في تناقض صارخ مع الدور الأساسي للصحافة في إعلام الجمهور عن الفساد، هناك حقيقة محزنة، مفادها أن بعض الصحفيين ووسائل الإعلام مستعدة لتقبل الرشاوى، أو حتى ابتزاز الأموال، لتقرر ما الذي تختار تغطيته في أخبارها، وكيف ستقدم هذه الأخبار لقرائها ومشاهديها. وسواء أكان السبب تدني الرواتب أو الجشع أو حوافز أخرى، فإن هؤلاء الصحفيين يعملون لصالح حكومات وشخصيات سياسية وشركات، أو أفراد يريدون السيطرة على كل ما يقال عنهم، وهم مستعدون لدفع الرشاوى لقاء ذلك. هذا هو موضوع تقرير بعنوان" المال مقابل التغطية: ارتشاء الصحفيين حول العالم"، أعده بيل رستو، لحساب مركز مساعدة وسائل الإعلام الدولية في واشنطن العاصمة. كتب ديباجة التقرير روزنثول ألفيس، مدير مركز نايت للصحافة في دول الأمريكتين. قال ألفيس إن مفهوم المال مقابل التغطية هو ذلك الجانب المظلم والمستتر للصحافة، الذي يحدث على أرض الواقع كل يوم، في مكان ما من العالم. ويضيف أنه "ليس قضية تسلط عليها الأضواء كثيرا، فنحن، في الأغلب الأعم، منشغلون بالدفاع عن الصحافيين، إلى درجة أننا نحجم أحيانا عن تعرية أو فضح هذا الجانب من المهنة". ويورد تقرير بيل رستو عددا من الأمثلة على ذلك، منها قبول بعض المراسلين في جنوب إفريقيا الرشوة، مقابل كتابة تقارير إيجابية عن مسؤول في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، كان يصارع منافسين له في الحزب، وصحف في كمبوديا، كشفت معلومات فاضحة عن شخصيات بارزة، كي تبتز أموالا لقاء موافقتها على عدم نشر المعلومات، ونشر مواد دعائية في أوكرانيا، على اعتبار أنها أخبار حقيقية، فضلا عن أمثلة من شتى بقاع الأرض، يبدو أنها تثبت أن تقديم مبالغ قليلة من المال، أو بعض الهدايا، للمراسلين، يعتبر أمرا مألوفا، أو حتى ممارسة مقبولة. ولا يخفى أن الصحفيين، الذين يتقبلون المال أو الهدايا من مصادر أخبارهم، يجدون أن من العسير عليهم أن يكتبوا أو يذيعوا أي شيء ضدها. وفي بعض الدول، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، يجد الصحافيون أنفسهم محشورين بين فكي التحقيقات الصحفية الموضوعية، من جهة، والمحافظة على اتصالاتهم مع مصادر الأخبار الثمينة، من جهة أخرى. ويقر رستو بأن الحد من الفساد في عالم الصحافة مسألة عويصة، خاصة في الأماكن حيث مرتبات الصحفيين متدنية، ومالكو وسائل الإعلام على استعداد لاستخدام منابرهم للترويج لمصالح سياسية واقتصادية معينة. غير أنه يستدرك قائلا إن المسؤولين المحترفين في العلاقات العامة، الذين سئموا ضرورة دفع أموال للدعاية، أصبحوا في طليعة المطالبين بحلول ناجعة. ويسلط معد التقرير الضوء على شركة بروماكو الروسية، التي قررت في عام 2001، أن تصدر بيانا صحفيا عن شركة وهمية، ثم تكشف عن هويات وكالات الأنباء التي نشرت البيان. واتضح للشركة أن وكالة واحدة نشرت البيان، دون أن تطالب برسم عن ذلك، وأن سبع وكالات أخرى رفضت نشره، على اعتبار أنه دعاية. لكن 13 وكالة أنباء أخرى طالبت برسوم تراوحت بين 500 و2000 دولار. وكشفت بروماكو عن أسماء هذه الوكالات، التي طالبت بالرسوم وأحرجتها أمام الجمهور. وأطلعت الشركة الروسية هيئات تعمل في مجال العلاقات العامة حول العالم على النهج، الذي اتبعته، أملا في تشجيع الآخرين على أن يحذوا حذوها. ونقل رستو عن ألفيس قوله إن فقدان المصداقية بالنسبة لأي وكالة أنباء خسارة مدمرة، "وعلينا أن ندرك بأن مكارم الأخلاق هي التي تنجب الصحافة النزيهة". هناك تحيز إعلامي؟ تطرق المتحدثون في ندوة عقدت يوم 29 سبتمبر الماضي في مركز مساعدة وسائل الإعلام الدولية، إلى الموضوع، وأكدوا على الحاجة إلى التحقيق في العلاقات السياسية، التي يتمتع بها مالكو وسائل الإعلام، وأثرها على مواقفها من أحداث الساعة. وطالب نثانيال هلر من منظمة النزاهة العالمية، التي تتخذ مقرها في واشنطن، "بقدر كبير من الوعي". وترصد هذه المنظمة اتجاهات الحكم الرشيد والفساد في شتى أنحاء العالم. أما ستيفان كانديا، من مركز رومانيا للتحقيقات الصحفية، فشدد على ضرورة التدريب الصحيح، خاصة في أماكن مثل أوروبا الشرقية، التي تفتقر إلى تقاليد التحقيقات الصحفية، فيما تظل الأخبار "أداة دعائية في المقام الأكبر". وقال كانديا "أفضل أن أدرب طالبا فتيا، من أن أدرب مراسلا يعمل في غرفة الأخبار منذ خمس سنوات، لأن هذا المراسل يعرف ما الذي يجب عليه أن يتجنبه". وحث الصحافيين المحليين على ممارسة صحافة تحقيقية قوية، تعرف باستقلاليتها، وتكون بديلا موثوقا به لوكالات الأنباء، التي يملكها أو يستثمر فيها أولئك الذين يروجون لمصالحهم الخاصة. وفي الحالات حيث تدعو الحاجة إلى تغطية إخبارية إيجابية لضمان الوصول إلى مصادر الأخبار، أهاب المشاركون في الندوة بالصحافيين أنفسهم لأن يصححوا الخلل. وقالت روزماري أرماو، الأستاذة المحاضرة في مادة الصحافة والإعلام في جامعة ولاية نيويورك، إن باستطاعة الصحافيين، على سبيل المثال، أن يلجأوا إلى مئات القوانين، التي تقضي بحرية الوصول إلى المعلومات والكشف عنها، والتي سنتها دول في العديد من مناطق العالم، لكنها نادرا ما تستغل. وأضافت أرماو أنه ينبغي على المراسلين أن يكونوا مستعدين لإحراج مصادر الأخبار، التي ترفض مقابلتهم ولا تقدم الأجوبة المطلوبة. وقالت إنها، عندما كانت تعمل مع وكالة أنباء في البوسنة، رفضت وكالة تابعة للحكومة البوسنية طيلة أشهر أن تكشف عن أسماء الشركات، التي لم تكن تدفع ضرائب معاشات التقاعد. وما كان من وكالتها حينذاك إلا أن دبجت مقالا مستفيضا، يروي كيف ظلت الوكالة تحاول، على مدى أشهر، الحصول على أسماء الأشخاص، الذين لا يدفعون الضرائب المستوفاة عليهم. ثم خلصت الأستاذة الجامعية إلى القول "حين ترفض مصادر الأخبار تقديم المعلومات التي بحوزتها، ينبغي على الصحافيين أن يبينوا هذه الحقيقة، كي تبدو تلك المصادر أشبه بالغبي الأحمق". غير أن فرانك فوغيل، من صندوق الشفافية الدولية والشراكة من أجل الشفافية، يرى أن الأمر لا يحتاج إلى مصادر على مستوى عال، كي تكون التحقيقات الصحفية مفيدة وفعالة. وأورد مثالا على ذلك، التفاوت في رسوم المستشفيات، مقترحا على الصحفيين أن يقارنوا بين فواتير عدد من المستشفيات والمؤسسات والبلديات، ويكتشفوا أين تكون الفواتير أعلى من غيرها في بعص الأماكن. وقال فوغيل "حينذاك، فإنك تتساءل لماذا يحدث هذا، ثم لا تلبث أن تعثر على أصناف شتى من الممارسات الفاسدة على مستويات معينة، تؤذي المواطنين مباشرة". ويشدد رستو، في تقريره، على أن من مصلحة الصحافيين، في نهاية المطاف، أن يعززوا مكارم الأخلاق في مهنتهم. أما أنتوني ميلز، مدير شعبة حرية الصحافة في معهد الصحافة الدولية، فينبه إلى أن الإخفاق في ذلك لن يضر بوظائف الصحافيين، فحسب، بل سيؤذي، أيضا، قضية الحرية الصحفية عموما. ثم يخلص إلى القول إن "صحافة ترتشي، ليست صحافة حرة".