إدريس اليزمي: مسار العدالة الانتقالية لا يستقيم دون مساءلة الدولة حول إخلالها بالقواعد القانونية أو السياسية أو الإدارية قال إدريس اليزمي رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إن سر نجاح مسار العدالة الانتقالية في المغرب، يعود إلى «تلاقي الإرادة الملكية وطموحات الطبقة السياسية ومكونات الحركة الحقوقية المغربية للعمل على معالجة سلمية وتوافقية لتبعات النزاعات السياسية التي شهدها التاريخ المعاصر للمغرب، وللإرث الثقيل للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان». وأوضح اليزمي في تدخله، أول أمس السبت، بتونس خلال الجلسة الافتتاحية لندوة «إطلاق الحوار حول العدالة الانتقالية بتونس»، بحضور الرئيس التونسي المنصف المرزوقي ورئيسي الحكومة والمجلس التأسيسي في تونس والعديد من المسؤولين الدوليين، أن التجربة المغربية راكمت مجموعة من «القيم المضافة» من شأنها أن تثري التجارب الدولية في مجال العدالة الانتقالية. وبعد أن أوضح أن كل تجربة من تجارب العدالة الانتقالية التي شهدها العالم منذ بداية السبعينيات، تتميز بسياقها السياسي والاجتماعي والثقافي الخاص، قال إن هناك توجهات عامة ومبادئ أساسية توجه العدالة الانتقالية وتشترك فيها كل التجارب في العالم، ومن أهمها «وجود إرادة سياسية لإحداث تغيير أو مواصلته»، موضحا أن المقصود بالإرادة السياسية إرادة الدولة والطبقة السياسية مرفوقة بالتفاعل بين هذين الطرفين وبين مكونات المجتمع المدني. وأبرز في هذا السياق أنه «ما كان للمملكة المغربية أن تنخرط في مسار العدالة الانتقالية لولا تلاقي الإرادة الملكية، وطموحات الطبقة السياسية ومكونات الحركة الحقوقية للعمل على معالجة سلمية وتوافقية لتبعات النزاعات السياسية التي شهدها التاريخ المعاصر للمغرب، وللإرث الثقيل للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان». وأضاف اليزمي أن المبدأ الثاني الموجه للعدالة الانتقالية يكمن في العمل على «كشف حقيقة الانتهاكات والمسؤوليات عنها، دون إغفال تحليل السياقات السياسية والتاريخية التي صاحبتها، «لاستخلاص العبر والتحفيز على القراءة الحرة والشفافة للأحداث التاريخية»، مشيرا إلى أن جبر الضرر وتعويض الضحايا، يعتبر مرتكزا ثالثا من مرتكزات العدالة الانتقالية سواء تعلق الأمر بالأفراد أو بالجماعات. وأوضح، في هذا الصدد، أن ما ميز التجربة المغربية في هذا السياق هو اعتمادها على مقاربة النوع الاجتماعي في احتساب التعويضات المستحقة لضحايا الانتهاكات، وفي إعدادها لبرامج جبر الضرر الجماعي الخاصة بالمناطق التي عرفت ترديا تنمويا بسبب انتهاكات الماضي لحقوق الإنسان، إضافة إلى إسناد مهمة تتبع تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف المصالحة من قبل جلالة الملك إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان «كؤسسة وطنية مستقلة وذات سلطة اعتبارية» في هذا المجال. وأضاف أن مسار العدالة الانتقالية، «لا يستقيم(...) دون مساءلة الدولة أو أجهزتها في العلاقة مع إخلالها بالقواعد القانونية أو السياسية أو الإدارية»، مشيرا إلى أن الشكل والمنهج الذي ستسير عليه هذه المساءلة يظل «اختيارا سياسيا يرتبط بتقدير الأطراف المعنية للمصلحة العامة التي يمكن تحقيقها من ذلك». وقال إن قراءة لمسار الدول في هذا السياق، تبين أنه «غالبا ما يؤخذ بصيغة المحاسبة السياسية العامة لأجهزة الدولة وليس للأفراد، كما هو الأمر بالنسبة للتجربة المغربية، أو تتخذ بعدا معنويا وأخلاقيا كما هو الحال بالنسبة لتجربة جنوب إفريقيا». وفي سياق متصل، شدد رئيس المجلس على أن المصالحة في أدبيات العدالة الانتقالية، تعبير هي «الهدف الاستراتيجي لتسويات ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان»، موضحا أن المقصود بذلك «المصالحة السياسية والاجتماعية، بحكم أنها غالبا ما تسبق الأشكال الأخرى من المصالحة». وأشار إلى أن تجربة المغرب تعد»خير دليل على ذلك، حيث أنه لم يكن من الممكن فتح قنوات الحوار وحل المشاكل وملفات الماضي، لو لم تسبق ذلك مصالحات صغيرة، اكتست صبغة تراكمية بين الطبقة السياسية المعارضة والسلطة في المغرب، تخللتها مفاوضات أدت إلى انفتاح مهم قلص من درجة الاحتقان السياسي، وساهم في تنقية وتلطيف الأجواء». وبعد أن أشار إلى أن الإصلاحات المؤسساتية والتشريعية والسياسية، ذات الصلة المباشرة بدعم حقوق الإنسان وحريات الأفراد والجماعات، تعتبر «ضمانا استراتيجيا لعدم تكرار انتهاكات الماضي، أوضح أن ما عرفه المغرب منذ بداية التسعينيات من صيرورة من الإصلاحات، على المستوى الدستوري والمؤسساتي، فتحت أوراشا هامة ساهمت في تقدم تسوية هذا الملف، كما جعلت من هذا المسار أيضا أحد آليات هذا الإصلاح. وأبرز أن العديد من الأوراش التي فتحت في إطار تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة توجت بما «كرسه الدستور المغربي الجديد، من تأكيد على التزام المملكة المغربية بمبادئ وقيم حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، والتنصيص على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، ومنع جميع أشكال التمييز، وحظر التعذيب، وجميع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان». وأضاف أن الوثيقة الدستورية نصت أيضا على جملة من المبادئ الأساسية من بينها قرينة البراءة، والحق في المحاكمة العادلة، وحرية الفكر، والرأي والتعبير، وحرية الصحافة وتعزيز المساواة بين الجنسين والتأكيد على مبدأ المناصفة، وعلى إرساء دعائم استقلال السلطة القضائية، عبر إحداث المجلس الأعلى للسلطة القضائية، والرقي بالمجلس الدستوري إلى محكمة دستورية باختصاصات موسعة. وتهدف هذه الندوة، التي تنظمها وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية بتونس، بتعاون مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إلى الخروج بتصور عام حول كيفية تحقيق العدالة الانتقالية في هذا البلد والمساهمة في إعداد قانون خاص في هذا الشأن، في أفق إنشاء هيئة مستقلة لكشف انتهاكات الماضي.