ترأس أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، مرفوقا بصاحب السمو الملكي الأمير مولاي رشيد، وصاحب السمو الأمير مولاي إسماعيل، عشية أمس الثلاثاء بالقصر الملكي بالدارالبيضاء، الدرس الافتتاحي من الدروس الحسنية الرمضانية. (ح م) وألقى هذا الدرس بين يدي جلالة الملك، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق حول موضوع "التزام المغاربة بالمذهب المالكي ووفاؤهم لأصوله"، انطلاقا من الحديث الشريف الذي رواه الإمام مالك في موطئه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما مسكتم بهما: كتاب الله وسنة نبيه". وتناول التوفيق هذا الدرس عبر تقديم بعض جوانب المذهب المالكي في ارتباط مع حياة المغاربة ماضيا وحاضرا، من خلال أربعة محاور تتعلق بمفهوم المذهب، وكيفية ظهور المذاهب، والظروف التاريخية التي انخرط فيها المغاربة في المذهب المالكي، والقضايا الكبرى التي اشتغل عليها الفقهاء المغاربة في إطار هذا المذهب، والتي أبانوا من خلالها عن التزامهم بمبادئه وروحه. وعاد المحاضر إلى تفسير الحديث النبوي الشريف، الذي يحدد الكتاب والسنة كمرجعين أساسيين للتشريع الإسلامي، بعد انقطاع الوحي وتحول سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى آثار تحقق وتروى. وعرج التوفيق على ظهور الحاجة إلى آراء فقهية تنزل الأحكام الواردة في الكتاب والسنة على الواقع الإسلامي بتحولاته، وكذا بأوجه الخلاف التي برزت بين الاجتهادات الفقهية المختلفة، في الحجاز والعراق والشام، وظهور مشاكل أفرزتها تيارات مأولة للنصوص حسب أهوائها، وظهور اختلافات في التفسير تتعلق باللغة، واختلاف في أسباب نزول بعض الآيات، ومسألة جمع الحديث والتحقق من صحته، وظهور قضايا جديدة في البيئات الإسلامية المختلفة لم ترد أحكامها صراحة في القرآن والسنة. وأضاف أنه في خضم هذا الجو المتسم بالخوف على ضياع الدين، ظهرت المذاهب الفقهية، المذهب الحنفي والمالكي فالشافعي ثم الحنبلي. وتابع أن الاختلافات، التي برزت بين هذه المذاهب نجمت عن استعمال تقنيات الاستنباط من الكتاب والسنة، مشيرا إلى أن كل الجهود انصبت على ضبط هذا الاختلاف ضمن الإسلام السني الواحد في إطار روح الإخلاص والتعظيم الواجب بين المذاهب. وفي هذا السياق، قال التوفيق، بات كل مذهب يشكل نسقا خاصا بحيث لا يمكن لأحد أن يركب من مختلف المذاهب مذهبا خاصا بطريقة انتقائية وعشوائية، كما قال بذلك القاضي عياض. وبعد استعراض محطات من سيرة الإمام مالك، الذي أجمع الناس على تميزه بالتحري وعدم التسرع في الإفتاء، وعدم التساهل مع الفرق المنشقة عن الجماعة، رصد المحاضر توسع المدرسة الفكرية للإمام مالك، التي أرست عددا من القواعد الفقهية من قبيل التمييز بين النص الذي لا يقبل التأويل، والنص الذي يحتمل أكثر من وجه، وتحليل علاقة المنطوق في النص بالمسكوت فيه، واستعمال مناهج قول الصحابي والاستحسان، فضلا عن الإجماع والقياس وعمل أهل المدينة، وكذا مراعاة العرف والاستصلاح. ولفت إلى أن القراءة المعاصرة لاجتهادات الإمام مالك تكشف أبعادا عميقة تتمثل في اعتبار عمل الجماعة أقرب للحقيقة، ومراعاة المصلحة العامة ما لم تتعارض مع نص شرعي قطعي وربط المشروعية السياسية بالحرية، وعدم التساهل تجاه التيارات المهددة للأمن العام، واعتماد التنوع الثقافي في التشريع. وفي تفسيره لاختيار المغاربة للمذهب المالكي، عاد المحاضر إلى تحليل ابن خلدون الذي عزاه إلى تشابه بيئة المغرب وبيئة الحجاز من حيث غلبة البداوة، وكثرة رحلات المغاربة إلى هذه المنطقة، بالإضافة إلى وقائع أخرى ترتبط باستقلال المغرب عن الدولة العباسية، وقيام الدولة الإدريسية بالمغرب، والانتشار الواسع للمذهب المالكي بالأندلس. وأشار إلى أن قيام الدولة الإدريسية بالمغرب معززة بالمذهب المالكي قطع الطريق على دعاية الخوارج والعبيديين الفاطميين، كما تكفل فقهاء المالكية بالتصدي لمثل هذه التيارات في المساجد والرباطات. وأضاف أن فقهاء المذهب عملوا على توجيه الأمة وفق أربعة جوانب، تتعلق بالوفاء لبيعة الإمام الشرعي، واعتبار العدل شرطا لليقين، واعتبار اليقين شرطا لقيام شرع الله، والحرص على تحقيق الانسجام بين الشرع والتنوع الثقافي من خلال الاهتمام بالعرف والعمل، والإبانة عن ممارسة وفهم ذكيين للتقليد. ولاحظ التوفيق أن فقهاء المذهب المالكي كانوا منتظمين عرفيا في مشيخة تستمد سلطتها الرمزية من تقدير ولي الأمر ومن تقدير الجماعة، وكانت تزكيتها محل توافق بين الإمامة العظمى وبين الناس، مضيفا أن هذه المشيخة هي المكرسة اليوم في المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية المحلية. وبعد أن ذكر بآثار فتور نشاط مشيخة علماء المذهب في عقود سابقة، حيث تجرأ على الافتاء أشخاص لم يراعوا في بعض الأحيان أخلاق المذهب في الإفتاء من حيث الورع والضبط واحترام ثوابت البلد، ومراعاة سياسة الإمامة فيه، سجل المحاضر أن هذه المسألة حسمت بتأسيس لجنة الفتوى في إطار المجلس العلمي الأعلى. أما على المستوى التشريعي، فلاحظ المحاضر أن القوانين التي صدرت بالمغرب في مدة قرن لم تحلل حراما ولم تحرم حلالا، ومن ثمة فهي بالنسبة لما لم يرد فيه نص شرعي قطعي تدخل إما في العمل بما يوافق المشهور أو القول الشاذ أو بما يستند لآلية من الآليات التي اقترحها المذهب لاستنباط الأحكام ومعظم مواضيعها يدخل في المصلحة العامة. وتوقف في هذا السياق عند قضاء الأسرة خاصة، معتبرا أن إشراف فقهاء المذهب على إصلاح المدونة يعد من مفاخر إنجازات جلالة الملك. وأشار إلى أن المادة الأخيرة من المدونة نصت على الرجوع إلى المذهب المالكي في كل ما لم يرد فيه نص فيها. وسجل التوفيق أن الفقه المالكي يتمتع بحضور مقبول في برامج مؤسسات التعليم العالي وعلى رأسها جامع القرويين، ودار الحديث الحسنية، وبرامج شعب الدراسات الإسلامية، ودروس الشريعة في كليات الحقوق، وبرامج التكوين في معاهد القضاء وغيرها. وخلص إلى أن البلدان التي يشترك معها المغرب في المذهب بل وبلدانا غيرها تنظر إلى المذهب بالمملكة بمثابة حالة مختبرية في ما يتعلق بحسن مواكبة التطور ومواجهة تحديات الحداثة تحت قيادة إمارة المؤمنين. وقال إن الخصوصية المغربية بوجود أمير المؤمنين تتجلى في سياق تتحدد فيه بوضوح أربعة مفاهيم أساسية مرتبطة بالالتزام بالمذهب، هي مفهوم العالم، ومفهوم التقليد، ومفهوم الاجتهاد، ومفهوم الدعوة. فالعالم هو عالم الأمة الملتزم المأذون، والتقليد ليس مجرد تقليد جاهل لعالم، بل هو مرجعية لحفظ السكينة العامة من جهة الدين، والاجتهاد انفتاح تشريعي يستعمل كل آلات المذهب ويتعداها إن اقتضى الحال لخدمة مصلحة الأمة والمجتمع، والدعوة لا توافق هذا النسق إلا إذا كانت بإذن فقهي، فهي إما تعليم خاضع للإذن المعمول به في التعليم، أو إرشاد يستوعبه برنامج مشيخة العلماء أي المجالس العلمية، وفي ما عدا ذلك فهي مظنة للانحراف لأنها قد توحي بملء فراغ لا تتحمل تبعته حتى وإن وجد. وفي ختام هذا الدرس، تقدم للسلام على جلالة الملك العلماء، الأستاذ عز الدين عمر موسى، عميد كلية العلوم الاستراتيجية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالرياض، والشيخ إبراهيم محمود جوب، الأمين العام لرابطة علماء المغرب والسينغال، والأستاذ إبراهيم بن أحمد الكندي، أستاذ بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان، والأستاذ محمد أحمد شفيع، رئيس الجمعية النيجرية للأخوة الإسلامية النائب الأول لرئيس المجلس الإسلامي بالنيجر. كما تقدم للسلام على جلالة الملك الأستاذ عبد الرحمان ميغا، أستاذ بالجامعة الإسلامية بالنيجر، والأستاذ عمار الطالبي، من علماء الجزائر، والأستاذ أحمد معبد عبد الكريم، أستاذ بقسم الحديث لمكتبة أصول الدين والدعوة بالزقازيق (مصر)، والأستاذ محمد جمال حسن أبو الهنود، مدير عام مشيخة المقارئ الفلسطينية، والأستاذ أبو القاسم العليوي، رئيس ديوان وزير الشؤون الدينية بتونس، والشيخ إدريس قدوس كوني، رئيس المجلس الوطني الإسلامي الإمام الأكبر مكلف بالشؤون الخارجية بالمجلس الأعلى للأئمة (كوت ديفوار). إثر ذلك تقدم للسلام على أمير المؤمنين وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، أحمد التوفيق، الذي قدم لجلالته لوحة تمثل "شجرة نسب صاحب الجلالة أعزه الله" وهي لوحة مرسومة على نسيج في شكل شجرة نخيل.