السيارات تمر واحدة تلو أخرى، بحي المعاريف في الدارالبيضاء، والمارة يعبرون الشوارع على نحو متثاقل، فلولا وجود الإشارات الضوئية المنظمة للسير لتشابكت حركة المرور فالفضاء مليء بالضوضاء والصخب، وزعيق السيارات والحافلات والدراجات يخدش مسامع المارة، ومع ذلك فحي المعاريف وجهة للباحثين عن التجديد في الموضة، ووجهة أيضا للقانطين من الفراغ والهدوء. كان صوت السيارات مزعجا، متواليا، والفضاء لا يناسب إلا للترجل والتملي في المحلات التجارية التي تستهوي بعض الوافدين لاقتناء بعض الماركات العالمية من الملابس والأغراض، ليظل سعرها المرتفع كافيا للكشف عن طبيعة حي المعاريف. مثلما كان بعض الناس شغوفين بالماركات العالمية، كان حي المعاريف يتوفر على مختلف المنتوجات التسويقية، ملابس وأحذية وعطور وأغراض أخرى، فيكفي أن يذعن الزبون للثمن المرتفع، حتى يحمل بين يديه حقيبة مسجلة باسم المنتوج العالمي. كان الوقت مساء، وفي مكان حيث أحد الشوارع الصغيرة يتصل بشارع المسيرة الخضراء، كان الخروج من زحام المواصلات والتوجه نحو طريق آخر أكثر هدوءا، صعبا، سيارات على امتداد الفضاء والناس يتدفقون في كل الاتجاهات، وبين الفينة والأخرى، حينما كانت منبهات السيارات والدراجات النارية والحافلات تزمجر، كانت الرغبة في التسوق لدى البعض، والرغبة في التجول لدى البعض الآخر، الحافز الأول على تحمل صخب المكان. جولة لساعة في حي المعاريف، كانت كافية للوقوف عند مشاهد طبعها الاكتظاظ، لكن وحدتها رغبة بعض الناس في التجوال بين شوارع وأزقة المعاريف، فالناس أمام إغراءات المحلات التجارية والمقاهي المتعددة، لا يريدون تفويت فرصة اكتشاف عوالم حي المعاريف، الذي تحول بفضل احتوائه على عدة مرافق وفضاءات به، إلى مركز تجاري وإداري واجتماعي، يفخر به البيضاويون، مادام تجمع فيه ما تفرق في غيره من الامتيازات في التسوق والسكن والفسحة، أو هكذا يراه البعض. الوافدون على حي المعاريف بالعاصمة الاقتصادية، ليسوا جميعهم قادرين على التبضع، بل بعضهم يكرس وقته للتجول والتعرف على مستجدات المحلات التجارية من باب إشباع الفضول. من أجل ذلك، كان يروق لبعض الوافدين ولوج المحلات التجارية، حتى يحظوا بمعلومات جديدة حول طبيعة وأنواع المنتوجات العالمية وأسعارها، التي غالبا ما تكون في ازدياد مطرد. "توين سانتر" ضجيج يتعالى من المقاهي الحاضنة لأعداد من الزبناء، وهم يرتشفون أكواب الشاي والقهوة، وبعضهم كان يتابع مشاهد تتغير في الخارج، إثر عبور المارة بمحاذاتهم، فقد كان منظر بعض زوار المقهى وهم يشرئبون بأعناقهم، يوحي على أن حي المعاريف، بقدر ما هو يكتظ بالوافدين عليه، بقدر ما يشجع على تبديد الوقت. بنايات المعاريف لم تكن لتتضمن زخارف أو نقوشا أو فسيفساء تخلد طابعا خاصا في البناء المعماري، البنايات كانت عادية ومتراصة إلى حد أنها صارت جميلة في نظر الكثيرين، فغياب نظيرتها في أحياء أخرى بالدارالبيضاء، جعلها مميزة، خاصة أنها معززة بمحلات ومراكز تجارية تعنى بجميع المنتوجات (ملابس وأحذية وعطور وحلي..). حيث تنتصب بناية "توين سانتر"، كان بعض المارة يرمقونها بإعجاب، وآخرون يمضون إلى وجهتهم المنشودة، فهم ربما ليست المرة الأولى، التي يعبرون فيها الطريق نفسه، لهذا بخطوات سريعة يواصلون السير. وفي الخلف كانت هناك منازل يبدو أن وجودها بالحي قديم، بنوافذها الكبيرة وطوابقها الدالة على متانة البناء، إذ تمتد الدور السكنية على نحو تفصل بين المعاريف الحديث والقديم، حيث يبدو فرق واضح بينها من حيث شكل البناء والمساحة والعلو، فكان ذلك يعزز لدى سكان حي المعاريف القديم، الثقة في الاستقرار بمباني تتسم بالجودة والصلابة في البناء، حسب شهادات بعضهم. كانت مريم شرقي، أنهت جولتها في حي المعاريف، وهي تبحث عن سيارة أجرة تقلها إلى بيتها، وبما أنها كانت مثقلة بأكياس، كان ذلك دعوة للاستفسار عن رأيها في المعاريف كفضاء للتبضع والتجول، إنه "مكاني المفضل، ويثيرني التسوق فيه"، بهذه العبارة المقتضبة تتحدث مريم، لتعتدل في وقفتها، مضيفة أنها "موظفة في قطاع خاص، وتحرص جدا على أن تخصص ميزانية لاقتناء بعض الأغراض، خاصة من محلات زارا وإيطام ومونكو"، وحتى تؤكد كلامها تشير إلى أكياسها قائلة إن "التبضع هو أمر مسل وضروري للحفاظ على التجديد في نمط الحياة"، هكذا ترى مريم الأمور، في حين تذكر حسناء السعدي، أن "المراكز التجارية بحي المعاريف، هي مراكز تحمل مواصفات عالمية، وقليل من المواطنين من يجرؤون على صرف مبالغ كبيرة في اقتناء الأغراض"، لتستطرد القول بنبرة هادئة "أفضل شراء الأحذية والملابس المخفضة السعر، في حين أكتفي بالتجول في المراكز الأخرى قصد التعرف على المستجدات ليس إلا"، مشيرة إلى أن "أغلب المنتوجات هي مثيرة لكن القدرة الشرائية ضعيفة مقارنة مع السعر الباهض". في هذه اللحظة، جرى استفسار أحد المواطنين، عبد الحميد نزار، عن رأيه في أن يضطره عمله إلى الوجود بحي المعاريف يوميا، ليحكي بنوع من التفاءل أن "العمل عنده ملائم بهذا الحي، لكن يتعذر عليه أحيانا ركن سيارته دونما أن يصرف وقتا أطول في إيجاد مكان شاغر لها"، مضيفا أن "طبيعة الحي تتوافق واختياراته، خاصة فيما يتعلق بالمقاهي والمطاعم"، معبرا عن ذلك بأسلوب ينم عن أنه راض بسعر تلك الخدمات. في حين تجد فاطمة الزهراء فاخر أن "التوافد على حي المعاريف، ليس أمرا متاحا دائما، نظرا للسعر الغالي الذي تتصف به أغلب منتوجاته، ومن ثمة فهي تختار مناسبة معينة كدعوة من الصديقات، بعد تخصيص مبلغ بسيط يسمح لها بالتبضع، وكذا الجلوس بأحد المقاهي والاستمتاع بوقتها مع رفيقاتها". الأناقة ..شرط للزيارة زيارة حي المعاريف، تعد لدى الكثيرين تميزا وإثارة، لهذا غالبا ما كان الوافدون عليه يتزينون ويتجملون حتى يطابق شكلهم مستوى المنظر العام للحي، حيث تتركز أفخم المقاهي والمحلات والأبناك والإدارات ومراكز التأمين، ومراكز الاتصال، ووكالات الأسفار ومراكز تأجير وبيع السيارات، والفنادق، ومحلات بيع الحلي والذهب، ومحلات لبيع الملابس والأحذية وصالونات التجميل وغيرها، ما عبرت عنه أسماء شكير بالقول إن "التكلم باللغة الفرنسية أول علامة تعكس أن الوافدين على حي المعاريف هم غير أولئك الذين يقصدون أمكان أخرى كوسط المدينة مثلا"، لتوضح أكثر أن "التأقلم مع طبيعة هذا الحي العصري يفرض على زواره أن يلبسوا أحسن ما لديهم ويترجلون فيه بخيلاء، وإن كان ليس كل الوافدين هم من الطبقة الثرية بالمغرب، لكن تقليدهم أحيانا في بعض الأمور ليس عيبا". وتذكر هند رشيق، أن "الرواج بحي المعاريف قائم، طيلة الأسبوع، حتى أنه يصعب الفصل بين الوافدين عليه قصد التبضع وبين موظفي الشركات والإدارات الموجودة به وبين القاطنين بدوره"، لتؤكد أن هذا الحي يشهد كل صباح سبت إقبالا متزايدا على محلاته ومرافقه التجارية، في حين يتحول في المساء إلى مرتع لللقاءات، لتغص المقاهي بالزوار على نحو مثير". وحسب شهادات بعض المواطنين، فإن حركية حي المعاريف لا تتوقف إلا بعد التاسعة ليلا، في حين تظل بعض المقاهي والمطاعم، خاصة تلك التي تستقبل الأجانب مفتوحة في وجه الزبائن إلى وقت متأخر من الليل، ما يضطر الزوار إلى دفع 100 درهم لسائق سيارة الأجرة الصغيرة، كسعر قار للنقل خلال هذا الوقت". شهادة رجل ستيني بعدما اعتاد بعض البيضاويين على أن يجدوا في الترجل بين أزقة وشوارع وسط الدارالبيضاء، خاصة شارع محمد الخامس، امتيازا خاصا لا ينوون التخلي عنه، فإنهم اليوم يتذكرون كيف كان وسط المدينة خلال سنوات الخمسينيات يتميز بالتمدن والتحضر. فحسب محمد البيضاوي، رجل ستيني وأحد الرياضيين السابقين، شغفه تاريخ مدينة الدارالبيضاء، فإن وسط المدينة كان يحدده البيضاويون في الخمسينيات بدءا من درب بنجدية إلى "بلاص دوفرونص" الذي تحول في ما بعد إلى اسم شارع محمد الخامس، كما تحول بعد ذلك اسم "بولفار دولاكار" إلى اسم ساحة محمد الخامس، وكانت وفق ما أفاد به محمد البيضاوي، عمارة ذات 17 طابقا ببنجدية، حينئذ، تعتبر من أكبر العمارات بالمدينة وتتميز بجمالية فريدة في البناء. بلهجة يشوبها الحنين إلى الماضي، يحكي محمد البيضاوي أن السوق المركزي ظل مزارا يفخر به البيضاويون، إذ كان هناك متجر تجاري يسمى "باري ماروك"، حرفه البيضاويون إلى اسم "بني مروك"، يرتاده النخبة، شأنه شأن باقي المرافق، كالمسرح البلدي، الذي استدعى أشهر الفرق الفنية، وقاعات السينما، مثلا سينما "ريالطو" التي كانت أشبه بمسرح عريض. ولم يغفل محمد البيضاوي التذكير بأن شارع الأمير مولاي عبد الله، كان تصميمه يسمح بعبور السيارات وهو يتضمن عمارات ذات طراز أوروبي فيها زخارف ونقوش ما تزال تشهد على نفسها إلى اليوم، إلى جانب محلات تجارية عالمية ومقاهي شاسعة وفسيحة، ثم فنادق كان يتوافد عليها أعيان المدينة والنخبة من المجتمع، خاصة منهم الفرنسيون، الذين كان قلة من المغاربة يضاهونهم في طريقة العيش، أما عربات النقل المرفقة بالأحصنة كانت لها مكانتها ضمن المواصلات المعتمدة في مدينة الدار البيضاء، بل كانت مخصصة للفرنسيين على نحو أكبر. بينما يسرد محمد البيضاوي عن ماض جميل لمدينة قيل إنها "كانت باريس الصغيرة"، يضيف أن "واقع المدينة اليوم لم يترك للجيل الصاعد فرصة الاستمتاع بذلك التمدن والتحضر المبكر، الذين شهدهما جيل الخمسينيات، حين كانت الأناقة شرطا لمخالطة الناس في المدينة".