شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة تنفيذا لوصيته شيعت جنازة المفكر العربي البارز محمد أركون، بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء، بحضور عدد كبير من أصدقائه وأفراد أسرته وعائلته، الذين قدموا من الجزائر مسقط رأسه، وفرنسا مقر إقامته وعمله، حيث كان يدرس تاريخ الفكر العربي الإسلامي بجامعة السربون بباريس. يعد محمد أركون، الذي توفي، في باريس، عن عمر ناهز الثانية والثمانين، من أبرز المفكرين العرب، الذين أحدثوا ثورة إبستمولوجية ومنهجية في الفكر العربي الإسلامي، من خلال إخضاعه النصوص الدينية للتحليل والدراسة وفقا لأحدث المناهج العلمية. اختار أركون أن يدفن بالدارالبيضاء، لأنه أحب المغرب والمغاربة، واختار الاستقرار فيه بصفة نهائية منذ حوالي 20 سنة، مع زوجته المغربية ثريا اليعقوبي، دون أن ننسى البعد الرمزي المتمثل في تطلعه إلى بلاد مغاربية موحدة لا حدود بين أجزائها (المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا)، فوصيته كانت بمثابة رسالة فكرية وسياسية من أجل توحيد المنطقة المغاربية، لأنه كان مغاربيا حتى النخاع مخلصا لجذوره ومنفتحا على الحداثة. اختيار أركون المغرب ليكون مثواه الأخير، حسب زوجته، "يرجع ليس فقط إلى الروابط العائلية والودية، وإنما أيضا، لأنه كان يرى في المغرب ميلادا لأندلس جديدة مفتوحة على جميع الثقافات والديانات، بلد يرد ذكره في العالم كنموذج بالنظر لقيادة عاهله المتبصرة". أوصى أركون، الذي اعتاد أن يقضي أوقاتا طويلة بالمغرب، يربط خلاها اتصالاته الوثيقة بالجامعيين المغاربة، الذين كان يكن لهم مشاعر ود وتقدير خاصين، بإنشاء معهد عالمي لعلم الأديان المقارن بالمغرب، وحجته في ذلك ما ينعم به المغرب من تسامح ديني بين المسلمين والنصارى واليهود وكل الأديان والملل. بخصوص المشروع الفكري للراحل محمد أركون، الذي أصبح مند مدة ليست بالقصيرة جزءا من النخبة المفكرة في المغرب، وكان دائم الحضور في مختلف اللقاءات الفكرية التي يحضرها مختلف المفكرين المغاربة، يقول المفكر المغربي محمد سبيلا "إن رحيل محمد أركون يعتبر نهاية لإنتاج فكري نقدي يتسم بالتجديد، ويتقاطع مع القراءات الثابتة للتراث الإسلامي"، ويضيف سبيلا أن أركون يعتبر واحدا من أصحاب القراءات الجديدة، التي يعتبر الجابري والطيب تيزيني، وحسن حنفي وآخرون، من روادها فهي قراءة لا تمجد التراث، بل تخضعه للفحص العلمي، انطلاقا من الأدوات الفكرية الحديثة، أي معطيات العلوم الإنسانية والاجتماعية الحديثة الكونية مستقاة من الغرب، مشيرا إلى أنه أضاف للفكر العربي الحديث عددا من المفاهيم الجديدة والمهمة، التي حقن بها أركون الفكر العربي الإسلامي، أو الدراسات العربية الإسلامية، فهو يدعو إلى ما يسميه بلا مفكر فيه، أي الأشياء التي لم يتمكن الفكر الإسلامي من التفكير فيها، أو التي منه وحرم من التفكير فيها. فهو لم يختصر على ما جرى التفكير فيه، بل يسلط الضوء على ما لم يجر التفكير فيه، سواء من طرف السلطة السياسية، أو السلطة الدينية، أو البنية الثقافية السائدة في العالم العربي الإسلامي. ويتمثل مشروع أركون الفكري الرصين في إنتاج ثقافة الأسئلة، بمنأى عن كافة المسلمات الجاهزة، وصولا إلى المسكوت عنه واللامفكر فيه في الثقافة العربية الإسلامية، ويحرص أركون على كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية، التي تعوق التقدم وتعرقله. يقضه سؤال العقل الإسلامي في شرطيه المعرفي والتاريخي، وكيفية تجاوز الواقع الراهن لدخول الحداثة. يعد المفكر الجزائري، المولود في منطقة القبائل عام 1928، صاحب مشروع فكري حداثي، ومدرسة ذات أطروحات خاصة، أثارت جدلا واسعا في الأوساط الفكرية العربية، لأنه اختار حقولا شائكة في الفكر والتاريخ والنص الإسلامي. اتسعت معاركه الفكرية شرقا وغربا، إلى درجة أن مؤيديه يعتبرونه مجددا وفاتح آفاق جديدة في الفكر والثقافة العربية والإسلامية، ومفكرا ثائرا ومتحررا من كل المقولات الكلاسيكية، فيما اعتبره معارضوه متفرنسا وتلميذا للاستشراق، ومسوقا للتبعية الثقافية. عبر مسيرته العلمية الممتدة على مدى أربعين عاما، سعى أركون، إلى تجذير مفهوم "الأنسنة" في الفضاءين العربي والإسلامي، وظل مهتما بهذا المشروع حتى آخر أيامه، إذ كان آخر ما صدر له باللغة العربية كتابان هما: "الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي"، و"نحو نقد العقل الإسلامي"، قام فيهما بنوع من المراجعة والتقويم الإجماليين لأفكاره المنشورة منذ أربعين سنة.