمها:. مواكبة الإرادة الملكية لمواصلة المسار التدريجي لتمكين المواطنين المغاربة بالخارج من ممارسة مواطنتهم الكاملة وضمان مشاركة ناجعة لهم في شتى مجالات الحياة الوطنية. - تحسين جودة الخدمات الإدارية وإيجاد حلول معقولة وملموسة للقضايا والصعوبات المرتبطة بالقطاعات والإدارات المعنية. لا نجد في هذا الباب أي تشخيص أو شرح للأوضاع الكارثية التي توجد عليها المصالح والإدارات القنصلية بالخارج، كما لا يشرح المخطط المذكور وسائل وآليات تحسين جودة الخدمات القنصلية التي عرفت مؤخرا احتجاجات قوية من طرف المهاجرين المغاربة باسبانيا، كما تأسست لمتابعة هذا الشأن لجنة أصدرت تقريرا مفصلا عن مظاهر الفساد وتدني الخدمات. وراسلت اللجنة المذكورة كل الجهات المعنية بما فيها وزارة الهجرة والوزارة الأولى. من جانب آخر، لا نجد أي توضيح للوسائل التي تنوي الحكومة استعمالها لتحسين جودة الخدمات في الإدارات المغربية بالداخل، وبالخصوص التابعة للعدل والداخلية، التي غالبا ما تكون موضوع شكايات المهاجرين المغاربة. والخلاصة أن هذه الأهداف المنصوص عليها في المخطط المذكور لا تعدو أن تكون شعارات عامة لا يمكن أن تصلح أساسا لما يمكن اعتباره سياسة أو مخطط عمل جدي بغلاف مالي حقيقي يسمح بتنفيذه. أهداف أخرى ينص عليها المخطط المذكور لا تعدو أن تكون شعارات تحفيزية تتعلق بمصالح الدولة قبل مصالح الهجرة، وهي المتعلقة بتحفيز وتشجيع التحويلات المالية للمهاجرين وتشجيع استثمارات المهاجرين بالمغرب، ومشاركة هؤلاء في مشاريع وأوراش التنمية، وغير ذلك من المصالح التي وإن كانت أساسية ومهمة بالنسبة إلى تنمية الوطن، يجب عرضها في علاقتها بمصالح المهاجر وتحفيزه بتسهيلات وامتيازات تتوافق وحجم مساهمته. ويبقى هذا الجزء من المخطط خاليا من أي مضمون، لا يتجاوز الشعارات ولا يحمل حتى حد أدنى من الاقتراحات العملية التي يمكن أن يجعل من هذا المخطوط الحكومي مشروع مخطط لمشروع سياسة يمكن نعتها بالجديدة. من حيث الأهداف التي يسطرها المخطط الحكومي المذكور يمكن تسجيل ما يلي: تأهيل وتطوير برنامج تعليم اللغة العربية لأبناء الجالية المغربية بالخارج. أي تأهيل وأي تطوير إذا كان البرنامج المقترح لا يعدو أن يكون شعارا رفعته الدولة منذ الستينات في علاقتها مع الهجرة، وكانت له تبعات ونتائج كارثية على علاقة الأجيال الجديدة، سواء بوطن آبائهم أو ببلدان جنسيتهم الحالية، هذا فضلا عن الاختصار الفج للغة الأصل في العربية دون الأمازيغية التي لم تعد طابوها أو تهديدا حتى نجعل من تغييبها قضية يستعملها خصومنا ضدنا وضد هويتنا المتعددة. تحيين ومراجعة الاتفاقيات الثنائية الخاصة بالجالية المغربية بالخارج وتطوير الآليات الدولية ذات الصلة. المفروض أن تعمل الحكومة على تفعيل الآليات الموجودة، كما هو الأمر بالنسبة إلى اتفاقية التعاون القضائي بين المغرب وإسبانيا، والتي وضعت الدولة لتفعيلها قضاة الاتصال في البلدين، حيث تحرص الدولة الإسبانية من خلال قاضيها على المتابعة وتفعيل بنود الاتفاقية، بينما يكاد ينعدم دور قاضية الاتصال المغربي أمام تفاقم مشاكل الجالية المتعلقة بتنفيذ هذه الاتفاقية. هذا إضافة إلى غياب حصر لمجمل هذه الاتفاقيات، واكتفاء المخطط بالإشارة إلى هذه الحاجة دون رسم أي برنامج عملي لتفعيل هذا الهدف، سواء عبر الآليات الدبلوماسية أو توفير الموارد البشرية والبنيات التحتية لمتابعة هذا الموضوع، فضلا عن غياب المقاربة التشاركية والديمقراطية التي يشير إليها المخطط في التعاطي مع هذا الملف، بفتح باب التشاور مع المهاجرين أثناء التفاوض والتوقيع على الاتفاقيات. وضع خطة عمل تشاركية مع الفاعلين الجمعويين بالخارج تهدف إلى دعم وتأهيل النسيج الجمعوي والرقي بأدائه الاجتماعي والثقافي ودوره التنموي، وفق إطار للتعاون يقوم على أساس الشراكة والمسؤولية المتبادلة. ليس سرا أن الدولة المغربية ولعقود طويلة عملت على قمع الجمعيات الديمقراطية بالخارج ومتابعة وملاحقة مناضليها وبالمقابل تفرغت أجهزة مخابراتها وطواقمها القنصلية لتفريخ الوداديات ودعمها واستعمالها في مراقبة الجالية وفبركة تمثيلية مزيفة للجالية، وكانت نتائج هذه السياسة كارثية على علاقة الهجرة بالوطن، وعلى الدور التنموي للجالية. السؤال اليوم حول كيفية استعادة علاقة المغرب بمهاجريه وأبنائهم، ليس كافيا أن تسطر الحكومة مثل هذه الشعارات الجميلة التي سبق وأن أعلن عنها ملك البلاد، بقدر ما تحتاج الحكومة إلى مخطط عملي لتحقيق هذه الأهداف، وأن تشرك الجالية في مناقشته، سواء عبر الأجهزة الرسمية أو التنظيمات الديمقراطية التي نضجت بعيدا عن الدولة المغربية، وأن تشرك الكفاءات والنخبة المغربية في المهجر. وللحكومة في خلاصات مناظرة الحوار الوطني حول الهجرة المغربية مادة كافية لبناء تصور يتماشى مع روح هذا الشعار، كما على الحكومة أن ترفق مثل هذا المشروع بغلاف مالي وأن تعززه بضمانات النزاهة والشفافية في إنجازه. ليس كافيا أن تكرر الحكومة توجيهات شكلت ثورة لما جاءت على لسان ملك البلاد وفي خطاب رسمي. ينتهي المخطط الحكومي بملخص للإجراءات المستعجلة تحت العنوان التالي: «الإجراءات المواكبة والآليات التنفيذية لمخطط العمل»، ورغم ما يوحي به العنوان من إشارة إلى إجراءات مستعجلة تستعد الحكومة لاتخاذها بشكل فوري، فالواقع أنها لا تعدو أن تكون تلخيصا بلغة قوية وعنيفة لنفس الشعارات السابقة الذكر. من خلال جدول تركيبي مرفق بالمخطط، يمكن أن نلاحظ غياب التخطيط وانعدام استراتيجية حقيقية طويلة المدى، ويشمل الجدول ثلاثة محاور، يحمل كل واحد منها عناصر المحور، المضامين والأهداف، الإجراءات المواكبة، مدة الإنجاز ومصدر التمويل. في هذا الأخير نلاحظ أن الجدول يشير إلى مصادر خارجية محتملة دون تحديد الجهة والإطار الذي يأتي فيه التمويل «كالمنظمات الدولية للهجرات» أو «مساهمة دول الإقامة» أو «الجمعيات الفاعلة بدول الإقامة». من حيث عناصر المحاور ومضامينها، يؤكد الجدول على الأولويات التقليدية للدولة المغربية التي قام عليها المخطط الخماسي 2005/2010، ويأتي المخطط الحالي لمواصلة تنفيذها كما ينص على ذلك صراحة الجدول التركيبي للمخطط. باستثناء محاور بناء بعض المؤسسات أو المشاريع بالتشارك مع دول الإقامة، لا نجد في الجدول ما يفيد تفصيلا لبرامج العمل وللمبادرات المقترحة، كما تغيب الصيغة التشاركية التي يُغني بها المخطط ديباجاته بالاعتماد على التوجيهات الملكية. في ما يتعلق بمدة الإنجاز، نلاحظ أن السقف الزمني لهذا المخطط لا يتعدى أفق 2012، وهو ما يعني غياب رؤية استراتيجية ومستقبلية طويلة المدى. ماذا بقي إذن للحكومة من هامش تدبير ملف الهجرة؟ وما جدوى وضع هذه الأخيرة لمخططات واستراتجيات العمل التي لا تتجاوز حدود الصياغة والاستئناس، إضافة إلى تناقضها أحيانا مع استراتيجيات ومخططات الدولة ومؤسساتها التي تتمتع بقدر أكبر من الصلاحيات وهامش المبادرة، إلى جانب الإمكانيات المادية وقدرة التأثير. يبدو بالواضح، ومن خلال مقررات اللجنة الوزارية المختلطة المكلفة بقضايا الجالية المغربية والمخططات المقترحة في المجالس الحكومية من طرف وزارة الهجرة، أن دور هذه الأخيرة لا يعدو أن يكون، وفي أقصى الحالات، استشاريا وأحيانا داعما لمخططات واستراتيجيات تشرف على إنجازها أجهزة أخرى لا علاقة لها بالحكومة ولا تخضع لأية مراقبة أو محاسبة.