شكل المغرب عبر التاريخ فضاء جذب للكثير من الوافدين عليه، فهناك من اتخذه محطة انطلاق نحو فضاءات أخرى، وهناك من فضل الإقامة فيه. وتحتفظ ذاكرة أزقة ومقاهي وفنادق أشهر المدن المغربية، مثل طنجة، ومراكش، وفاس، والصويرة، بسجلات كاملة عن العديدة من الشخصيات الأجنبية المعروفة يعد الفنان الفرنسي هنري ماتيس، من أبرز الفنانين التشكيليين في القرن العشرين، الذين ارتبطت أعمالهم بالمغرب، خصوصا بمدينة طنجة، حيث كان ماتيس يفضل قضاء أوقات طويلة في طنجة، وكان دائم التردد على الغرفة 35 من فندق"ڤيلا دي فرانس"، المعلمة السياحية والتاريخية آنذاك، ومنها رسم الكثير من لوحاته، التي أرخت لفنه الصباغي ولمدينة طنجة التي سافرت في لوحاته إلى أشهر المتاحف العالمية. من خلال الغرفة رقم 35، كان زعيم المدرسة الوحوشية، الذي تفوق في أعماله على أقرانه، باستعمال تدريجات واسعة من الألوان المنتظمة، في رسوماته التي كانت تعنى بالشكل العام للمواضيع، مهملة التفاصيل الدقيقة، يطل على طنجة كلها، ونافذته كانت في حد ذاتها لوحة، وإطلالة واحدة عبرها كانت توحي له بعشرات اللوحات، ولم يكن ينقصه الحافز لكي يحول باستمرار فضاء طنجة إلى ألوان. جاء ماتيس إلى طنجة في مناسبتين معروفتين، وبعد ذلك تكررت هذه المناسبات. أول مرة زار فيها هذا الرسام الفرنسي المدينة كانت سنة 1912، حط الرحال بها في شتاء 1912، وقضى بها وقتا قصيرا، لكنه لم يغب عنها طويلا، وعاد إليها في فبراير 1913، ليكتشفها بكل تفاصيلها. كان ماتيس دائم العشق للغرفة 35 لأنها عينه، التي يرصد بها سكون المدينة الحالمة. عبر خليج طنجة الممتد في زرقته وبهائه. كما كان يرصد تفاصيل المدينة العتيقة والأسوار البرتغالية، وخلف ذلك جبال الأندلس، التي تبدو قريبة جدا من نافذته. لعبت طنجة بسحرها، الذي لا يقاوم دورا كبيرا في تفتق مواهب ماتيس، مثلما لعبت لوحاته المستوحاة من فضاءاتها الحالمة، دورا كبيرا في دفعها، نحو الشهرة، إذ باتت طنجة، عبر أزيد من 60 لوحة، في قلب أشهر دور العرض العالمية، ما جعلها محجا لمزيد من الفنانين والمثقفين والزوار من كل الأصناف، وبينهم رسامون كثيرون أيضا. ولد ماتيس في قرية كاتو كامبيسس شمال شرق فرنسا في ديسمبر 1869، ولم يبد أي نبوغ مبكر، إذ لم يكن يطمح يوما أن يكون رساما. التحق بمدرسة ابتدائية في مدينة سان كوانتان، ودرس القانون لمدة عامين في باريس، وأثناء عمله مساعد محام، بدأ يتحسس موهبته، وقرر دراسة الفن في أكاديمية جوليان، وهناك لاحظ أستاذه موهبته. تأثر ماتيس في بداية مساره الفني، بأعمال الفنانين الانطباعيين بباريس، وبهرته ألوان قوس قزح وسعى للوصول إلى لون خالص في لوحاته، وظهر ذلك جليا في لوحته "مائدة الطعام" التي رسمها في العام 1897 بالألوان الزيتية. أثارت تجربته الفنية، غضب العديد من الفنانين الفرنسيين. اضطر للسفر إلى لندن بصحبة زوجته وابنته لمشاهدة لوحات الرسام الإنجليزي جوزيف تيريز، ثم عاد للعيش في جزيزة كورسيكا لتؤثر فيه المناظر الطبيعية للجزيرة. ومن زيادة حبه للجنوب الفرنسي رسم عددا من المشاهد الطبيعية، ورغم أن السنوات اللاحقة كانت صعبة عليه من الناحية المادية، إلا أنه لم يستسلم، واستغرق في الرسم، في الوقت الذي عملت زوجته لدى صانع قبعات. راودته العودة إلى معهد الفنون الجميلة، لكنه قوبل بالرفض، بحجة أنه تجاوز سن الثلاثين من العمر. في سنة 1939 انفصل ماتيس عن زوجته بعد زواج دام 41 عاما. وفي سنة 1941، أجرى جراحة استئصال القولون، بعد إصابته بسرطان القولون، وبعدها أصبح يتنقل على كرسي متحرك. كانت يقوم على رعايته امرأة روسية، كانت إحدى موديلاته في السابق. بمعاونة مجموعة من المساعدين قدم ماتيس مجموعة أعمال "كولاج"، وكانت سلسلة لوحاته العارية الزرقاء من أشهر الأمثلة على هذه التقنية. وفي سنة 1947 نشر كتابه "جاز"، وكان يحتوي على لوحات مطبوعة ملونة بتقنية "الكولاج"، مرفقة بالعديد من الأفكار. كما عمل في "الغرافيك" وقام بإنتاج مجموعة الرسومات التوضيحية بالأبيض والأسود لعدد من الكتب وأكثر من 100 "ليتوغراف" في استديوهات مورلوت في باريس. وفي سنة 1951 انتهى ماتيس من مشروع استغرق أربع سنوات، لإنجاز تصميم المدخل، والنوافذ الزجاجية والديكورات الخاصة بكنيسة ڤونس. في سنة 1952 افتتح متحفا يضم كل أعماله، وتعتبر مجموعة أعمال ماتيس ثالث أكبر مجموعة في فرنسا. وبعد صراع مرير مع المرض، توفي ماتيس بنوبة قلبية في سن 84 عام 1954، ودفن بالقرب من نيس. وفي نونبر 2010، بيعت إحدى لوحاته في مزاد بنيويورك بحوالي 50 مليون دولار أمريكي.