كانت الشمس على وشك المغيب، والمكان مقهى قبالة الفندق الذي تستقر به بعثة المينورسو بمدينة العيون حيث التقت "المغربية" بأحد الشخصيات البارزة في ملف الصحراء، كان يشغل منصبا أمنيا في جبهة البوليساريو، والتحق بأرض الوطن عائدا من مخيمات تندوف قبل بضع سنوات، فيما بعض من أفراد عائلته وأقربائه ما زالوا هناك، ومازالت العلاقات والاتصالات قائمة ومستمرة، وهو الآن يعمل على جبهتين "الجبهة الداخلية" للتطبيع مع من يسمون ب"انفصاليي" الداخل بهدف ثنيهم عن السير في هذا الطريق، ثم "الجبهة الخارجية" على صعيد المخيمات الموجودة فوق التراب الجزائري، من أجل استعادة صحراويي المخيمات والعودة بهم إلى أرض الوطن. انضم إلى الطاولة، التي جمعت "المغربية" بهذه الشخصية، شاب في الثلاثين من العمر، كان ضمن مجموعة التامك، قضى بعض الوقت في السجن ثم غادره بعد قضاء العقوبة الحبسية، وهو الآن "وحدوي" يصارع نفسه بنفسه ضد أفكار انفصالية اعتنقها ومارسها، ثم تخلى عنها ليجد نفسه في مواجهة مجموعة من رفاقه، الذين مازالوا يرددون صدى جبهة البوليساريو. اللقاء فتح الشهية ل"المغربية" من أجل القيام برحلة في دروب الشباب، الذين يضعون أنفسهم في مواجهة السيادة الوطنية، والجلوس معهم والاستماع إليهم، ومعرفة من يقف خلفهم؟ وكيف يدبرون تحركاتهم؟ وما هي مخططاتهم؟ بعد تبادل الأفكار والتحاليل المرتبطة بمشكل الصحراء داخليا وخارجيا، كان الطريق ممهدا لحضور وجبة عشاء في بيت الشاب الصحراوي، الذي أبى إلا أن يشارك في النقاش انفصاليون أراد أن يظهر لهم ما ظهر له من حقائق قلبت الموازين لديه، وجعلته يرى مشكلة الصحراء من زوايا أوسع من تلك التي يظنها الجميع. عشاء يجمع وحدويين و"انفصاليين" في حي شعبي بالعيون بعد صلاة العشاء، كان حوالي 9 أفراد، أعمارهم تتراوح بين العشرين والخمسين سنة، أي أن جيل ما قبل المسيرة (1975) وجيل ما بعدها، سيجتمعان حول مائدة العشاء. البعض متشبث بمغربية الصحراء، والبعض الآخر يجادل في ذلك، إسوة بمن ساروا خلف النظام الجزائري المناهض للوحدة الترابية للمغرب، ولم يكن بين الحاضرين أي عنصر نسوي، فالمجتمع الصحراوي، رغم ما للمرأة فيه من حرية في التفكير والتعليق والإدلاء بالمواقف والآراء، إلا أنه مجتمع محافظ بامتياز. قبل انطلاق الحديث كان هدف "المغربية" هو الوصول إلى الأسباب الحقيقية التي أدت بأولئك الشباب إلى السقوط في الشراك الجزائري، فجزء كبير منهم ازداد بعد تاريخ انطلاق المسيرة الخضراء، ونشأ في أحضان أسر مؤمنة أشد الإيمان بمغربية الصحراء، ولهذا، كان الأمر يستدعي البحث في مواقفهم، انطلاقا من زوايا تاريخية وسياسية واقتصادية. تاريخيا، اشتد الخلاف حول أصل الإنسان الصحراوي، فأطروحة الانفصال تصور لأتباعها أنهم من أصول يمنية ولا علاقة لهم بالمغرب، وذلك بهدف ضرب الأنساب الحقيقية وتفتيت وشائج القبيلة، التي تشكل نواة المجتمع الصحراوي، ولم يكن من الصعب، خلال الحديث الملتهب، التغلب على هذه الفكرة، لأن أحد "الانفصاليين"، الذي كان يدعي انتماءه العرقي لآل ملكة سبأ باليمن، فاجأه أحد الوحدويين بسرد أسماء أجداده، إلى أن قال بأنه يتحذر من سلالة الشيخ سيدي أحمد الرقيبي، واعترف بنفسه أنه إدريسي، وأن جده الأكبر هو من شمال المغرب، وليس من بلاد سبأ. سياسيا، يتذرع "الانفصاليون" بحق تقرير المصير، وهي فكرة ترعاها الجزائر من أجل فصل الجزء الجنوبي للمغرب عن شماله، معتقدين أن قيام دولة مستقلة ستكون منطلقا لتقدمهم على الصعيدين الإقليمي والدولي، وهو أمر علق عليه صحراوي وحدوي ساخرا "سيكون تقدما شبيها بتقدم دولة جنوب السودان!". فالحديث من الزاوية السياسية بين الوحدويين و"الانفصاليين" يأخذ طابعا كوميديا في بعض الأحيان، خاصة عندما يدرج الوضع السياسي والديمقراطي في الجزائر، التي ترعى الانفصاليين، لمقارنته مع الوضع السياسي والديمقراطي في المغرب، ولم يكن من الصعب على الفريق الوحدوي أن يثير انتباه خصمه إلى ما يجري في الجزائر، مستدلا ببرنامج حواري كانت تبثه قناة "النهار" الجزائرية، وكان الموضوع حول "ترشيح بوتفليقة المريض لولاية رئاسية رابعة". كانت القناة الجزائرية هي الأخرى ضيفة العشاء، وكان المتحاورون في البرنامج، الذي كان بصدد البث، خير شاهد على ذبح الديمقراطية في الجزائر. ولم يكن من الصعب على الفريق الوحدوي أن يدفع خصمه للاعتراف بأن طغمة جنرالات الجزائر هي من تحكم وهي من تقرر سياسة البلاد، ويتساءل صحراوي "إذا كان الشعب الجزائري يعاني الويلات بسبب تحكم عسكريين في مصيره، فكيف نسلم رقابنا إلى أولئك العسكريين كي يقرروا مصيرنا؟". اقتصاديا، اشتكى الشباب من البطالة والفراغ والعوز، حتى أن أحدهم قال إن "ما كان يدفعنا لرفض مغربية الصحراء هو ما يدفعنا لرفض الواقع"، مستدلا بأحداث كديم إزيك، وقال "إن التظاهر في اكديم إزيك، في عام 2010، كان بدافع الاحتجاج على أوضاع اقتصادية واجتماعية، شأنه شأن أي احتجاج في هذا الموضوع في أي مدينة أخرى في المغرب، لكن خصوم الوحدة الوطنية أرادوا أن يلبسوه ثوب الانفصال فوقعت الكارثة". يتوق معظم الشباب إلى العمل، ويرفضون فكرة الاستفادة من اقتصاد الريع، وحسب اللقاءات التي أجرتها "المغربية" مع فئات واسعة من الشباب، سواء في العيون أو الداخلة أو السمارة، فإنهم يفضلون الانخراط في مشاريع التشغيل الذاتي، على العمل في وظيفة، كل حسب مؤهلاته ومستواه وتطلعاته، وتبدو القطاعات السياحية والصيد البحري وتربية الإبل والتغذية أكثر المجالات التي تستهويهم. الخطر الآتي من لاس بالماس استقت "المغربية" معلومات عن خارطة تحركات الانفصاليين من شاب صحراوي كان عضوا نشطا في مجموعة أميناتو حيدر، وانسحب منها فيما بعد، إذ قال إن "جبهة البوليساريو كانت تحلم بأن يكون لها أنصار داخل المدن الصحراوية المغربية"، كاشفا عن لقاء سري جمع بعض عناصر "انفصاليي الداخل" بمسؤول في جبهة البوليساريو بالعاصمة الجزائرية، بحضور مسؤولين جزائريين عام 2009، وقال لهم المسؤول في البوليساريو، "كنا عام 2003 نحلم بإيجاد أصوات جريئة داخل المغرب تطالب بالانفصال، والآن صار لنا جمهور بفضلكم". يقول الشاب الصحراوي "منذ وقف إطلاق النار عام 1991، اشتغلت جبهة البوليساريو على مخطط أعدته أجهزة الاستخبارات الجزائرية، وكانت تتحين الفرصة لإيجاد امتداد لها داخل التراب الصحراوي المغربي، ولم يبدأ العصر الذهبي لتنفيذ هذا المخطط إلا بعد إعلان المغرب التزامه بتغيير مفهوم السلطة وإقرار ديمقراطية حقيقية، والسماح للمتظاهرين بالخروج إلى الشوارع بكل حرية". إن سعي المغرب ليكون ديمقراطيا وفر لخصومه فرصة استغلال تلك الديمقراطية في ضرب وحدته ومصالحه، وبدأت أولى الاتصالات الفعلية مع العناصر المؤهلة للعمل في الجبهة الانفصالية، انطلاقا من المغرب، منذ عام 2001، وجرى التقصي والبحث حول أبناء الصحراء، الذين لهم سوابق مع أجهزة الأمن والقضاء والسلطة، ولديهم قابلية للانخراط في مشروع مناهض للوحدة الترابية المغربية. من أجل عدم إثارة انتباه الأجهزة الأمنية في المغرب لهذا المخطط، عمدت جبهة البوليساريو، بتوجيه من الاستخبارات الجزائرية، إلى إبقاء الاتصالات بعملائها في المغرب في السر، كمرحلة أولى، وكان لا بد من إيجاد عناصر "انتحارية" تقطع خط العودة، وتواصل العمل ولو كلفها الأمر حياتها. لإنجاح العمل في هذه المرحلة، كانت الاتصالات الأولى تجرى عبر أطراف ثالثة في لاس بالماس، كان بعضها من جنسية إسبانية دخلت مسرح العمليات بقبعة منظمات المجتمع المدني، وتوطدت علاقاتها بعناصر انفصالية، وبدأ المسلسل بتقديم شكاوى ضد المغرب في مجال حقوق الإنسان، عم صداها القارة الأوروبية ووصل إلى الولاياتالمتحدة، حتى تكونت صورة عن تلك العناصر لدى الرأي العام الدولي، واشترك في هذا العمل منظمات حقوقية أوروبية وأمريكية ووسائل إعلام، كانت تتلقى حصتها من الدعم المالي الذي يقدمه النظام الجزائري. أما تمويل العناصر الانفصالية داخل المغرب، فكان يأتي من لاس بالماس، في بداية الأمر، ثم انتقل التنسيق والتمويل إلى محطات في مدريد وباريس وفي العاصمة الجزائرية نفسها، لكن لاس بالماس تبقى أول قاعدة سلمت فيها الرسائل، ووزعت الأدوار، ومنها برز اسم أميناتو حيدر والتامك وآخرين، وأصبح لهم موقع في الإعلام الدولي، وحان وقت إخراجهم إلى الوجود. في عام 2009، حصلت البوليساريو والجزائر على قياديين انفصاليين داخل المغرب، يتوفرون على حماية دولية، وأصبح الوقت مناسبا لاستثمار عملهم خارج النطاق السري، وبدأ مسلسل استفزاز السلطات المغربية، عندما أقدمت أميناتو حيدر، في صيف 2009، على ملء استمارة الدخول بمطار العيون، قادمة من جزر الكناري، بعبارة "القدوم من لاس بالماس - التوجه إلى الصحراء الغربية"، ما جعل السلطات المغربية تعيدها إلى مطار لاس بالماس، حيث مكثت رابضة في المطار، معلنة إضرابا عن الطعام، وتحولت بسرعة البرق إلى مزار دولي لوسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان. يقول الشاب الصحراوي الذي كان يعمل في خليتها "كانت المجموعة تنسق مع وسائل الإعلام الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، وكانت تسعى لجر السلطات المغربية إلى منطقة التصادم، واعتبر طرد أميناتو هدية من السماء كانت المجموعة تسعى إليها"، مضيفا أن مسار أميناتو، التي اعتقلت عام 2005 وأفرج عنها، وحصلت على تعويض لجبر الضرر، ومنحت جائزة حقوق الإنسان روبير كينيدي عام 2008، تربت تحت جناح الاستخبارات الجزائرية، وكانت مادة جاهزة للاستخدام في مراحل لاحقة، وصلت حد استقبالها كضيفة شرف في قمة الاتحاد الإفريقي في ماي 2013، وأصبح لها أتباع ينشطون باستمرار لإنتاج مزيد من الاستفزاز وإحداث مزيد من الشغب. أعراس وهمية بأعلام جبهة البوليساريو كشف مسؤول سام ل"المغربية" أن السلطات منفتحة على الحوار مع العناصر الناشطة في مجموعة أميناتو حيدر والتامك وغيرهما، وقال "نحن نعرف من هم، وكم عددهم، ونعرف، أيضا، الجهات التي ينسقون معها في الداخل والخارج، إنهم أبناؤنا قبل كل شيء"، واستطرد قائلا إن "مشاكلهم مزيج من المواقف السياسية والنفور الاجتماعي والعوز الاقتصادي، وهم مستعدون للتراجع عن مواقفهم". لكن المسؤول السامي أضاف أن "بعض العناصر قطعت خط العودة، ولم يعد باستطاعتها الرجوع إلى الوراء، لأنها حصلت على شهرة دولية، وامتيازات مالية كبرى، وارتبطت بعمل استخباراتي معقد". تتكون شبكات العملاء الناشطين لفائدة الاستخبارات الجزائرية داخل المغرب من أشخاص يتوزعون عبر مدن الصحراء المغربية، كما ينتشرون في الأوساط الطلابية داخل الجامعات في مختلف مدن البلاد، وينقسمون إلى خلايا تعمل وفق تراتبية هرمية، يوجد على رأسها "قادة الشبكات"، وهم عبارة عن قادة نشطاء يتوفرون على علاقات مباشرة وعلنية مع جبهة البوليساريو والنظام الجزائري، ويحظون بمتابعة إعلامية إقليمية ودولية وعناية مدفوعة الأجر من قبل منظمات حقوقية دولية، ويتحركون في الداخل والخارج، بناء على أجندة معدة سلفا لدق المسامير في الجسم المغربي. في المرتبة الثانية، يأتي المؤطرون المحليون، وهم النخبة الناشطة على مستوى التنسيق الداخلي، التي تعمل إداريا من أجل عقد الاجتماعات، وتنظيم اللقاءات، وتحديد مواعيد الاحتجاجات وأشكالها، وقيادة أعمال الشغب، وإدارة مواقع إليكترونية معادية، وتتلقى هذه الفئة تعليماتها مباشرة من قادة الشبكات، وتعتبر نفسها الذراع اليمنى لزعماء بدأ نجمهم في الصعود، تقتدي بهم وتتنافس في ما بينها لبلوغ ما بلغه رؤساؤها من شهرة وحضور في الإعلام. في المرتبة الثالثة، توجد فئة الأيادي العاملة (المؤطرون الميدانيون)، المشكلة من الشباب العاطل وأصحاب السوابق والعبثيين، مهمتهم الخروج إلى الشوارع، ورشق قوات الأمن بالحجارة، وتمزيق الأعلام المغربية، ورفع أعلام البوليساريو، ونشر الفوضى وخلق الاضطرابات، يتلقون تعليماتهم من المؤطرين المحليين، فهم المادة الخام التي تحركها القيادات المحلية، ويعمل عليها القادة النشطاء، وتتبجح بها جبهة البوليساريو. تدفع القيادة الميدانية مبلغ 2000 درهم لمن يحرق العلم المغربي، و2000 درهم لمن يرفع علم البوليساريو، وتصل مكافأة إثارة الشغب واستدراج قوات الأمن للاشتباك إلى 5000 درهم، وتبلغ سومة إخراج حشد من المتظاهرين إلى الشارع 15 ألف درهم إذا تعدى عددهم 60 فردا. من جهتها، تعمل المصالح الأمنية الوطنية بمختلف تشكيلاتها على ضبط تحركات هذه الجماعات وتحاصرها بذكاء لا يثير الانتباه، وتنهج الخطط الاستباقية لوأد المؤامرات التي تدبر في الخفاء، فهذه المجموعات تتحين كل الفرص لإشعال النار في المدن الصحراوية، الأمر الذي يجعل المصالح الأمنية متيقظة على مدار الساعة، وملتزمة في الوقت نفسه بالقيام بمهامها في ظل احترام مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. صادفت "المغربية" ليلة الرابع من مارس الجاري انطلاق عرس وهمي في تمام الثانية صباحا بموكب سيارات، ويرافق العريس والعروس مجموعة من المدعوين المزعومين، توقفوا بضعة دقائق أمام مبنى الفندق الذي يقيم فيه أفراد بعثة المينورسو بمدينة العيون، مرتدين أزياء بألوان علم البوليساريو، وكان الغرض هو استدراج قوات الأمن لمداهمتهم أمام أعين أفراد البعثة الأممية، وهي حركات اعتادها سكان المدينة، وعلق عليها أحد الصحراويين باللهجة الحسانية بما معناه "لا يميزون بين الناقة والجمل، ويريدونها مثل داحس والغبراء". نظرة الصحراويين لأفعال "الانفصاليين" رغم مرور قرابة أربع سنوات على أحداث كديم إزيك، مازال الصحراويون في العيون يذكرون ما يسمونه ب"النهار لكحل"، الذي عمت فيه الفوضى وأضرمت النيران في المؤسسات العمومية والمحلات التجارية، وأحرقت سيارات وسادت مظاهر الخراب، يومها كان عملاء الاستخبارات الجزائرية ينفذون مخططا جهنميا بأيادي شباب صحراوي، استدرج على مر سنوات من التخطيط ليكون حجرا في يد أعداء استقرار وسلام المغرب ووحدته الوطنية. يذكر مواطن (36 سنة)، أب لأربعة أطفال، يتحدر من الداخلة، ويستقر في العيون، مظاهر الفوضى في ذلك اليوم ويرويها بحزن شديد، مشيرا إلى أرملة سورية كانت برفقة أطفالها الثلاثة تتسول المارة، وقال "كانوا يريدون لنا الشتات عبر دول الجوار مثلما حدث تماما لسوريا وشعبها"، وزاد بنبرة حادة "يستكثرون على أهلنا هذا الاستقرار، ويريدونها أرضا محروقة". "الأرض المحروقة، والشتات، وانتهاء زمن الأمن"، مصطلحات يتعوذ من ذكرها الصحراويون بالله الرحمن الرحيم، فالوعي الشعبي حاضر لدى سكان الأقاليم الجنوبية بأهمية الاستقرار، ويدركون جيدا مدى خطورة الانفلات الأمني، ولهذا يعرفون جيدا أن من يرشق شرطيا بالحجارة، أو يضرم النار في مكان عمومي، أو يخرج إلى الشارع لبث الفوضى، هو شخص مستأجر لدى طرف آخر، يريد بالصحراء وأهلها شرا. تعمل الاستخبارات الجزائرية على دفع الأطفال والشباب للمواجهة مع السلطات الأمنية، وتعول كثيرا على عملية احتجازهم لدى مراكز الأمن، من أجل دفع الآباء والأمهات للاحتجاج، فالصحراويون شديدو الحساسية تجاه أبنائهم، وكل فرع في التركيبة القبلية يمثل قيمة للأصل، والدفاع عن الولد دفاع عن الأب والقبيلة والعشيرة، لكن هذه القاعدة، رغم رسوخها في ثقافة المجتمع الصحراوي، إلا أنها تراجعت لفائدة قاعدة أخرى، وهي قاعدة الحفاظ على الأمن والاستقرار، إذ دونها لا مكان للفرد والقبيلة والمجتمع، وبالتالي، أصبح سكان الصحراء ينظرون بعين مستقلة عن العاطفة تجاه من يريد نسف الخيمة، التي تؤوي الجميع. كما أن الوعي بالظروف السياسية والإلمام الكبير لدى الصحراويين بالملابسات التي تحيط بقضية الصحراء، جعلتهم يميزون بين الخطأ والصواب، ومكنتهم خبرتهم مع قوى الاستعمار الإسباني، وإدراكهم للأطماع الجزائرية في الصحراء، من معرفة من يقف خلف أعمال الشغب ومن ينفذها والغاية من إطلاقها، لذلك لا يتفاعل الصحراويون كمجتمع بالسلب مع عمليات إلقاء القبض على مرتكبي أعمال الشغب، فهم يعتبرونهم عملاء، ولهذا لا يجد الموقوفون، خلال محاكماتهم، من يقف إلى جانبهم، باستثناء أفراد الشبكات التي ينشطون داخلها وبعض المنظمات الأجنبية، التي لا تربطها بالصحراويين أي صلة إلا صلة المال الجزائري. (وقع تجنب ذكر الأشخاص بأسمائهم أو الإشارة إلى صفاتهم نزولا عند رغبتهم)