بحق فإن هذه الزيارة الملكية كانت ناجحة بكل المقاييس، وعلى كل الأصعدة، ذلك أنها تجسد النموذج الأفضل في إفريقيا لشراكة ثنائية صريحة واستراتيجية ومربحة للطرفين، فضلا عن كونها التجلي الواضح بأن تعزيز التعاون الثنائي والتحالف والانسجام وتوحيد الجهود ممكن في إفريقيا، وأن هناك سبيلا أكيدا لبلوغ التنمية المنشودة، بعيدا عن المساعدات الممنوحة من طرف الدول الغربية لدول الجنوب. وهكذا فقد أضحى التوجه الإفريقي بالنسبة للمغرب منذ اعتلاء جلالة الملك العرش، جليا ومحوريا في السياسة الخارجية للمملكة التي التزمت بخدمة قضايا القارة، وفي مقدمتها قضايا التنمية البشرية وانخراطها في ذلك بكل ما تملك من خبرة وإمكانيات. وبالنظر لكون الكوت ديفوار قطبا اقتصاديا وازانا في غرب القارة الإفريقية، ولما تزخر به من مؤهلات في شتى المجالات، فإن فرص التعاون المثمر والمربح للطرفين متاحة جدا، وهو ما يعكسه الزخم الكبير من اتفاقيات التعاون التي وقعت بمناسبة هذه الزيارة بين القطاعين الخاصين بالبلدين وبين القطاعين العام والخاص. ويجسد مشروع حماية وتثمين خليج كوكودي، الذي ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس، ورئيس جمهورية الكوت ديفوار، الحسن واتارا، بأبيدجان، حفل تقديمه، الشراكة النموذجية والمتميزة القائمة بين البلدين، ويتعلق الأمر بمشروع مهيكل وضخم رصدت له اعتمادات بقيمة 1,7 مليار درهم، ويهم حوض غورو وخليج كوكودي اللذين يشكلان منطقتين حيويتين تكتسيان رمزية كبيرة في أبيدجان، بالنظر لكونهما يعكسان، في وضعهما الحالي، نموذجا لمدى الهشاشة البيئية التي تعانيها بحيرة إيبريي، وكذا امتدادها القاري. والواقع أن الاهتمام الذي يوليه صاحب الجلالة لهذا المشروع ليس وليد اليوم، ذلك أن لجنة مغربية قامت، بتعليمات ملكية سامية، بزيارة لأبيدجان (20 - 24 مارس 2014)، تلتها بعثة تقنية ( 8 -11 أبريل 2014) ضمت خبراء من وكالة تهيئة بحيرة مارشيكا، متخصصين في مجال البيئة و في الأشغال البحرية والماء. وأعقبت هذه البعثات اتصالات مع الهيئات العمومية الإيفوارية المكلفة بتنفيذ البرنامج الاستعجالي للقضاء على التلوث بحوض غورو وخليج كوكودي. وستواكب تنفيذ الحلول التقنية للمشاكل ذات الأولوية، مقاربة منسجمة ومندمجة ترمي إلى المحافظة والتثمين المستدام للخليج تقوم بتفعيلها هيئة مختصة. ويشتمل هذا المشروع المندمج الطموح على خمسة محاور هي المخطط الأزرق، ومعالجة المكونات المائية والرسوبية، والمخطط الرمادي، ويتعلق بالتطهير السائل والصلب، والمخطط الأخضر الذي يرمي إلى إعادة تأهيل المنظر الطبيعي. كما يتضمن مخططا لتطوير النقل والحركية بالوسط الحضري، والمخطط الأحمر الذي يحدد المبادرات ذات الأولوية التي يجب تنفيذها على المدى القصير. ويولي المشروع اهتماما مماثلا لإنجاز قناة للصرف من شأنها ضمان استعادة المياه المجمعة بحوض غورو باتجاه الخليج، كما ستكون القناة بمثابة حوض للترسيب مصمم لتجميع الرواسب وتيسير أشغال الصيانة وجرف الأوحال. وسيمكن هذا المشروع من الاستفادة بأكبر قدر ممكن من هذا الموقع السياحي الجميل، الذي سيكون الأول من نوعه بالعاصمة الاقتصادية الإيفوارية، فضلا عن إيجاد حل دائم لمشاكل الفيضانات والسير على مستوى ملتقى الطرق أندينيي وسيحول هذا الخليج إلى منطقة جذب حقيقية. كما تميزت الزيارة الملكية للكوت ديفوار بالمباحثات التي أجراها جلالة الملك مع الرئيس الحسن واتارا، قبل ان يترأس قائدا البلدين حفل التوقيع على ست اتفاقيات للتعاون الثنائي تهم مجالات الصيد البحري والإعلام، والبنوك والقطاع المالي والتنمية القروية. وبالمناسبة قدم لجلالة الملك ورئيس جمهورية الكوت ديفوار، أعضاء الرئاسة المشتركة لمجموعة الدفع الاقتصادي المغربية- الإيفوارية، التي تضم وزيري الشؤون الخارجية للبلدين ورئيسة الاتحاد العام لمقاولات المغرب ورئيس الكونفدرالية العامة لمقاولات الكوت ديفوار، وأعضاء الرئاسة المشتركة للجان المجموعة. وعقب ذلك عقدت اللجنة اجتماعها الأول تحت الرئاسة المشتركة لوزير الشؤون الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار، ووزير الدولة، وزير الشؤون الخارجية الإيفواري شارل كوفي ديبي، بحضور فاعلين اقتصاديين من كلا البلدين، حيث عبر الطرفان عن عزمهما على تسخير كل ما بوسعهما للدفع قدما بشراكتهما الاقتصادية، تماشيا مع الإرادة المشتركة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس والرئيس الإيفواري الحسن وتارا. وفي التفاتة تضامنية تحمل معاني إنسانية نبيلة، سلم جلالة الملك بالمركز الاستشفائي الجامعي يوبوغون بأبيدجان، هبة ملكية عبارة عن طنين من الأدوية المخصصة لعلاج الأمراض الانتهازية المرتبطة بداء فقدان المناعة المكتسبة (السيدا) لفائدة وزارة الصحة ومحاربة السيدا. وتنسجم هذه الهبة الملكية الممنوحة من طرف مؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة، تمام الانسجام، مع رؤية جلالة الملك الذي ما فتئ يعمل على إضفاء محتوى إنساني على تضامن المغرب مع بلدان القارة والتعاون جنوب- جنوب، وذلك من خلال إطلاق العديد من برامج دعم السكان المعوزين بإفريقيا. وتعد هذه الهبة الملكية، التي تضفي بعدا إنسانيا على زيارة جلالة الملك لجمهورية الكوت ديفوار، تجسيدا آخر للتعاون المثمر والنموذجي الذي يجمع المغرب بهذا البلد في المجال الصحي وتكوين الأطر الطبية وشبه الطبية. كما أشرف جلالة الملك على إعطاء انطلاقة أشغال إنجاز مشروع محطة مجهزة للتفريغ خاصة بالصيد التقليدي في مدينة "غراند لاهو"، وذلك بغلاف مالي إجمالي قدره 20 مليون درهم. ويندرج هذا المشروع، الممول من طرف مؤسسة محمد السادس للتنمية المستدامة بمبلغ 13 مليون درهم، وقطاع الصيد البحري (7 ملايين درهم)، في إطار التعاون جنوب- جنوب، كما يعد تجسيدا قويا لعلاقات الصداقة القائمة بين المغرب والكوت ديفوار. ويعكس مشروع محطة تفريغ السمك المجهزة لمدينة غراند لاهو، الواقعة على بعد 150 كلم غرب أبيدجان على الطريق المؤدية لسان بيدرو، عزم الكوت ديفوار على تشجيع تطوير البنيات التحتية في مجال الصيد البحري، بما يمكن من إحداث فرص الشغل وتخفيف الضغط على أبيدجان ونواحيها. ويوجد بمواقع الصيد في غراند لاهو 550 قارب صيد تقليدي (منها 110 قوارب بمكان المحطة)، و2790 صيادا، و1200 من باعة السمك، كما تنتج نحو 1950 طنا من السمك والقشريات. وتميز مقام جلالة الملك بالكوت ديفوار ، كذلك ، بإطلاق جلالة الملك بيوبوغون بأبيدجان، أشغال إنجاز مركب للتكوين في مهن البناء والأشغال العمومية والفندقة والمطعمة، بغلاف مالي إجمالي قدره 55 مليون درهم. وسيوفر هذا المركب، الذي سينجز على مساحة تناهز 3 هكتارات، منها 5740 مترا مربعا مغطاة، التكوين المهني المتخصص في قطاعي البناء والأشغال العمومية، من جهة، والسياحة والفندقة والمطعمة، من جهة أخرى. كما سيمكن من وضع موارد بشرية مؤهلة رهن إشارة الفاعلين الاقتصاديين، ودعم تشغيل الشباب وتحفيز اندماجهم السوسيو- مهني، وضمان مواكبة الأوراش الكبرى للتنمية السوسيو- اقتصادية المنفذة من طرف الكوت ديفوار. واستقبل جلالة الملك كذلك بمقر إقامة جلالته بأبيدجان، رئيس الجمعية الوطنية بجمهورية الكوت ديفوار غيوم سورو. وقبيل مغادرة صاحب الجلالة لهذا البلد، أدى أمير المؤمنين رفقة الرئيس الإيفواري صلاة الجمعة بالمسجد الكبير "ريفييرا" بأبيدجان. بعد أداء صلاة الجمعة تفضل أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، بإهداء الجهات الإيفوارية المكلفة بتدبير الشؤون الدينية، 10 آلاف نسخة من المصحف الشريف في طبعته الصادرة عن مؤسسة محمد السادس لنشر المصحف الشريف، قصد توزيعها على مختلف مساجد جمهورية الكوت ديفوار. وتأتي هذه المجموعة من المصاحف، كدفعة أولى في إطار تنفيذ التعليمات الملكية السامية، والقاضية بأن تقوم هذه المؤسسة بتزويد مساجد بلدان غرب إفريقيا بكل ما تحتاجه من مصاحف برواية ورش عن نافع، التي هي من الاختيارات المشتركة بين المغرب وهذه البلدان. وتوجت زيارة العمل والصداقة التي قام بها جلالة الملك للكوت ديفوار بصدور بيان مشترك جددت فيه جمهورية الكوت ديفوار التأكيد على دعمها الراسخ للمقترح المغربي القاضي بمنح حكم ذاتي موسع لمنطقة الصحراء في إطار السيادة والوحدة الوطنية والترابية للمغرب. كما أشاد الرئيس الإيفواري بجهود المغرب الرامية إلى إيجاد حل نهائي للنزاع الإقليمي بخصوص قضية الصحراء المغربية. من جهة أخرى عبر البلدان عن ارتياحهما لتعزيز الشراكة القوية والطموحة والمربحة للطرفين، القائمة بين البلدين في كافة القطاعات، وكذا تمتين المشاورات السياسية المنتظمة بين قائدي البلدين بشأن القضايا الإفريقية والدولية". وسجل البيان أنه خلال السنوات الثلاث المنصرمة، تطورت الشراكة بين البلدين بشكل كبير حيث تم التوقيع على نحو 50 اتفاقية تعاون، من ضمنها العديد من الاتفاقيات التي تهم الاستثمار وإنجاز مشاريع تنموية. وأشار البيان إلى أن هذه النتائج الايجابية للغاية، "جعلت من هذه الشراكة نموذجا مجددا للتعاون جنوب جنوب بين بلدين إفريقيين، شراكة متينة في أسسها، وجوهرية من حيث مضمونها، ومتنوعة من حيث الفاعلون فيها، تستلهم من الإرادة المشتركة لقائدي البلدين في قيادة شراكة استراتيجية بين المغرب والكوت ديفوار". وذكر بأن الجانبين، وقعا خلال هذه الزيارة، عددا من الاتفاقيات الجديدة بين الحكومتين، واتفاقيات بين القطاعين الخاصين بالبلدين في مجالات الأبناك والفلاحة والعقار والصناعة والبنيات التحتية والتكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال والسياحة والنقل، مضيفا أن الزيارة الملكية كانت مناسبة لإطلاق أشغال تهيئة وتثمين خليج كوكودي الذي يشكل ورشا ضخما ونموذجا رائدا للتعاون بين البلدين، وتنصيب لجنة الدفع الاقتصادي، التي تجمع الفاعلين من القطاعين الخاص والعام بالبلدين. وأكد البيان أن النهوض بالتنمية البشرية كان حاضرا خلال الزيارة الملكية، خصوصا من خلال تهيئة محطة مجهزة للتفريغ في "غراند لاهو"، وكذا إنجاز مركب للتكوين المهني في مهن البناء والأشغال العمومية والفندقة والمطعمة، حيث تقوم هذه المشاريع على تقاسم الخبرة والتجربة، بما يقوي أواصر الصداقة المتينة والتضامن القوي بين البلدين. وخلال هذه الزيارة، أطلع رئيس جمهورية الكوت ديفوار، جلالة الملك على التقدم المنجز في مسلسل المصالحة الوطنية وإعادة البناء في الكوت ديفوار، وكذا على ما تم إحرازه من تقدم في التحضير للانتخابات الرئاسية المقررة في أكتوبر 2015، وأشاد صاحب الجلالة من جهته بعودة السلم والاستقرار إلى الكوت ديفوار، معبرا عن دعمه للرئيس الحسن واتارا، وللحكومة والشعب الايفواريين، في ما يبذلونه من جهود في سبيل إعادة بناء وتقويم اقتصاد البلاد . كما أشاد فخامة الحسن وتارا برؤية صاحب الجلالة بخصوص النهوض بالسلم، والاستقرار، وتنمية إفريقيا كما جاءت في خطاب صاحب الجلالة بأبيدجان في مارس 2014. وجدد البلدان كذلك التأكيد على التزامهما بتفعيل فضاء شمال غرب إفريقيا، وذلك إيمانا منهما بضرورة مد وتوسيع تعاونهما ليشمل سائر منطقة شمال غرب إفريقيا. وجاء في البيان المشترك أن قائدي البلدين، إيمانا منهما بأن إفريقيا يجب أن تساعد نفسها بنفسها، أكدا على ضرورة تضافر جهوديهما من أجل، من جهة، مد وتوسيع تعاونهما ليشمل سائر منطقة شمال غرب إفريقيا، ومن جهة أخرى، مكافحة الأشكال الجديدة للجريمة، لاسيما الإرهاب والجريمة الإلكترونية والقرصنة البحرية والاتجار بالمخدرات. كما حثا المجتمع الدولي على مضاعفة الجهود للقضاء على هذه الآفات. وفي هذا الصدد، يضيف البيان، جدد قائدا البلدين التأكيد على التزامهما بتفعيل فضاء شمال غرب إفريقيا الذي سبق ودعوا إلى تأسيسه خلال الزيارة الرسمية التي قام بها فخامة الرئيس الحسن وتارا للمغرب، مبرزا أن فضاء شمال غرب إفريقيا يزخر بفرص مهمة لتجميع الطاقات والتعاون بين الدول التي تشكله، وذلك في المجالات الاستراتيجية كالبيئة، والأمن الغذائي، والصحة، والطاقة، والربط البيني اللوجيستي، وتجميع الموارد، وتبادل الخبرات. وبإمكانه أن يشكل، بهذا الصدد، منطقة للإقلاع المشترك والاستقرار. وسجل البيان أن "إطارا من هذا القبيل يمكن أن يمثل فضاء للتشاور السياسي والتنسيق الأمني وأساسا للاندماج الإقليمي المربح لكافة دول المنطقة. ويربط هذه البلدان تاريخ مشترك، ومجموعة قيم، وتشابه في تحديات التنمية والتهديدات متعددة الأشكال التي تواجهها، إضافة إلى إرادة للرقي إلى قطب مندمج لتنمية وازدهار القارة". وفي هذا السياق، أكد الرئيس الحسن واتارا دعمه القوي للإسراع بإبرام اتفاق للشراكة الاقتصادية بين المغرب والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وبخصوص النزاعات بإفريقيا، ذكر البيان بدعوة جلالة الملك محمد السادس وفخامة الرئيس وتارا إلى إيجاد حلول سياسية مستدامة وشاملة للأزمات التي تعرفها القارة وخاصة منطقة غرب إفريقيا، مبرزا أن صاحب الجلالة أشاد كذلك بقيادة الرئيس الحسن واتارا التي سمحت بتسوية سلمية لمختلف هذه الأزمات.