برحيل محمد حسن الجندي، أول أمس السبت، عن عمر يناهز79 عاما، ماتت عدة شخصيات مرتين، شخصيات سكنت القلب والوجدان حبا في رجل تقمص شخصياتها، وأعطاها زخما ما كان لغيره أن يعطيه. الراحل محمد حسن الجندي، صديق الطفولة. إنه في نظري سيف بن ذي يزن وهو عنترة بن شداد وأبو الحكم في مرحلة لاحقة و... نعم الراحل صديق الطفولة.. تعود صداقتنا إلى مطلع سبعينيات القرن الماضي، كنت دون السابعة من العمر، وكان رحمه الله مختلفا عن باقي الأصدقاء، لم نكن نتخاصم ولا نتجادل، كنت أحبه وأتعاطف معه، وأخاف عليه، وأصدقه في كل شيء، كنت أراه عبر كلماته وصوته الذي لا يعلو فوقه صوت. لم يكن هو يعرفني، كنا صديقين افتراضيين بلغة الألفية الجديدة، وإن كنا من جيلين مختلفين. وأنا في السابعة من عمري كان هو في سن والدي رحمه الله، أو أنه بالكاد تجاوز الثلاثين. بدأت صداقتنا الافتراضية في شهر رمضان. كان تغمده الله برحمته يؤنسنا كل ليلة من ليالي الشهر الفضيل عبر حلقة من حلقات مسلسل "الأزلية"، الذي كان يجذبنا إليه عبر صوته المجلجل وهو يقول "سموني وحش الفلى واسمي سيف بن ذي يزن.. رموني أهلي بالخلا وحماني الخالق الرحمان". مع اقتراب الحلقة المنتظرة نتسمر قرب المذياع وكأننا سنراه، ينبعث صوت الحاج عبد الهادي بلخياط أطال الله عمره، والرائعة سعاد محمد، التي اشتقنا إليها وأمثالها، يتغنيان بابن ذي يزن الهمام، ثم تنطلق رحلتنا مع صاحب الحسام، الفارس الجبار والبطل المغوار الذي لا يشق له غبار، ورحلة بحثه عن زوجته "منية النفوس"، ومعاناته لما أصبح ابنه الذي أصبح يحمل اسما آخر وصراعه مع والدته قمرية وسيف أرعد ملك الحبشة، اللذين كانا يرغبان في القضاء عليه حتى لا تحقق نبوءة الحكم والسيطرة من طرفه، لأنهما يعرفان أن الأمر يتعلق به عبر الشامة الخضراء. والدعم الذي كان يحظى به من طرف الجنية عاقصة، شقيقته من الرضاعة، إذ أرضعته جنية بعد أن تخلت عنه والدته قمرية للسبب سالف الذكر. على مدار شهر رمضان كنا صديقين افتراضيين لكن متلازمين، لا يهم فارق السن بيننا، على الأقل من ناحيتي، لكنني كنت أشعر أنه يبادلني الحب نفسه، لم يقو على تركي حتى بعد انقضاء شهر رمضان. أصبح الراحل ورفاقه يضربون لي موعدا كل أحد انطلاقا من التاسعة ليلا، لم يكن صديقي لوحدي، كان صديقا لكل أفراد العائلة، وكانت كل البيوت تفتح في وجهه. كنا نطالب الوالدة أطال الله عمرها مساء يوم الأحد بالسماح لنا بالسهر لمتابعة الأزلية، التي ننتظرها بشوق على مدار الأسبوع، يحدث مرات أن تتأخر لسبب ما أصارع النوم أتشبث باليقظة بكل إصرار، وإذا حدث أن استسلمت، أول ما أقوله للوالدة وللإخوة في الصباح آش دار " دو اليزان"، أستمع إلى ما يقال عن صولات وجولات الرجل بكل افتخار وكأنني أنا من يحقق النصر. عشقي للراحل حسن الجندي تضاعف مع توالي الحلقات، لأنه كان يجذبني عبر شخصيته وأدائه الذي لا يعلى عليه، أذكر أنني خفت على الجندي (دو اليزان) أكثر من نفسي، في إحدى الحلقات، وبينما أستمع إليه، وهو يحاول اقتحام الحصن لإنقاذ منية النفوس، وأتخيل كل الأحداث والمواقع، وأنمي خيالي بغير وعي، وهذا من مميزات المذياع، التي افتقدناها، كنت أتصور كل شيء وكأنني أتابعه عبر الشاشة، التي كانت آنذاك بالنسبة للكثيرين مجرد إشاعة، كما أن الحصول على شرف مشاهدتها في مناسبة ما نوع من الترف. كان الراحل الجندي أو " دو اليزان" يحاول، تنفيذ مخططه، وكان عليه أن يصيب بسهمه طاووسا فوق الباب، ليتمكن من اقتحام الحصن، قبل الشروع في توجيه السهام، علمنا عبر الحكي أنه إما أن يصيب الطائر في ثلاث محاولات أو تبتلعه الأرض، أخفق فارسنا المغوار في الأولى فغرقت قدماه، بدأت أرتجف من شدة الخوف عليه، لأنني كنت أحبه كما قلت لكم، يا للهول صديقي ونموذجي في الشجاعة وتحدي الصعاب ستبتلعه الأرض، حاول ثانية وأخفق اختفى جزء آخر من جسمه إلى حدود الصدر ما حدث عصي على الفهم والهضم، "دواليزال" الذي لم يقو عليه الجن والإنس والسحرة والكهنة، وكان يصيب بسهمه الظاهر والخفي يواجه خطر الاختفاء، لم أكن لأقوى على فراقه وعلاقتنا في بدايتها، فكيف أن أتحمل لوعته بعد أن عشنا عقودا ، عبر عدة أجناس، يصحبني معه عبر العصور والأوطان وهو يمتطي صهوة الإبداع بكل إمتاع. كدت أموت من الخوف عليه، حاول المحيطون بي إفهامي أنه يمثل فقط، وأن الأحداث متخيلة أو وقعت في زمن بعيد، لكن لا حياة لمن تنادي، أنى لطفل في سني يخيفونه ب"بوعو" ومول "الخنشة" أن يدرك ما يقال له. ما زاد الطين بلة أن الحلقة انتهت، وحكم علينا لنتابع المحاولة الثالثة والأخيرة في الأحد الموالي، خيروني بين تصديق ما كانوا يقولونه أو أظل على الوضع الذي كنت عليه حتى الأحد المقبل. زادت حيرتي، نمت وأنا في وضع لا أحسد عليه، بقدر ما أذكر تفاصيل الأزلية بفضل إبداع الراحل الجندي والمبدعين، الذين رافقوه في العمل من بينهم الهاشمي بنعمر، وحمادي التونسي، وأمينة رشيد، والراحلان العربي الدغمي وأبو الصواب، لا أذكر كيف تخلصت من الخوف على مدار الأسبوع، لكن الخوف وبالدرجة نفسها عاد مع انطلاق الحلقة المنتظرة ولم أتخلص منه إلا وصديق طفولتي الراحل يصيب عين الطاووس ويفتح باب الحصن. ما جعلني أذكر تفاصيل الأزلية إبداع الراحل الجندي الذي أسدى للمغرب وفنه خدمات جليلة "ابن القصور" كان رائعا في كل شيء.. إبداعه فاق الحدود في زمن لا قنوات فضائية ولا أنترنيت فيه. كان الصدق رأس ماله أذكر أنه حين استضافه مصطفى العلوي في برنامج 12 13، الذي كان يقدمه في منتصف النهار على الإذاعة الوطنية في أواخر السبعينيات من القرن الماضي طلب منه باعتباره مراكشيا، ولا داعي للتذكير بكون أهل الحمراء هم أهل النكتة، طلب منه أن يحكي نكتة فقال "بكل صراحة النكتة تحضر عندما تريد هي، وحين تطلبها لا تحضر، لكن سأحكي نكتة واقعية" وقال رحمه الله "كنا نشتغل لمدة طويلة على مسلسل في صحراء ليبيا وكان أحد الأصدقاء المصريين يتباهى بأصوله وغنى آبائه وأجداده، وكان عملنا مضنيا وبعد توقف التصوير ذات يوم لتناول وجبة الغداء وكانت عدسا، قال المصري بصوت عال تعبيرا عن فرحه "عدس".. فرد عليه مصري آخر، إيش عرفك به يا ابن البهوات". بكل صراحة كان الراحل الجندي من الممثلين المثقفين، الذين نفخر بكون بلدنا أنجبتهم، وفاخرت بهم الأمم على امتداد عقود، فهو مبدع متكامل، ممثل سارت بذكره الركبان، مؤلف وله الكثير من الأعمال التي تشهد على ذلك، وشاعر غنائي أدى له الراحل سعيد الزياني، الذي تحول في ما بعد إلى داعية أغنية "أهلا بالحب"، التي أعيدت بصوت ليلى علي في مسلسل "أولاد الحلال"، وتعامل معه الكثير من الملحنين والمغنين على رأسهم عميد الأغنية المغربية عبد الوهاب الدكالي ونذكر من بين الأغاني التي تعاملا من خلالها "شحال يكذب غزالي" و"كذبت نفسي". نم قرير العين يا صديق الطفولة فأنت المبدع الذي نهل من ينابيع كثيرة، والمنبع الذي أرسل صبيبه شرقا وغربا وليس مغربا فقط، مبدع قلما يجود الزمان بمثله.. سنظل نذكر أعمالك التي قل نظيرها في العالم العربي، وتقمصك أدوار شخصيات تاريخية، وتعريف العرب والعجم بالمغرب ومميزاته وتقاليده عبر برنامج "كشكول المغرب"، الذي كان يقدمه لإذاعة لندن بلغتنا التي ورثناها عن آبائنا نحن جيل الستينيات والسبعينيات، والتي أصبحت "بي بي سي" بالنسبة إلينا بعد أن اشتد العود وتنمت المعارف، وكنا فخورين بك وأنت تتقلد مهمة مندوب لوزارة الثقافة بمراكش، التي خرجت منها مبدعا وعدت إليها مسؤولا ومتت بها بعد إصدار وتوقيع كتابه "ولد القصور"، في معرض الكتاب بالدارالبيضاء. صديق الطفولة الذي شدني وبني جيلي إليه أبدع فأمتع، وأنجب الكثير من المبدعين من صلبه أنور وهاجر، أما أبناؤه الروحيون فهم كثر، إذ ربى أجيالا كانت وستظل تفخر به.. نم قرير العين صديق الطفولة لن ننساك، نعم لن ننساك.. إلى جنة الخلد إن شاء الله.