يضم مركز الأشخاص المسنين بحي العنق بالدارالبيضاء، المُشيد السنة الماضية، في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، حوالي 1100 شخصا، تتراوح أعمارهم بين 65 و100 سنة. "المغربية" زارت المركز ونقلت ما يجري داخل أسواره، الممتدة على 420 مترا مربعا. كبورة ورقية، توأم من مواليد 1929 بالدارالبيضاء، غادر الجمعة الماضي، حي عين البرجة، بوسط المدينة، في رحلة شاقة عبر الحافلة إلى حي العنق، القريب من شاطئ عين الدئاب، بحثا عن المؤانسة داخل مركز المسنين، الذي جرى تدشينه في أبريل الماضي. والتقت كبورة ورقية بمجموعة من قريناتهما، ثم بدأتا في الحديث عن مشاكلهما، خلال دردشة طويلة مع عدد من النساء، تتقاسمان معهن مشاكل صحية واجتماعية. تتابع كبورة ورقية بهذا المركز دروس محو الأمية، التي توفرها مؤطرات من المجلس العلمي لجهة أنفا، وتستفيدان من الكشوفات الطبية، التي توفرها مندوبية وزارة الصحة بالجهة نفسها للمنخرطين. نساء حزينات كبورة ورقية وفاطمة ومحمد وعبد الكريم، كلها أسماء لأشخاص، تجاوزت أعمارهم ثمانين سنة، وجدوا أنفسهم مُبعدين عن دفء العائلة، يتألمون من معاناة الوحدة واليأس، بعدما أنهوا مهمة تربية الأبناء. قالت كبورة إنها وأختها عاقر، قضيا عمرهما إلى جانب أزواجهما إلى أن توفيا، ليواصلا معا درب الحياة، في غياب الرعاية وضعف الدخل المادي. كانت كبورة ترد على أسئلة "المغربية" بابتسامة، فيما كانت رقية منطوية عن نفسها، تتابع حديث أختها، دون أن تفهم فحوى الكلام، الذي كانت تدلي به شقيقتها. تحتاج كبورة ورقية إلى المساعدة المادية والنفسية، لمواجهة مشاكلهما الصحية، لأن غياب دخل قار، حسب رقية، يحول دون خروجهما من منازلهما، ودون تلبية حاجياتهما اليومية. بعد قطع مسافة طويلة من وسط الدارالبيضاء إلى شارع طانطان، شعرت إحداهما بالعياء، فجلست على رصيف قريب من مركز الأشخاص المسنين لتسترد أنفاسها، وتجمع قواها وتتوجه من جديد نحو المؤسسة. يتوجه أغلبية المسنين إلى المركز، الذي يعتبره بعض المنخرطين، نادي يلتقي به كل من اضطر إلى توديع حياة الأسرة الكبيرة، وذاق مرارة الوحدة، وعانى عذاب التهميش بين ذويه، ليجد جوا حميميا بين أقرانه من الأشخاص، الذين جمعوا رصيدا معرفيا في الحياة، وتجارب واجهوا بها عجلة الزمن، الذي ولى. "الزمن الذي نعيشه مختلف عن زماننا"، تقول كبورة، في دردشة مع "المغربية"، "كل شيء تغير- تضيف- حتى معالم المدينة القديمة اختفت، لتظهر أحياء جديدة ووسائل نقل متقدمة، تمكن من ربط شرق المدينة بغربها في ظرف وجيز. تعيش كبورة مع ابن زوجها من زوجته الثانية، وتحاول أن تقضي معظم أوقاتها خارج الشقة، لكي لا تشعر بأنها عبء على أسرته، فيما تعيش رقية في منزل قديم، تستقبل فيه أختها كل يوم، يواجهان نمطية حياتهما على سرد حكايات جميلة من ماضيهما إلى جانب أزواجهما بالبيضاء. قالت كبورة إن النمو الديمغرافي، الذي شهدته الدارالبيضاء غير معالم المدينة، إذ بعدما كان الهواء نقيا والأشجار ترمي بضلالها في أغلبية الشوارع الهادئة، في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، لوثت المصانع ووسائل النقل هواء العاصمة الاقتصادية، واكتظت الشوارع، بل وأغلق بعضها بسبب انتشار الباعة المتجولين، وشيدت بنايات عالية، ومراكز تجارية، خاصة بدرب السلطان، الذي قضيا به السنين الطويلة من عمرهما. جلست كبورة ورقية، صباح الجمعة الماضي، لوحدهما بالطابق الخاص بالنساء، وقالت رقية إن برودة الطقس تلزم أغلبية المسنات الفراش الدافئ، ولا تغادر بيوتهن إلا بعض الظهر، فيما أخذت كبورة تروي حكاياتها عن "خيرات المدينة" بما فيها وفرة المواد الاستهلاكية، ووسائل النقل، إضافة إلى عدد من الخدمات الاجتماعية، التي كانت ضعيفة أو منعدمة في الستينيات من القرن الماضي، قضت كبورة ورقية النهار بمركز المسنين، الذي نظم حفلا دينيا، بمناسبة عيد المولد النبوي، واستمتعتا، حسب أقوال رقية، بوقت جميل، أنساهما عناء المسافة الطويلة، التي قطعاها صباح ذلك اليوم. رفضت عدد من المسنات الحديث ل"المغربية"، خلال زيارة الاثنين الماضي، كما رفضن التقاط صورة جماعية، إذ بدت بعضهن غاضبات من اقتحام خلوتهن من طرف غرباء بقاعة الدردشة، وتابعت أغلبيتهن أطراف حديثهن بصوت منخفض، في حين لا يسمع بالطابق الخاص بالنساء سوى أصوات مجموعة من النساء بقاعة محو الأمية وحفظ القرآن. أعربت أغلبية النساء في الحجرة الخاصة بمحو الأمية في تصريحاتهن ل"المغربية" عن فرحتهن باكتشاف الحروف الأبجدية، والتغيير الذي غمر حياتهن بعد تعلمهن القراءة. لم تخف خدوج، (حوالي 70 سنة من عمرها)، سرورها بتعلم القراءة وحفظ بعض السور القصيرة من القرآن، وقالت "اكتشفت في وقت متأخر من عمري أهمية القراءة، وأدركت أن جزء من قطار حياتي كان مظلما". وأجمعت أغلبية النساء بالقسم على أن خدوج مواظبة ومجتهدة، تمكنت من فك ألغاز الحروف في وقت وجيز، كما تعلمت عمليات الطرح والزيادة في الحساب، ما جعل بعضهن ينادينها "خبيرة الحسابات". غادرت أغلبية النساء المركز في الخامسة مساء، فيما ظل الرجال يحتلون الأرائك في الطابق الأول من المركز، كانوا يلتفون في حلقات حول طاولات، منهم من يلعب الأوراق و"الضاما"، ومنهم من يتجاذب أطراف الحديث، فيما كان مستلقون على ظهورهم، فوق الفراش التقليدي "السداري"، للاسترخاء. رفض أغلبية المسنين بالطابق الأول من المركز الحديث عن مشاكلهم، في حضور موفدة الجريدة، وعبر أحد المتحدثين عن شعوره بالسعادة والرضى عن وضعه الحالي، لأنه أدى دورا في الحياة إلى جانب أسرته وأبنائه، كما أنهى مهمته داخل المجتمع على أحسن وجه، موضحا أنه شارك في بناء وإنشاء مشاريع تنموية، ساهمت في تطور المجتمع، ومازال يشعر بقوة الشباب، وقدرته على العطاء، ويرفض ربط انتهاء مهمة الإنسان في الحياة بالتقاعد، بل يفضل العمل إلى آخر يوم من حياته. لأكن مسن آخر قال إنه يشعر بالملل بعد مغادرته ميدان العمل، ويرحب بالمشاركة في الحياة الاجتماعية وتوظيف الخبرة، التي اكتسبها في تقنية الأسلاك الكهربائية، أو نقلها للأجيال التي أتت بعده. رجال يقهقهون كانت قهقهات الضحك تتعالى بقسم محو الأمية الخاص بالرجال، وكانت الأنظار تتجه نحو عبد الكبير، الذي كان يداعب رفيقه وهو يرد على سؤال المدرسة. رحبوا بعدسة "المغربية" وأصروا على التقاط صورة جماعية، يحتفظون بها كذكرى للحظات الجميلة، التي يقضونها بالقسم. قال عبد الكبير عوينتي ل"المغربية" إنه مازال صغير السن، رغم تجاوزه ثمانين سنة من عمره، لأن صحته وبنيته الجسدية توحيان أنه في الأربعينات من عمره، معتبرا نفسه شابا، يحب التعلم، ويحب اكتشاف التطور العلمي، خاصة التكنلوجيا الحديثة. كان عبد الكبير عوينتي، الذي يناديه رفاقه برقم 57 أو المشاغب، نشيطا جدا، وكثير الحركة، ونبيها، حسب وصف زملائه، وقالت مدرسته إنه سريع الحفظ، وقوي الذاكرة. يقول "رقم 57" إن دخوله إلى مركز الأشخاص المسنين غيّر مجرى حياته، لأنه ربط علاقات جديدة مع جيرانه في الحي، كما وطد علاقاته السابقة مع سكان العمارة، التي يقطنها حاليا، واكتشف، أيضا، أن للصداقة معنى خاصا، عندما يتقدم الإنسان في السن، سيما بعدما يستقل الأبناء بحياة خاصة بهم، ويجد المسن نفسه يعيش وحيدا مع زوجته، التي بدأ معها درب الحياة، وأنجبت له "عشرة أبناء فقط"، يقول مبتسما. وأضاف عوينتي أن أبناءه لا يساعدونه، لأنهم بالكاد يحققون اكتفاء ذاتيا، ومن بينهم من يلجأ إليه لمساعدته، وكل ما يتمناه عوينتي هو أن يختم حياته بأداء مناسك الحج، لأنه المقام، الذي يتوق إلى زيارته كل المسلمين. فحوصات طبية إضافة إلى دروس محو الأمية، يستفيد المسنون بالمركز من الفحص الطبي والمعالجة النفسية، إلى جانب عقد دورات خاصة بالدردشة مرة كل أسبوع، حسب ليلى الركيك، مديرة مركز الأشخاص المسنين، التي اعتبرت تجربة هذه المؤسسة "الأولى من نوعها على صعيد الدارالبيضاء". افتتح المركز في بداية أبريل، وشهد إقبالا متواصلا من طرف سكان العاصمة الاقتصادية، تقول الركيك، التي أوضحت أن أغلبية النزلاء من الأحياء المجاورة، وأنهم ربطوا علاقات وطيدة في ظرف وجيز، لتوفرهم على مؤهلات نفسية واجتماعية، تساهم في الاندماج بسرعة، مبرزة أن إقامتهم في أحياء مرتفعة الكثافة السكانية، وعلاقاتهم بالجيران، انعكست على علاقاتهم داخل المركز، الذي يعتبره أغلبيتهم بيتهم الثاني، خاصة أن من بينهم من يقضي أغلبية أوقات يومه بين رفاقه بالمركز. ينظم المركز، أيضا، دورات تحسيسية لفائدة أسر المسنين حول دور الأسرة في رعاية المسن ودعم الترابط العائلي، والاستماع وتوجيه المسنين ضحايا العنف والإهمال الأسري والعمل على الإعداد النفسي للأشخاص المسنين، وتنظيم عروض فنية وترفيهية داخل المركز، مع تنظيم رحلات وخرجات للمسنين داخل وخارج المدينة إضافة إلى تبادل الزيارات مع جمعيات أخرى، مع تنظيم رياضة المشي والكرة الحديدية من بين الأنشطة الموجهة للنساء دعم المهارات، خاصة الأشغال اليدوية، تسمح لبعضهن المساهمة في الحياة الاجتماعية، حسب الركيك، التي ذكرت أن بعض النساء حضرن عدد من البدل التقليدية، بهدف توجيهها لصغار الأسر المعوزة. النساء يشاهدن المسلسلات المكسيكية والرجال الأفلام الوثائقية يواظب عدد من النساء في مركز العنق للمسنين، بالدارالبيضاء، على مشاهدة حلقات الأفلام المكسيكية المدبلجة بالدارجة المغربية، حسب الركيك، التي ذكرت أن عدد من النساء وجدن في توجههن للمركز حلا لمشاكلهن بالمنزل، خاصة بالنسبة للأسر المركبة، حيث ترتفع حالات التوتر بين الحماة وزوجة الابن والجدة والأحفاد، والزوج المتقاعد والزوجة المسنة، التي ترفض الانصياع لأوامره، وخدمته إلى آخر مراحل عمرها. يبلغ عدد المسنين المنخرطين بالمركز 1098 شخصا (652 منخرطة و446 منخرط)، وتتراوح أعمارهم بين 101 و56 سنة، واعتبرت ليلى الركيك، استقبال أشخاص لا يتجاوز أعمارهم 60 سنة حالة استثنائية، إذ جرى الأخذ بعين الاعتبار فيها ببعض الظروف الاجتماعية. أغلبية المنخرطات بمركز الأشخاص المسنين تتراوح أعمارهن بين 61 و56 سنة (237 منخرطة) تليها الفئة المتراوحة أعمارها بين 71 و62 سنة (236 منخرطة) ثم الفئة المتراوحة أعمارها بين 81 و72 حالة (140 منخرطة). وتمثل الفئة المتراوحة أعمارها بين 81 و72 سنة أعلى نسبة المنخرطين (168 مستفيد) تليها الفئة المتراوحة أعمارها بين 61 و56 سنة (100 مستفيد) ثم الفئة المتراوحة أعمارها بين 101 و82 سنة (33 مستفيدا). أغلبية المسنين يواجهون داء السكري وارتفاع الضغط، حسب مديرة المركز، التي أوضحت أن أزيد من 30 منخرطا استفادوا من عمليات جراحية في العين، كما يسعى المركز نفسه إلى تكوين مرافقات المصابين بالرعاش والزهايمر. تحدثت الركيك عن المشاكل المادية، التي يواجهها المسنون، إذ أوضحت أن أغلبية المنخرطين بالمركز متقاعدين لا يتجاوز معاشهم 650 درهم، واعتبرت ضعف الموارد ينعكس على المسن، خاصة المريض، الذي لا يتوفر على تغطية صحية. يعاني أغلبية المسنين، حسب مصادر من المركز نفسه، أمراضا مزمنة، خاصة داء السكري وارتفاع الضغط، فيما يواجه بعضهم مشاكل الجهاز الهضمي، فيما تغيب الحالات التي تعاني أمراض تهدد المسن بالتشرد، من قبيل الزهايمر، والصرع. أغلبية النساء والرجال المنخرطين بالمركز مستقرون بمنازلهم، يعيشون على رواية حكايات من الماضي، وحكاية مشاكلهم اليومية، خاصة العيش بعيدا عن الأبناء، جلهم يرفض تعلم التكنولوجيات الحديثة، حسب مصادر من المركز، التي أكدت أن الرجال يحبون مشاهدة أفلام ووثائق دينية، فيما تتابع النساء الأفلام المدبلجة بالدارجة. وقالت أمينة أوبلا، أخصائية نفسية، ل"المغربية" إن المسنين في حاجة إلى من يستمع إلى مشاكلهم وحكاياتهم، وأن أغلبيتهم يعانون الوحدة، التي تؤدي إلى الإحباط والاكتئاب. وأشارت إلى أنها تخصص جلسة أسبوعية للاستماع لهذه الفئة بمركز الأشخاص المسننين، الذي اعتبرته مبادرة إيجابية، لأنها مكنت عدد من المسنين من ربط علاقات صداقة، وملء الفراغ، الذي كانوا يعانوه في حياتهم اليومية. ودعت إحدى المسنات إلى دعم مثل هذه النوادي، لأن عدد كبير من المواطنين غير قادرين على الاعتناء بآبائهم بسبب انشغالاتهم اليومية، ووضعهم الاقتصادي.