أود في بداية حديثي أن أتقدم بتحياتي الصادقة إلى الشعب المغربي، عموما، وأسرة المقاومة وجيش التحرير ورجال الحركة الوطنية، على الخصوص، بمناسبة حلول هذه الذكرى الغالية العزيزة على كل مواطن ومواطنة، ذكرى ثورة الملك والشعب..التي خاضها الشعب المغربي عن بكرة أبيه، خلف السلطان، سيدي محمد بن يوسف، في 20 غشت 1953، ضد الاحتلال الفرنسي، وضد الظلم والاستغلال، وضد الجبروت والطغيان واستبعاد الإنسان. وإنني لأحمد الله تعالى أن منحني القوة والقدرة على الانخراط في أداء هذا الواجب الوطني، الروحي والأدبي، تجاه شبابنا وشبيبتنا، وتجاه جيل الغد من الناشئة، لتعريفهم، قدر المستطاع، وبما يسمح بها المقام، بما يزخر به تاريخ الآباء والأجداد، من أمجاد بطولية، ومن أعمال خالدة في حقول النضال والكفاح، وفي التضحية بالغالي والنفيس، من أجل الوطن خدمة للصالح العام وللأمة والمجتمع، ولضمان الاستمرار والالتحام، والتشبث بآصرة الوحدة والميثاق الوطني النضالي، والروح الوطنية الصادقة. مما لا شك فيها أن حدث ثورة الملك والشعب، منذ 57 سنة مضت، أسال وسيسيل مداد العدد الكثير من المؤرخين، والكتاب، والأدباء، والشعراء، ورجال الفكر والإعلام، نظرا لما يزخر به من أينع الصفحات الغراء، التي سطر شهداء خالدون، ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، في سجل وطننا الغالي، لتظل شاهده على تلكم الحمية الوطنية الوفية المتأججة، وعلى الشهامة والعزة والنخوة المغربية العربية الإسلامية. ولذلك، سوف يأخذني حديث هذه المناسبة المجيدة لاستعراض بعض الوقفات بكل إيجاز واختصار في محطات شهر غشت، من تاريخ المغرب الأقصى، الذي عمر أزيد من 12 قرنا، لم تخلق ولم تطلق خلالها مسميات بعض دول اليوم، التي أصبحت تتمشدق بالجاه والباع، وتتباهى بالعظمة والزعامة، بحثا عن هوية وعن شخصية أصيلة متجذرة لها. غير بعيد، وفي شهر غشت 1844، يذكر التاريخ يوم قرأ السلطان المغربي، مولاي عبد الرحمان بن هشام (1822-1859)، في معركة إيسلي، مدلول الإيمان بوحدة المصير المغاربي، حين استجاب لطلب الأمير عبد القادر الجزائري باللجوء إلى المغرب، والاحتماء به من غطرسة الغزاة الفرنسيين، فآواه السلطان مولاي عبد الرحمن بالأحضان، ورفض تسليمه للسلطات الفرنسية، التي عمدت، جراء ذلك الرفض، إلى قصف الثغور الغربية، معتدية ومهاجمة مدن وجدة، وطنجة، والصويرة، بمساندة وبدعم من الدولة الانجليزية، لتندلع المعركة الحاسمة، معركة واد إيسلي، على واد اسلي بالمغرب الشرقي، في 14 غشت 1844، تكبد فيها المغرب خسائر مهمة في الأرواح والعتاد، دودا على الدولة المجاورة، التي كان يمدها بالسلاح والمؤن، ودفاعا عن المجاهد عبد القادر الجزائري. هذه كانت توطئة لحديثنا فرضت نفسها، بحكم موقعها التاريخي في شهر غشت المجيد، أما محطتنا في الذكرى الخالدة ،ذكرى ثورة الملك والشعب، التي يحتفل بها المغرب من طنجة إلى الكويرة، اليوم 20 غشت 2010، فهي تمثل شريطا تنبض فيه حركية التاريخ، في تفاعل متصاعد بلغ حد الانفجار. لقد استُنبتت ثورة الملك والشعب، منذ مطلع القرن 20، تاريخ انعقاد مؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، مرورا بفرض معاهدة الحماية على السلطان مولاي عبد الحفيظ، في 30 مارس 1912، التي أشعلت فتيل أحداث فاس الدامية في أبريل 1912، وانتفاضة الشيخ أحمد الهيبة ماء العينين بالجنوب، والمواجهة الدفاعية على عهد القائد موحا وحمو الزياني بالأطلس المتوسط، سنة 1914 بخنيفرة، في معركة الهري، وحرب الريف، على يد البطل الشهم والمجاهد الكبير، محمد بن عبد الكريم الخطابي، رائد أنوال، التي عمرت حروب اقتتالها مع العدو وأحلافه ما بين سنوات 1921 إلى 1926، والتي حقن فيها البطل عبد الكريم الخطابي دماء أبناء الريف المقاتلين الأشاوس، بشهامة وشجاعة . ويطل بعده بطل أطلسي، بعد اعتلاء الملك محمد بن يوسف عرش أسلافه المنعمين في نوفمبر 1927، الذي واجه مشروع الظهير البربري في 1930، يطل البطل عسو باسلام بالجنوب الشرقي للمغرب، سنة 1933، بجبال صاغرو وإقليم ورزازات، في حرب ضد الاستعمار، أوقفت لهيبها معاهدة هدنة بين الطرفين، ليوقف بعد ذلك الكفاح المسلح في معارك جبل بادو سنة 1934، وفتح صفحات النضال السياسي، كواجهة ثانية من واجهات الكفاح من أجل الانعتاق والتحرير، كأسلوب مستنبط من السلفية بالمشرق العربي. قاد هذه الواجهة، بكفاءة واقتدار، السلطان سيدي محمد بن يوسف، في تلاحم وتنسيق مع رجال الحركة الوطنية وزعمائها، توجهتها عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، التي رفعت إلى الدول العظمى، فرنسا وإنجلترا وأميركا وروسيا، تلتها الزيارة الملكية إلى فرنسا سنة 1945، للقاء الجنيرال دوغول والمطالبة باستقلال المغرب، وتبلورت بعد ذلك في رحلة وخطاب طنجة في أبريل 1947، ذلك الخطاب، الذي بعثر أوراق الحكومة الفرنسية وقادتها، وأفسد مخططاتها، وأربك حساباتها، فكان الخطاب القنبلة، الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وكان صمود محمد بن يوسف صمودا غلت وتأججت به دماؤها، فأقدمت على نسج المؤامرة النكراء، منذ الرحلة التاريخية الملكية إلى طنجة، مبتدئة بالتهديد والوعيد وتكثيف الاتصالات والمشاورات وتبادل الأفكار والمذكرات والآراء، تارة بباريس وأخرى بالرباط والدارالبيضاء، وبمساعدة الخونة والعملاء، ثم بادرت إلى تعبئة القبائل وتحريض رجال السلطة من قواد وباشوات للسير في ركبها، والمقاومة المسلحة السرية، حينها تولدت في الخفاء سنة 1951، تحسبا لكل مالا تحمد عقبا.ه وتختار فرنسا مدينة مراكش لإعداد سيناريو فريد من نوعه، يتمثل في اغتيال الرمزية الدينية والتطاول على الصفة الدينية لأمير المؤمنين، ومنحها لمحمد بن عرفة، واعتلائه عرش البلاد يوم 14 غشت 1953، إذ تعالت من داخل أسوار القصر الملكي بمراكش المعزوفات الموسيقية، إيذانا بتدشين احتفالات التتويج، فيما انطلقت الاحتجاجات الشعبية من خارج أسوار القصر، إيذانا كذلك بإشعال مظاهرات المشور العارمة، التي أشعلت بدورها ثورة 16 غشت بوجدة، ومن بعدها ثورة 17 غشت بقبائل بني يزناسن بالمغرب الشرقي. في مثل هذا اليوم 20 غشت 1953، جرى خلع الملك محمد بن يوسف على يدي الجزال كيوم، تتميما لمخطط رئيسه الجنرال جوان، إذ تقدم إلى البلاط الملكي بعد محاصرته على الساعة الثانية بعد الظهر، وأخرج الملك ونجليه الأمير مولاي الحسن والأمير مولاي عبد الله في اتجاه كورسيكا، ومن ثمة في فبراير 1954 إلى جزيرة مدغشقر، في ظروف لا تليق بملك في منزلة بطل محرر وأب أمة محمد بن يوسف، في عملية من أرذل ما قامت به فرنسا كدولة عظمى، كان الفضل للمغرب ولملك المغرب في تحريرها من النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية (1939-1945). هبت خليتنا النائمة اليقظة "المنظمة السرية"، التي تأسست كما سبق التلميح إليها في ما تقدم على يد جماعتنا، في 7 أبريل 1951، لتستجيب لداعي الوطن وراء الملك محمد بن يوسف، ولتباشر عملياتها الفدائية هذه المرة علانية، بعد أن كانت عملياتها مستترة قبل 20 غشت، منها طبع المنشور وتوزيعه (منشور المتطوعين)، ومحاولة نسف تمثال ليوطي، ونسف تمثال الصداقة المغربية الفرنسية بالدارالبيضاء وغيرها، من تخطيط ومساهمة مؤسسيها الأوائل محمد الزرقطوني، والتهامي نعمان، وحسن العرائشي، وسليمان رضا عباس، وعبد ربه الحسين برادة، كما هو مسطرة في مؤلفي مسيرة التحرير، بكل بيان وتفصيل. توطدت جذور جماعتنا وتشعبت فروعها وتعددت عملياتها ضد الاستعمار وأهدافه، إلى أن استشهد البطل محمد الزرقطوني، بعد إلقاء القبض عليه، الذي ما إن افتقدته المقاومة حتى افتدته بأخطر عناصر الوجود الفرنسي، مدير جريدة "لافيجي ماروكان"، الدكتور إيميل إيرو، الذي كان أحد منظري عملية خلع محمد بن يوسف على صعيد المغرب بمدينة الدارالبيضاء. انتقلت المقاومة آنذاك من المدن إلى البادية، إلى الشمال، لأحداث حركة جيش التحرير المغربي، وفاء لوصية الشهيد محمد الزرقطوني، رحمه الله، وتواصلت ضرباته الموجعة للاستعمار الفرنسي الغاشم، واتسعت رقعة العمليات الفدائية، طيلة 1954 و1955، إلى اندلاع الانتفاضات بوادي زم، وأبي الجعد، وخريبكة، وخنيفرة، في غشت 1955، وانفجرت عمليات جيش التحرير في فاتح و2 أكتوبر 55 في الريف، معجلة بعودة بطل التحرير من منفاه في نهاية أكتوبر إلى لا سييل سان كلو بفرنسا، وفتح باب المفاوضات حول الاستقلال، ثم ليدخل الملك محمد بن يوسف دخول الفاتحين المنتصرين إلى عاصمة ملكه بالرباط في 16 نوفمبر 1955. يتضح الآن أمام شبابنا من القراء أن ثورة الملك والشعب، في غضون 3 سنوات من الكفاح المسلح، استطاعت في زمن قياسي لافت، وغير مسبوق في حركات تحرير الشعوب، تحقيق الخلاص لينعم المغرب في بحبوحة الحرية والاستقلال، دون أن يخمد لهيب الثورة، ثورة الملك والشعب، بل سيستمر لتحرير الصحراء بالجنوب، في أحداث 23 نونبر بآيت باعمران، واسترجاع مدينة طرفاية من الاستعمار الإسباني في فبراير 1958، وبعدها مدينة سيدي إفني في يونيو 1969، إلى المسيرة السلمية الخضراء سنة 1975. هذه الملاحم البطولية هي الغذاء الروحي لأجيالنا الصاعدة، التي ينبغي أن تتخذ منها العبرة والموعظة الحسنة في الإيمان والصدق والوطنية والوحدة الترابية، وهي رسالة روحية ربانية في الجهاد والتضحية، ومواجهة تحديات الأعداء والخصوم، والمتربصين الطامعين. ويتزامن تخليد الشعب المغربي للذكرى 57 لملحمة ثورة الملك والشعب، مع انبعاث تنين الفكر الإسباني من رماده، متلمسا من جديد سبل التمهيد لإشباع أطماعه وتطلعاته، لإحياء زمن المد الصليبي، متنكرا تحت ألوان مختلفة من الأقنعة والذرائع، وما الأحداث التي عرفتها معابر العار نحو المدينتين المحتلتين، بسبتة ومليلية، خلال يوليوز وغشت من السنة الجارية، إلا تجليات لأعراض المرض المزمن، الذي ما يزال متمكنا من بعض فصول أولئك، الذين ما تزال عروقهم متعطشة بسفك دماء أبناء وأحفاد المجاهدين، الذين وقفوا إلى عهد قريب سدا منيعا وحصنا شامخا لصد غاراتهم الصليبية، إلى معركة وادي المخازن، في ثورة الملك والشعب، هذه الثورة التي ستظل إلى الأبد، وعبر توالي الأجيال، عنوان كل مواجهة لكل معتد وكل متربص بوحدة هذا البلد، وبقيمة ومقدساته الوطنية والدينية وبهويته وثقافته. لقد جبل الشعب المغربي على الوفاء، وإن وفاءنا للعهد يتطلب منا أن نكون أقوى تماسكا وصمودا لتحقيق النصر النهائي في معركة قضيتنا الوطنية، ودحر جميع مناورات الخصوم والأعداء، ومؤامراتهم ومناوشاتهم، سواء على حدود الجوار أو بالثغور والأجزاء الرازحة تحت الاحتلال، أو على مستوى المنابر والأبواق، التي ضاقت ذرعا بافتراءاتهم، لا لشيء إلا لكونه انخرط وراء عاهله الشاب، جلالة الملك محمد السادس، في العمل والنضال والجهاد بكل الوسائل والإمكانيات، من أجل أن تنتصر ثورة الملك والشعب الجديدة المتجددة بقيادة جلالته، التي تجسد أغلى وأثمن هدية لروحي المغفور لهما محمد الخامس، والحسن الثاني، طيب الله مثواهما، ولسائر أرواح شهداء هذه الثورة وشهداء الوحدة الترابية. بهذه القيم والمبادئ المثلى استطاعت أسرة المقاومة وجيش التحرير أن تؤدي واجبها الوطني باقتدار وبشجاعة وبسالة، وكانت الالتفاتة الملكية الشريفة للملك المنعم محمد الخامس، فور الاستقلال، كريمة بارة ومغبطة، وتوالت على عهد الملك الحسن الثاني بجمع شملها، ولم شتاتها، ورد الاعتبار إليها، ويواصل جلالة الملك محمد السادس حمل مشعل نضال هذه الأسرة المجاهدة. ولئن كانت أسرة المقاولة وجيش التحرير تعبت من تقديم طلباتها وملتمساتها للحكومات المتعاقبة، والحكومات المتعاقبة تزيغ عن الاستجابة الشافية النافدة، فإن لها في سنة 2010 أن تتمنى من وارث الملكين المجاهدين المنعمين جلالة الملك محمد السادس، وعلى غرار ما يحققه كل يوم من إنجازات ملكية، أن ينظر في إمكانيات حاسمة في مسألة المجلس الوطني، وفقا لما يراه جلالته في صالح أسرة المقاومة وجيش التحرير. (*) من مؤسسي المقاومة السرية وجيش التحرير