كثر الحديث هذه الأيام حول مهرجان "ماطا"، وتصاعد الجدل حول أصل كلمة "ماطا" وهويتها، خصوصا أنها طقس من طقوس الفرجة والترويح عن النفس تتأسس على قوة التحمل والسرعة، وتؤمن بالمنافسة الشريفة. فرسان بني عروس يتأهبون لبدء المنافسة (خاص) شهدت اللعبة هذه السنة تحولا كبيرا، إذ أصبحت لعبة وطنية رسمية تؤرخ لمدة ثلاثة أيام، لفنون الفروسية في الهواء الطلق. وقوتها تأتي من ماضيها التليد، ومن الرعاية السامية لصاحب الجلالة، والرئاسة الشرفية للأميرة للا أمينة مهرجان. عدها باحثون من التراث المغربي المحض، واعتبرها آخرون مسلكا من مسالك المتصوفة، إذ ارتبطت بالعارف بالله القطب الجليل مولاي عبد السلام بن امشيش، الذي أعجب بها، أثناء زيارته لمسقط رأس الإمام البخاري مدينة بخارى، حيث عاين أناسها يتدربون على الفر والكر منقادين ومشدودين لهذه اللعبة، التي تقوي سواعد الرجال وتحتهم على الصبر والجلد، وتعرف هناك باسم "البوسكاشي". عن ظروف نشأة "ماطا"، التي أصبحت جزءا من تراث قبائل بني عروس، وعن هويتها وعن تاريخها ومعناها، ترصد "المغربية" واقع اللعبة في بلاد جبالة، كما تسائل باحثين عن أصلها، وتسلط الضوء على لعبة أخرى، في قبائل الباشتون والطادجيك والتركمان، وتكشف الفرق بين لعبة جبالة السلمية، ولعبة البوسكاسي العنيفة. فارس وفرس وعروس يختلف الكثيرون حول أصول "ماطا"، لكنهم يجمعون على أنها لعبة حربية بامتياز، ممزوجة بمعاني الحب وتقاليد الكرم والوفاء والتطوع خدمة للآخر، وطموح للدفاع عن شرف القبيلة وقيمها وتقاليدها. وفي هذا السياق يقول ابن المنطقة الباحث عبد المولى الزياتي إن لعبة ماطا كنسق طقوسي، احتلت صدارة اهتمام مجموعة من الباحثين الأنتروبولوجيين، وتتميز هذه اللعبة الفريدة من نوعها، بأسلوب تنظيمي محكم، أساسه حب ركوب الخيل، الذي أوصى عليه الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل"، وخلق علاقة حميمة بين الفارس والفرس. ويوضح الزياتي أن"ماطا" لعبة روحية قبل أن تكون جسدية، لأن امتدادها الزمني يعود إلى قطب المتصوفة عبد السلام بن امشيش، الذي أسس ضوابطها الفنية والمادية، مفيدا في تصريح ل"المغربية" أن أجواء الاحتفال بهذه اللعبة الإنسانية السلمية، تتجاوز كل ما هو ظرفي، لتخلق دائرة التعاون والتضامن المستدام. ويبدأ التفكير في طقوس هذه اللعبة، حسب الزياتي، قبل الربيع، إذ يهيء أعيان القبائل كل حيثيات هذه اللعبة، انطلاقا من ترويض الفرس عبر تدربيات مكثفة، لأن منطق اللعبة يفرض أن يمتطي الفارس صهوة فرسه من دون عدة السروج، في إشارة إلى علاقة حميمة بين الفارس وفرسه. وترمز الدمية المكونة من عيدان القصب، والمزينة بقطع مختلفة من الثوب، حسب الزياتي، إلى المكانة التي تتبوؤها المرأة في المنطقة، فهي رمز الخصب والشرف، يعتبر ضياعها من يد الفارس والمجموعة المكلفة بحمايتها وصمة عار على جبين السربة، التي تكون ملزمة باسترجاع العروس من السربة الظافرة، ما يتعين على الأعيان القيام بمساع تتمثل في الانتقال إلى قرية الفارس المظفر مع تقديم فدية قبل أن يجري تسليم العروس إلى أهلها ليعودوا بها إلى القرية، فتحفظ، إما في ضريح أو عند أحد أعيان القبيلة. ولفت الزياتي إلى أن لعبة ماطا لا تستقيم إلا بتنظيم محكم وفروسية مهذبة، تختلف كثيرا عن البوسكاشي في بلدان آسيا الوسطى. وحول هذه المبارزة الفروسية التي تجري في أحضان الطبيعة، ويتنافس فيها أمهر فرسان بني عروس والقبائل المجاورة على دمية (ماطا) الحبلى برمزية الخصوبة عند الإنسان والطبيعة، يقول جعفر الوهابي العلمي العروسي، أستاذ باحث مهتم بالتصوف، إن هذا الموروث الحضاري، الذي يميز شمال المملكة، يشكل امتدادا مجتمعيا للمدرسة الصوفية المشيشية في حث الناس على التحلي بالشجاعة ومقاومة العدو. وأوضح أن "ماطا" تعني في اللغات الهندوسية الأم، وفي اللغة الإسبانية القتل والمصارعة "ماطادور"، وتلتقي كل هذه الدلالات اللغوية في العربية وفي غيرها من اللغات، حسب الباحث، عند فعل المطو، أي من مطا يمطا مطوا، وإمطاء ومطيا، ثم مطاء أي الصاحب والرفيق، وتعني كلها امتطاء الخيل والجدة في السير والسرعة والمنافسة. ومن شروط اللعبة وفارس شجاع يتقن الكر والفر وحصان مدرب قد يصل ثمنه إلى 200 الف درهم من "البوسكاشي" إلى "ماطا" يلاحظ المهتمون والدارسون الاجتماعيون أن هناك تشابها ببن لعبة "ماطا" و"البوسكاشي" التي تمارس بأفغانستان، وتشير بعض المصادر إلى أن مولاي عبد السلام بن امشيش استلهم هذه اللعبة حينما زار ابن بخارى، وأعجب بها. وتعني البوسكاشي بالأفغانية شد المعزة، بين أزيد من 50 فارسا يتحدرون من قبائل مختلفة، ورغم أنها ترفيهية إلا أنها تتميز بعنف وخشونة قد يودي بحياة الفارس. في حين تتميز لعبة "ماطا" بروح السلم، والمبارزة تجري في أجواء هادئة يطبعها التنافس الشريف، وكل فارس له الحق في الاحتفاظ على قوته وشكيمته للدفاع عن بلده ودينه، ورغم أنها لعبة حربية تطمح إلى الدفاع عن شرف القبيلة وقيمها وتقاليدها، إلا أنها تحمل معاني إنسانية خالدة، ممزوجة بمعاني الحب والكرم والوفاء والتطوع لخدمة الآخر. الجهاد ضد الاحتلال الصليبي جغرافيا، يقع حوض بني عروس، الذي بزغت هذه اللعبة في تربته وتحت سمائه، في قلب بلاد جبالة، وتحيط به مشاهد طبيعية خلابة، تتمثل في جبال الأطلس المتوسط الغني بالموارد الطبيعية، وفي ثغور المحيط، خصوصا العرائش وأصيلة، التي تربط المنطقة بالعالم الخارجي. المنطقة غنية، أيضا، بتاريخها، ورجالاتها الذين وسموا المنطقة بميسمهم الخاص، وبالزوايا الدينية من قبيل الزاوية الشادلية، التي دفن مؤسسها وقطبها مولاي عبدالسلام بن امشيش العلمي بقمة جبل العلم. هذا القطب الصالح الذي امتدت تعاليمه الدينية خارج الحدود، ووصلت طريقته إلى البلدان الإسلامية، انطلاقا من مبادئه الروحية. سافر القطب الأكبر إلى بلاد بخارى وعاين أهلها يتدربون على الفر والكر منقادين ومشدودين للعبة تقوي سواعد الرجال وتحتهم على الصبر والجلد، وتعرف هناك باسم "البوسكاشي". وبعد عودته إلى قبيلته بني عروس، قرر إرساء قواعد اللعبة مع إدخال تغييرات عليها، لتدريب الشباب على امتطاء الخيل وإتقان الفر والكر، لتحرير الشواطئ المغربية، التي كانت ترزح تحت سيطرة الاحتلال الصليبي. وكان مولاي عبد السلام بن امشيش يتقاسم العمل مع الفلاحين، ويضرب المثال في العمل الجاد والسلوك الحسن، وكان يعتمد على نفسه في تأمين غذائه وكل حاجياته، واعيا بدوره الاجتماعي والتربوي، الذي يجب أن تلعبه الطريقة المشيشية الشادلية، من خلال مبادرة الفعل والمسؤولية بين المواطنين في علاقاتهم الروحية والدينية تجاه وطنهم. من لعبة حربية إلى فرجة مسالمة في إطار فرجوي واحتفالي معا، تنهض لعبة "ماطا"، أو لعبة التحدي، كما يحلو للكثيرين من فرسان قبائل بني عروس تسميتها، على ثنائية خاصة، وهي العلاقة الحميمة بين الفرس والفارس، علاقة لها امتدادات عبر التاريخ، حيث الزمن يعيد دورته، وتعيد قبائل بني عروس تقليدا قديما من تراث المنطقة الشمالية، ويعد هذا المكون الاجتماعي جسرا واصلا بين حاضر فاعل، ومستقبل قيد التكوين. لعبة "ماطا"، الفريدة من نوعها في المشهد المغربي، التي أصبحت مرتبطة بمهرجان ينتصر للفارس والفرس معا، ترتكز على مسابقة يتنافس فيها فرسان قبيلة بني عروس، وبني كرفط، وسوق الطلبة، إذ يتسابقون حول من ينتزع دمية صنعت من القصب، زينت بلباس من صنع قرويات المنطقة، تحيل على رموز الخصب والعطاء، ويحيل هؤلاء الفرسان بجيادهم المدربة، على العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة، وبين العلاقة الحميمة بين الإنسان والحصان من جهة أخرى. مناسبة للاحتفاء بموروث المنطقة يشكل مهرجان "ماطا" ببرنامجه الغني مناسبة للاحتفاء بالموروث الثقافي والفني لمنطقة بني عروس، من خلال مجموعة "زهجوكة" بقيادة البشير العطار، ومجموعة "الطقطوقة" بقيادة شيخ الفن الجبلي محمد لعروسي، ومجموعة الحاجة رحوم، ومجموعة كناوة الشمال ومجموعة الحسني، وجلال شقارة، والتهامي الحراق، ومحسن زكاف، كما يشكل أيضا، مناسبة للاحتفاء بكل الفنون الوطنية، من خلال سعيدة شرف، وفؤاد زبادي، وغيرهما من الفنانين المغاربة، الذين شاركوا في الدورة الأولى للمهرجان. من المحلية إلى العالمية شهدت "ماطا" هذه السنة تحولا كبيرا، إذ أصبحت لعبة وطنية رسمية تؤرخ في ثلاثة أيام، لفنون الفروسية في الهواء الطلق. وتأتي قوتها من ماضيها التليد، ومن الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، والرئاسة الشرفية للأميرة للا أمينة. على المستوى التنظيمي سهرت الجمعية العلمية العروسية للعمل الاجتماعي والثقافي، التي تترأسها نبيلة بركة، على إنجاح الدورة الأولى لمهرجان "ماطا"، بقرية زنيد جماعة أربعاء عياشة العرائش، بولاية طنجة تطوان. وتهدف هذه التظاهرة، حسب نبيلة بركة، إلى التعريف بالموروث الحضاري والثقافي لقبيلة بني عروس، وإبراز المؤهلات الطبيعية والاقتصادية التي تتميز بها، وربط جسور التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. وأوضحت نبيلة بركة، في تصريح ل"المغربية"، أن الجمعية، التي تحظى بالرئاسة الشرفية لصاحبة السمو الملكي الأميرة للا آمينة، رئيسة الجامعة الملكية المغربية للفروسية، تهدف بالأساس، إلى تنظيم هذه التظاهرة، والتعريف بها دوليا، مشيرة إلى أن الجامعة الملكية ستعمل على وضع قوانين وقواعد لممارستها، لتصبح لعبة وطنية تمارس بمختلف جهات المملكة وفق ضوابط محددة، في أفق إحداث منتخب وطني. وأكدت بركة أن الدورة الأولى من مهرجان "ماطا"، التي حضرها ضيوف ومهتمون بالخيل من كافة أنحاء المعمور، تضمنت مجموعة من الأنشطة الفنية والثقافية، إلى جانب تنظيم عروض لمنتوجات الصناعة التقليدية، التي تشتهر بها المنطقة.