أشجار وارفة الظلال تغطي مساحة شاسعة، على نحو لا يتضح معها المستودع المعروف ب"هنكار" معسكر الكولونيل البكاي في الدارالبيضاء، بعدما تدلت أغصان هذه الأشجار الكثيفة، وجعلت البيوت المشيدة داخل "الهنكار" تشبه أوكارا مظلمة نساء الجنود يكشفن عن واقعن ومحيطهن وحدهم السكان يعون قساوة العيش وسط هذه البيوت التي لا تدخلها الشمس، ليضطروا إلى اعتماد الأدوية للتعايش مع أمراض الحساسية والربو ماداموا لا يجدون لها بديلا، بعد أن رخصت لجنود المعسكر المحاذي ل"الهنكار" الإقامة فيها كسكن وظيفي، رغم خلوها من مواصفات السكن اللائق، حسب إفادات بعض السكان. لأن "هنكار" معكسر الكولونيل البكاي، كان في الأصل مكانا لتخزين قطع غيار الطائرات وتجميعها، حسب رواية بعض السكان، فإن بعض المتلاشيات ما تزال قائمة به، لكن بعض الجنود وزوجاتهم استطاعوا أن يتأقلموا ولو اضطرارا مع هذا الوسط، فشيدوا بإمكانياتهم الخاصة والمحدودة غرفا أشبه ببيوتات صغيرة بقلب "الهنكار"، واعتقدوا بوجودهم داخله، أن الأمر سيكون مؤقتا، إلى أن مضت حوالي 26 سنة عند بعضهم، أيقنوا أثناءها أن إمكانية الاستقرار في منازل أخرى، مستبعدة، حتى في ظل الاهتراء الذي يطغى على الفضاء، بل إنهم تفاجأوا على حين غرة بأنهم مهددون بالرحيل تحت طائلة الإفراغ، بعدما تفاءلوا لفترة وجيزة أنهم سيعوضون عن سنوات قضوها في مكان لا يطاق (رطوبة ونتانة وظلمة)، بمساكن أكثر راحة وسكينة، خاصة أنهم عاينوا عن كثب استفادة جيرانهم، أخيرا، من السكن، إذ أوحي لهم بأنهم سيكونون أيضا معنيين بهذه الاستفادة، لكن الأمر يخص فقط الجنود المتقاعدين "الإفراغ، هذا ما كان ينقص في خضم جملة مشاكل اجتماعية وصحية ونفسية"، تتحدث بعض نساء "الهنكار"، بما يعكس أن حجم المعاناة بلغ حدا لا يطقن معه تحمل المزيد من المشاكل، وإفراغهن من "الهنكار" سيقضي عليهن، حسب تعبيرهن، في تأكيد منهن أن "الهنكار" وإن كان لا يمت بصلة بشروط العيش الكريم، فهو يوفر نوعا من الاستقرار. جولة واحدة داخل "الهنكار" تكفي لليقين بأن الوجود به صعب للغاية، فرطوبة الفضاء منتشرة على نحو يخنق الأنفاس، إلى جانب تصدع الجدران وتراكم بعض النفايات وركام الحجارة، بما يبعث على السأم، وسكان "الهنكار" لا يجدون لتلك الفوضى بدا غير التعايش معها على مضض والتطلع إلى بديل أفضل. وبين تلك الغرف الآهلة بالسكان، غرف مهدمة فضل أصحابها أن يتركوا بعض الخردة فيها، ما ضيق الخناق أكثر على باقي السكان، خاصة أنهم يعانون انتشار الجرذان التي قيل عنها إنها "مشكلة عويصة"، ما عبرت عنه إحدى النساء بالقول "ما حيلتنا للقهرة ما حليتنا للفيران اللي عايشة معانا هي أو كل أنواع الحشرات". الحشرات.. ضيف ثقيل تومئ إحدى النساء برأسها على نحو تريد به الكشف عن ذراعيها اللتان طالتهما لدغات الحشرات، لتفيد أن الرطوبة التي تكتسح "الهنكار" تستقطب بشكل كثيف الحشرات (الصراصير والبعوض)، والسكان لا يملكون غير اقتناء الأدوية للعلاج من لدغاتها وكذا العلاج من مرض الحساسية والربو، حتى إن جل إمكانياتهم المادية تصرف في هذا الجانب، تذكر ذلك بعض النساء بنبرة قانطة. إن العيش في وسط محفوف بالمخاطر، (جدران متصدعة وانعزال عن بعض المرافق الاجتماعية)، ليس أمر سهلا في نظر سكان "هنكار" معكسر الكولونيل البكاي، حسب إفاداتهم ل"المغربية"، لهذا هم يطمحون لنقلهم إلى مكان أفضل يراعي إنسيتهم وأحقيتهم في الاستقرار الاجتماعي والنفسي، ولأن "الهنكار" ليس في الأصل مكانا للسكن، فالسكان حاولوا أن يتحايلوا على الظروف وشيدوا به غرفا، كل حسب المساحة التي منحت لهم، جزاء على خدمته العسكرية، غير أن أدوات البناء لا تساعد على الراحة، حيث إن "القصدير" الذي يعلو سطح هذه الغرف يجلب لهم الحرارة في فصل الصيف والبرودة في فصل الشتاء بشكل مفرط، وحدة ذلك تربك وجودهم بالغرف على نحو مريح، لهذا ذكرت إحدى النساء أنهن "يعشن الموت البطيء مع أطفالهن وسط هذا الهنكار، ولا أحد من المعنيين يعبأ بواقع أسرجنود تفانوا في واجبهم المهني". موقع "الهنكار" البعيد عن المرافق كالمدارس والدكاكين والأسواق والحمامات وغيرها وانحصاره بين أشجار كثيفة، يبعث على الخوف لدى النساء، خاصة في الأوقات الباكرة أو المتأخرة من اليوم، ما يضطرهن إلى مصاحبة أطفالهن إلى المدارس، واعتماد المواصلات قصد التبضع وقضاء مصالحهن، وهو أمر شاق، خاصة أنه إجراء يومي لا مفر منه بالنسبة إليهن. ضعف الحيلة جمالية الأشجار المخضرة وأوراقها المتدلية على جنبات "الهنكار"، لا تعكس للزائر للوهلة الأولى أنها تحجب واقعا مريرا بالنسبة للسكان، إذ لولا ضعف الحيلة لما ظلوا قابعين في هذا "الهنكار" وفق ما أكده بعضهم ل"المغربية". "قتامة "الهنكار" لا تشجع على المكوث فيه، لكن الحاجة إلى الاستقرار دفعتهم إلى ذلك"، تحكي ذلك سيدة أتعبها الوجود وسط غرفة ضيقة وجدرانها متآكلة بسبب الرطوبة، مضيفة أن محيط "الهنكار" يفتقر إلى الإنارة العمومية، وهذا مشكل يعمق مأساة السكان، خاصة بالنسبة للنساء اللواتي يضطررن إلى مرافقة أبناءهن للمدارس في أوقات مختلفة. حين حاول السكان تسخير "الهنكار" لصالحهم من خلال بناء غرف مجهزة ولو بشكل بسيط، ببعض التقنيات كتبليط الجدران وتركيب الصنابير والمصابيح وبناء مرحاض خاص بكل أسرة، ظل مشكل قنوات الصرف الصحي يطرح نفسه، ماعدا تلك المجاري غير المهيكلة التي خلقها السكان بأنفسهم لصرف الفضلات، إنما لم تكن بالشكل المطلوب. لم يجد بعض نساء الجنود، ما يرد عنهن تلك الروائح الكريهة المنبعثة من "الهنكار"، رغم محاولاتهن اليائسة باستخدام بعض الوسائل، للحيلولة دون انبعاثها كمواد "الكافور والخزامة"، لكن دون جدوى، تفيد النساء بلهجة ساخرة، في إيحاء منهن أن "مشكلتهن لا تنفع معها هذه الإجراءات التقليدية، بل إنها أعمق من ذلك، وهو ما يدعو إلى نقل الأسر التي تقدر بحوالي 12 أسرة إلى مساكن أخرى، بدل الحكم عليها بالإفراغ، بعدما اجترت لسنوات ظروف عيش مريرة، وواقع الحال مازال يشهد إلى الآن على ذلك"، تتحدث بعض النساء بأسلوب جاد ينم عن دعوة صريحة إلى تدخل المعنيين لتسوية المشكل. الإفراغ.. لسعة مؤلمة كان الأمل في تعويض سكان "الهنكار" بسكن آخر، ما يزال واردا لديهم، لكن استفادة بعض الجنود المتقاعدين، أخيرا، وإقصاء البعض الآخر من هذا الامتياز، لم يترك للسكان المتضررين من حكم الإفراغ خيارا، غير طرق أبواب الجمعيات ومراسلة بعض المسؤولين لإعادة النظر في مشكلتهم، التي قالوا إنها "تقض مضجعهم، وتزيد حسرتهم على واقعهم المتردي"، ما عبرت عنه إحدى القاطنات ب"الهنكار" بالقول:" إن الحشرات والفئران تعودت علينا، كما نحن تعودنا عليها، لكن طفح الكيل ونريد حلا لأزمتنا الاجتماعية والنفسية"، بلغة صارمة تضيف سيدة أخرى أنها "لم تعد تحتمل أن تظل ساهرة كل ليلة، لمحاربة الباعوض وهو يلسع أطفالها دون رحمة، وحكم الإفراغ ليس حلا من هذه اللسعات، بل هو لذغة أكثر إيلاما، خاصة أن السكان عاجزون عن توفير مسكن بديل". تستغرب نساء الجنود كيف أن أسرهن أقصيت من حق الاستفادة من السكن، في وقت مايزال رجالهن يؤدون خدمتهم العسكرية، واعتبرن ذلك إجحافا، على الأقل فالواقع المأساوي داخل "الهنكار" يشفع للأسر حتى تكون ضمن الأسر المستفيدة من السكن، في ظل برامج محاربة دور الصفيح والسكن العشوائي، حسب تصريح بعض النساء، اللواتي استرسلن في الحديث للتعبير عن حاجتهن إلى التفاتة المعنيين بالأمر والوقوف عند حجم معاناتهن. من جهتها، ذكرت السعدية ابوديرات، عضو مكتب "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، فرع الدارالبيضاء، أن "نساء الجنود تطوعن بدل أزواجهن للخروج إلى الوقفات الاحتجاجية، قصد تسليط الضوء على مشكلتهن، فكان ذلك بمثابة خطوة مهمة، زرعت نوعا من الثقة في نفوسهن وجددت لديهن الأمل في أن هناك فرصة للتعاطي مع ملفهن المطلبي بجدية أكثر"، مضيفة أن "العيش ب"الهنكار" هو ضرب من الإهمال والتهميش، لهذا على المسؤولين أن يعوا ذلك، وبدل تشريدهم بدعوى حكم الإفراغ، لا بد من توفير مسكن لهم يحمي أبناءهن من الضياع في متاهات الفقر والحاجة إلى الأمان". رعب حقيقي تصدع جدران "الهنكار"، تحت تأثير الرطوبة وعامل الزمن (القدم)، جعل من سقفه يتهاوى بين الفينة والأخرى على السكان، ولأن الحظ حالفهم أكثر من مرة، لم يقعوا ضحايا لهذه الشقوق، إنما ذلك لا يعني أنهم تخلصوا من هذا المشكل، الذي يزيدهم الطينة بلة. بنظرات متفحصة ترفع إحدى القاطنات ب"الهنكار" رأسها نحو الأعلى، بما يفيد أن سقف "الهنكار" مرتفع جدا، بشكل يجعل من سقوط قطعة منه أكثر قوة وخطرا، والسكان يجهلون كيف يردون ذلك عنهم، ماعدا التزام الحيطة والحذر، تقول السيدة "نعيش رعبا حقيقيا داخل هذا "الهنكار" وخوفنا يكبر حينما نرى أطفالنا قد يكونوا ضحايا هذا الواقع". تتشعب مشاكل سكان "هنكار" معكسر الكولونيل البكاي، لتتشعب معها معاناتهم، وشساعة المساحة الخضراء التي يتميز بها موقع "الهنكار"، لا تسمح بامتصاص سخط النساء ،اللواتي أكدن أنهن "غير مستعدات للرحيل ما لم يحسم في مشكلتهن على نحو عادل ومنصف"، إنه "الصبر وحده ما يملكنه، إلى حين اليقين بأن المعاناة مؤقتة ستزول بزوال اللامبالاة لحال أسرهن".