شكلت التجربة المغربية الرائدة في مجال العدالة الانتقالية، طيلة السنوات العشر الأخيرة، مصدر إلهام للعديد من الدول التي رأت في الرؤية الملكية السديدة لطي صفحة انتهاكات حقوق الإنسان بالمملكة، نموذجا يحتذى وشكلت أيضا مسارا من شأنه أن يضمن لها انتقالا سلسا إلى عهد جديد يجعل من تكريس حقوق الإنسان رهانه الأساسي، واحترام الكرامة الإنسانية على قائمة الأولويات. ولم تكن دولة تونس، وهي تخرج من عهد نظام "استبدادي" دام أكثر من ربع قرن تحت حكم زين العابدين بن علي، لتجد أفضل من التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية، وتجليها البارز المتمثل في هيئة الإنصاف والمصالحة، فتحذو حذو المغرب في مسار ناجح أطلقه صاحب الجلالة الملك محمد السادس منذ اعتلائه العرش، وما زالت المملكة تراكم بفضله منجزات أهلتها لتكون بحق نموذجا لدول المنطقة في مجال حقوق الإنسان عامة والعدالة الانتقالية على وجه الخصوص. فبعد ربع قرن من الزمان، تحت حكم اعتمد سياسات أمنية قائمة على القمع الشرس للمعارضة والاعتقالات والتعذيب وسوء المعاملة في السجون، علاوة على فساد سياسي واقتصادي ممنهجين، جاءت "ثورة الياسمين" لتفتح صفحة جديدة في تاريخ تونس، حيث برز مسؤولون سياسيون أفرزتهم صناديق الاقتراع، في خطوة يبدو أنها دشنت مسارا واعدا لتونس على درب الديمقراطية. ومما يدل على أن تونس بدأت بالفعل تتلمس طريقها نحو مستقبل يحترم التعددية السياسية ويكرس دولة الحق والقانون، ويطوي صفحة ماضي الانتهاكات حقوق الإنسان، إقرار المجلس التأسيسي في دجنبر المنصرم لقانون حول العدالة الانتقالية بالبلاد، يقوم على كشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات التي شهدتها البلاد خلال العهد السابق وجبر ضرر الضحايا قبل الانتقال إلى مرحلة المصالحة الوطنية. ويشكل هذا القانون، حسب الرئيس السابق للحكومة التونسية، "حلقة أساسية في تحقيق أهداف الثورة" من شأنه أن ينقل تونس إلى "مرحلة متقدمة في مجال محاسبة المذنبين في حق الشعب التونسي". ويهدف القانون الجديد إلى "تفكيك منظومة الاستبداد، والفساد السياسي والاقتصادي، وحفظ الذاكرة الوطنية المتعلقة بتاريخ تونس المستقلة في مجال حقوق الإنسان"، كما ينص على إحداث "لجنة الحقيقة والكرامة"، في مبادرة مستلهمة من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة التي أطلقها المغرب قبل أزيد من عشر سنوات. وجدير بالذكر أن تونس احتضنت قبل إقرار هذا القانون العديد من الندوات والورشات في إطار حوار وطني حول العدالة الانتقالية بهذا الخصوص، كانت تجربة المغرب حاضرة فيها بقوة، حيث ساهم في تأطير هذه اللقاءات العديد من الباحثين والحقوقيين المغاربة. ومن أبرز هذه اللقاءات، هناك الجلسة الافتتاحية لندوة "إطلاق الحوار حول العدالة الانتقالية بتونس"، التي نظمت بالعاصمة التونسية في أبريل 2012، وقدم خلالها رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان إدريس اليزمي، عرضا حول جبر الأضرار في ضوء تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة. وأكد اليزمي، في تدخله خلال هذه الجلسة، التي تميزت بحضور الرئيس التونسي منصف المرزوقي ورئيسي الحكومة والمجلس التأسيسي في تونس والعديد من المسؤولين الدوليين، أن التجربة المغربية راكمت مجموعة من "القيم المضافة" من شأنها أن تثري التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية. كما مثلت خصوصيات التجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية محور عدد من الندوات وورشات العمل التي نظمت في تونس في مارس 2013 في إطار فعاليات المنتدى الاجتماعي العالمي، أبرزت في مجملها أهمية استنساخ هذه التجربة باعتبارها آلية لتحقيق انتقال ديمقراطي سلس. ويبدو أن الاهتمام التونسي بالتجربة المغربية في مجال العدالة الانتقالية، والإشادة بدعم المملكة للمسار الديمقراطي في تونس، لم يتمظهرا فقط من خلال تنظيم هذا النوع من اللقاءات والورشات، وإنما تم أيضا الإعراب عنه بشكل صريح من طرف المسؤولين التونسيين خلال مباحثات جمعتهم بنظرائهم المغاربة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يبرز التصريح الذي أدلى به سفير تونس بالمغرب شفيق حجي، أخيرا، والذي أكد فيه أن "المغرب الشقيق كان من أول البلدان التي ساندت الثورة التونسية"، وكذا التصريح الذي أدلى به وزير الشؤون الخارجية التونسي منجي حامدي، إثر مباحثات أجراها مع نظيره المغربي في فبراير المنصرم بالرباط، والذي أشاد فيه بدعم جلالة الملك محمد السادس المستمر لعملية الانتقال الديمقراطي في تونس، مؤكدا أن "بلاده ترغب في الاستفادة من التجربة المغربية في جميع المجالات". ويبرز، من خلال هذين التصريحين وغيرهما، أن النموذج المغربي لا يغري تونس فقط في مجال العدالة الانتقالية، وإنما يقدم لها، أيضا، تجارب ناجحة في مجالات أخرى ليس آخرها ورش إصلاح الحقل الديني الذي أكد وزير الشؤون الدينية التونسي، منير التليلي، خلال زيارته للمملكة في مارس المنصرم، عزم بلاده الاستفادة من التجربة المغربية في هذا المجال، خاصة عبر تكوين وعاظ وأئمة تونسيين بالمغرب. والأكيد أن الزيارة الرسمية التي سيقوم بها جلالة الملك للجمهورية التونسية من 30 ماي الجاري إلى فاتح يونيو المقبل، بدعوة من الرئيس التونسي الدكتور محمد المنصف المرزوقي، تكرس اهتمام المغرب الكبير بتطوير علاقاته مع تونس في شتى المجالات، ودعمه المتواصل للمسار الديمقراطي الذي انخرطت فيه بخطوات ثابتة.(و م ع)