جمال الدين بنحدو ليس طارئا على الكتابة، فسبق أن نشر ديوانه الأول "شهدة ملحونية"، الذي قدم له عضو الأكاديمية المغربية الدكتور عباس الجراري، سنة 2006 إضافة إلى مقالات نظرية وفكرية ذات طابع تنويري في ميدان الموسيقى، وتحديدا في فن الملحون، كما أنه يؤصل الدرس الموسيقي، باعتباره باحثا من جهة، وأستاذا في التعليم العالي من جهة أخرى.. وها هو اليوم يدخل محراب التدقيق والتنقيب عن أصول هذه الرحلة، الفنية الموسومة بالجدة، من بابه الواسع، حاملا إزميل المعرفة لتأسيس مادة ثرية وغنية في تاريخ الموسيقى وعلاقتها بالدين، ويتعلق الأمر بمؤلف اختار له عنوان"مدخل إلى تاريخ موسيقى الأديان". كما أنه يعكف حاليا على مراجعة مسودات ديوان جديد، أطلع "المغربية" على متنه، واستقر على عنوان "روح الملحون"، ويتضمن 15 قصيدة منها ما تتغنى بالوطنية، وأخرى تراثية عاطفية واجتماعية، لإعادة الاعتبار لهذا الميثاق الفني والمعرفي وتقريبه للمهتمين بفن الملحون، والمولعين الشباب بهذا اللون الغنائي المغربي الخالص. موضوع "مدخل إلى تاريخ موسيقى الأديان"، الذي ارتضاه الباحث بنحدو، لم يكن فعلا، نصا عاديا، وإنما استثمر فيه صاحبه منهجا علميا في البحث، خصوصا أن ميدان الموسيقى الدينية، مجال بكر لم يطأه قلم أي باحث مغربي، وكل الدراسات التي شملته بالتعهد والرعاية، تظل ناقصة، ركزت على جانب الصورة الموسيقية، في حين أن الباحث بنحدو استطاع، إلى حد ما، أن يقدم نصا منفتحا على عوالم موسيقى الأديان، متمترسا وراء منهج علمي تنقيبي تدقيقي، مخلصا لأدواته الإجرائية وحدسه الباطني وصوفيته، التي يستمد منها عبق فكره الروحي. يشتمل المؤلف الجديد، الذي صدر عن دار "الأوائل" السورية في طبعة أنيقة، صممت غلافه باسمة عرفة، ودقق لغته ومراجعته، إسماعيل الكردي، على 140 صفحة من الحجم المتوسط، كما أن الأوائل، التي تعتز بنشرها لهذا النص، خصصت صفحات لمجمل إصدارات الدار، بهدف إخبار القراء بثمرات مطابعها. "مدخل إلى تاريخ موسيقى الأديان"، سجل معرفي وذهني معا، فصاحبه انطلق من الجزئي إلى الكلي، مسترشدا بمقولة المتصوفة في بحثهم عن الحقيقة، "إذا ضاقت العبارة اتسعت الإشارة"، فإشاراته واضحة، حينما يزيل الغشاوة عن تاريخ فن تعددت فيه التأويلات والتجريح والتشريح بين من يرى في الموسيقى "رجس من عمل الشيطان"، ومن يرى فيها الجمال والطمأنينة الروحية والنفسية. وأحسب هنا أن جمال بنحدو طرح وجهتي نظر الفريقين، وخلص إلى أن جميع الديانات انتصرت للموسيقى ولا يوجد نص يحرمها بشكل يقيني، وإنما هناك فقط، حسب الكاتب بنحدو اجتهادات لا تسمو إلى تحريمها. عن هذا الجانب، يقول بنحدو في مقدمة الكتاب إن ما دفعه لتأليفه، هو اهتمامه بالموسيقى كعلم وكظاهرة وجدانية ذات سحر أسطوري تجعل من الكائن البشري أن يرقى إلى مستوى يعلو به عن مصاف الحيوان، ليصير إنسانا كاملا، وإيمانه الراسخ بملازمة الموسيقى، بكل تمظهراتها للبشر عبر تاريخه، ومنذ ظهوره على أرض البسيطة، وملازمته كذلك على المستوى الفردي، حيث تلاحقه منذ أن يكون جنينا وإلى أن يوارى الثرى. ويكشف بنحدو أن هناك أسبابا ذاتية وموضوعية، هي التي كانت وراء اختياره موضوع الدين وعلاقته بالموسيقى، قائلا "فأما الأسباب الذاتية، فمن بينها إبراز ذلك الانسجام الروحي الذي أحسه وأعيشه أثناء قيامي بواجباتي الدينية، ودخولي عالم التأمل، الذي يربطني بعلاقة روحانية ووجدانية بالله سبحانه وتعالى، وعلاقتي بالموسيقى، التي تنقلني من عالم إلى آخر، والتي أدركتها وأنا أحاول أن أخطو خطواتي، الأولى على درب الحياة. أما الأسباب الموضوعية فيجملها المؤلف في قلة الأبحاث التي اشتغلت على هذا الموضوع، بل ربما انعدامها، ما جعله يبحث هنا وهناك عما ذكر في الكتب السماوية، وكتب التاريخ أحيانا، وكتب الموسيقى أحيانا أخرى. ويضيف بنحدو أن "هناك أفكارا ظلامية ظلت تروج لمقولة إن الموسيقى منافية للدين وللعلم والبحث العلمي جعلت من أغلب العلماء يقتصرون على السمع والتطريب، عكس الفحص والتمحيص، كما أن ما عاشته مجتمعاتنا الإسلامية من فترات ظلامية جعلت من المجالات العلمية والدينية تطرد الموسيقى لتنمو بشكل غير صحي ومشوه داخل دوائر الجهل والأمية". في سياق بحثه، الذي استغرق مددا متفرقة فرضتها ظروف البحث والتنقيب، يرصد بنحدو تاريخ جماليات التواصل الإبداعي في إطار الثقافة السمعية الكونية، مبرزا التقاطعات، والتباينات الخلافية بين الشعوب والحضارات، إذ اعتمد مقاربة، يأتي في أولها، المنهج التاريخي، الذي يستمد أسسه العلمية من الأنثربولوجيا الاجتماعية، والأركيولوجيا، والنقد المقارن. وبعيدا عن كل انطباعية وصفية، حاول الباحث التأريخ لأبرز ثوابت، ومتغيرات الثقافة السمعية المتعلقة بالتواصل دون السقوط في خلل المعايير التقييمية، وسيادة الانطباعات المختزلة. لذلك جاء العمل الإبداعي مقسما إلى ثلاثة فصول، حمل أولها "مفهوم الموسيقى: قضية المحتوى والشكل"، ويضم ثلاثة أبواب منها "ماهية الموسيقى"، و"الغناء والمفاهيم المرتبطة به ومدى علاقتها بالموسيقى؟"، و"الغناء الروحي: الموسيقى الروحية أو الدينية". أما الفصل الثاني فيحمل عنوان "الموسيقى في عصر ما قبل التاريخ"، ويضم أيضا، ثلاثة أبواب أولها يتمحور حول "الموسيقى في العصر الباليوتيكي"، وثانيها حول" أولى الحضارات الموسيقية"، وثالثها حول "الحضارة الموسيقية المصرية الفرعونية، آلهة الموسيقى: والتدوين والكتابة الموسيقية، عند الفراعنة". في حين يحمل الفصل الثالث عنوان "الموسيقى والأديان السماوية الثلاث"، ويضم أيضا، ثلاثة أبواب يتمحور أولها حول "اليهود والموسيقى اليهودية"، والثاني حول "الغناء والطقوس المسيحية"، والثالث "موسيقى الدين الإسلامي". ومن أجل وعي بصري جيد، أرفق بنحدو هذه النصوص بمجموعة من الصور النادرة الدالة على فترات متفرقة، وعن حضارات انبنى مجدها الإنساني على الموسيقى. نحسب أننا بهذه القراءة، نقدم مادة نوعية جديدة للقارئ، ليس لأنها مادة خاصة بالموسيقى، فحسب بل لأنها يمكن أن تعد أيضا، سجلا توثيقيا نقديا ومعرفيا للباحثين والمهتمين بالموسيقى العالمية. كتاب يجد فيه القارئ والدارس ما يفي باحتياجاته للمعرفة في مجال ما يزال مغبونا في المكتبة العربية لندرة المادة التي تؤصل تاريخ الموسيقى عبر العالم القديم والحديث. ويبقى القول إن المجهود الفكري للباحث أكثر تحليلا وأقل تنظيرا، ويمنح للدارس العناصر الكفيلة بتمثل نظرية فكرية شمولية في مجال الموسيقى وعلاقتها بالمحيط، إذ حاول بنحدو أن يجيب عن سؤال جماعي، وهو علاقة الفن بالإنسان، باعتباره متلقيا ومتأثرا، تتنازعه منازل الجمالي والديني.