طبع بعضهم الساجة الصحافية في السنوات الماضية ببيسمه، ليبتعد عن الأضواء اختياريا أو إجباريا. المغربية نتفرد بنشر حوارةات مع صحافيين اعتزلوا الميدان، بعد أن أناروا الطريق للجيل الجديد في المهنة، ليبتاعوا العطاء في قطاعات أخرى، بينما ابتعد البعض لالآخر لأسباب أخرى، او احتراما لأخلاقيات المهنة، وهناك من تنكر له الجميع، خاثة الذين يعيشون أ وضاعا احجتماعية صعبة، استحيى العديد منهم الخوض فيها.ما هي أهم الطرائف التي تتذكروها في مسارك المهني؟ كنا نمارس الصحافة بمزيج من النضال وبروح مرحة، وذات مرة كنا مجتمعين في هيئة التحرير، بجريدة "أنوال"، نتداول بخصوص ما سنكتب في العدد المقبل. فاستعملت تعبيرا لتحريك العدد، وقلت: عندي عريضة، أرسلها لي احد المعتقلين السياسيين وسنشتغل عليها. وفعلا، كتبنا مقالا في هذا الموضوع، وبعد طبع الجريدة، بدل تحريك العدد، تحرك المدير، إذ جرى اعتقاله. والعريضة كانا موقع عليها من طرف محمد اليازغي وعبد الرحمن بن عمرو، وبينت في المقال أنه، حتى القوى التي بينها خلافات، متوحدة حول موضوع المعتقلين السياسيين، وتطالب بكذا وبكذا. وما إن أخذت الوكالة الفرنسية للأنباء الموضوع من عندنا، حتى أصبح مهما جدا لدى وزارة الداخلية، و"خطيرا جدا"، وجرى اعتقال المدير. لقد كان همنا هو تحريك العدد، فإذا بمدير الجريدة هو من يتحرك، أي يعتقل ويستجوب، فبقينا نضحك. وهناك عديد من الطرائف، فشروط العمل بالجريدة كان فيها المرح، ومن الطرائف أنه، ذات مرة جاء عندي صحفي، تخرج من المعهد حديثا، ليتمرن عندنا في "أنوال"، ووجدني ساعتها في المقهى، فقلت له: ما هو اهتمامك، أهو دولي أم وطني؟ فقال: إن كان دولي أحسن، وكان يتوقع أن أذهب به إلى مكتب وأناوله ملفا يشتغل عليه، لكنه فوجئ عندما ففتحت له محفظتي، وأعطيته ملفا دوليا، وقلت له خذ الدولي، إذ لم يكن لدينا مقر، وغالبا ما كنت أشتغل في المقاهي. تجربة "العلم" أعتز بها، أيضا، كانت مع صحافيين كبار، مثل عبد الجبار السحيمي، والعربي المساري، بتوجيهاتهم وخبرتهم آنذاك، وبتشجيعاتهم، ما زاد من رغبتي في الصحافة. كانت تجربة العلم مهمة، تركت علاقات قوية ومهمة بيننا، إلى يومنا هذا. أما أنوال، وللأسف، فكان يمكن أن تستمر، لولا بعض الظروف. كانت جريدة موحدة، وموضوع الانشقاق (في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي) أثرعلى الجريدة بشكل سلبي، أما كتجربة، فلو استمرت هذه الجريدة حتى الآن، لأعطت أكثر، لأنها راكمت خبرة، وصنعت موقعا، كما صنعت عددا كبيرا من الكتاب في المغرب، كانت مدرستهم الحقيقية هي أنوال، التي ظلت من الصحف القليلة، التي ميزت بين الفكري والسياسي، إذ أن الجولات، التي قمنا بها في المغرب كله، جرت في إطار عروض أنوال، والتنظيم السري، فقبل منظمة العمل، كنا نشتغل كمجموعة أنوال. كانت الندوات والحوارات في مختلف المدن، وكانت لدينا مناسبات كثيرة للقاءات والمذاكرات، وكانت أنوال تقرأ بشغف وباهتمام، ومع التطور، خلقت أشياء جديدة في الصحافة المغربية، أثرت فيها. وأتمنى أن تنجز دراسات حول مساهمة أنوال في تطوير المشهد الإعلامي، إذ أن الدراسات التي أنجزت حولها، قليلة. ولا تفي بالغرض، كما أن معظمها جرى في إطار بحوث في المعهد العالي للصحافة، خاصة أن أنوال خلقت وجددت أركانا وأجناسا صحفية عدة. وماذا بعد أنوال؟ بعد حكومة التناوب (1989)، كنت، مع وزير الاتصال، محمد العربي المساري، منسقا لمتابعة المناظرة، ومع الوزير محمد الأشعري مدير جريدة الأنباء. وقتها كنت أعتبر أن الحكومة لا يجب أن تكون لها جريدة خاصة بها، في الوقت الذي يسير المغرب في اتجاه آخر، فضلا عن وجود وسائل سمعية بصرية، ووسائل عمومية، إلى جانب أن الأحزاب الممثلة في الحكومة، ولها جرائد خاصة بها، وقررنا إيقاف صدور جريدة الأنباء، ومن ثمة ستأتي تجربة "الهاكا" (الهيئة العليا للسمعي البصري). وتوقفت عن الكتابة، مع الكتابة من حين لآخر في مناسبات مختلفة سواء في "أنوال الجديدة"، أو في "السياسة الجديدة". وأنا في اتجاه أن أعود للكتابة قريبا بشكل منتظم ، أسبوعيا، غالبا، في جريدة الاتحاد الاشتراكي. وكيف تنظرون إلى العمل الصحفي؟ العمل الصحفي أساسي جدا، وله أهمية كبرى، ويجب أن يكون قائما على ستة أسس، كي يساهم أكثر في المسار، الذي يسير فيه المغرب اليوم، والمتمثلة في الانتقال الديمقراطي، وترسيخ مكتسبات قائمة، تحتاج إلى تعميق، وإحاطتها بأوسع درجة من المشاركة الشعبية، التي لن تتأتى إلا برفع درجة وعي المواطنين بضرورة هذه المشاركة، وهنا تلعب الصحافة دورا أساسيا. صحيح، نعيش فترة من الغليان نتيجة هذه الحرية، وهذا الغليان تكون فيه، ولابد، تجاوزات وانحرافات، مردها إلى سوء فهم الحدود بين أخلاقيات المهنة، وبين الحريات والقوانين، وبين الحاجيات الديمقراطية، وبين حدود وفواصل بين أشياء غير واضحة. هذا الغليان سيستقر، وحين يصبح الوضع طبيعيا في البلد بشكل كامل، بعد أن نقول إننا، كما هو الحال الآن، اجتزنا بنجاح مظاهر الانتقال إلى مظاهر الاستقرار الديمقراطي، ستستقر، أيضا، معه الصحافة. لهذا، حتى عندما تقع تجاوزات، وبعض المرات نرى بعض الصحف غير مقدرة لما كلف الأمر حتى نصل لهذا المستوى من تضحيات، وهذا لا يعني أنني أقف موقف من يبكي على الأطلال أو يمن بنضاله على شعبنا. وهناك تلاقح أجيال، البعض يعطي للآخر، ولا أحد يملك الحق في أن يمن شيئا أو يمن عليه أحد شيئا. ومع ذلك، بعض الحالات تحس فيها بنوع من اللامسؤولية في تناول أوضاع البلد، بالشكل الذي يمكن أن يستفز من يحاولون الارتداد بنا، أو أن يعطيهم فرصة أكبر، وهذا هو الجانب المؤسف في العملية. إن العمل الصحفي يتطور من الناحية المؤسساتية والمقاولاتية، كما أن هناك الاتفاقية الجماعية، وهناك العمل النقابي، الذي أعطى أكله، وبدأ نلمس مستوى عاليا من اليقظة في العمل الصحفي، وفي التعامل مع الصحافة، انطلق، في الواقع، مع محاكمة "الحاج ثابث" (1993)، إذ كانت الصحافة، لأول مرة، مع النيابة بعد أن كانت دائما مع المحامي. كما بدأنا نعايش استيعاب المعنى العميق للديمقراطية، وهدفها، الذي يعني الفصل بين السلط،، بين السلطة القضائية والسلطة التشريعية، والرأي العام، وبالتالي، كل الناس يمكن أن تجري إدانتهم، ولكي تجري هذه الإدانة هناك مسطرة قضائية، ولا تجري عبر أحكام جزافية، وتكون الحقوق مصونة . وأذكر حالات عديدة، منها الحكم مسبقا على عدد من الضباط ورجال الدرك لتظهر، بعد ذلك، براءتهم، لكن الناس لا تتعظ من هذه التجربة. وهناك مواطنون ذكرهم أحد الصحافيين بأسمائهم، لمجرد متابعتهم من قبل المحكمة، وهذا الصحفي لم يكلف نفسه عناء اتباع مسطرة التأكد من الأمر. كما أن هناك من يلجأ إلى عبارة "مسؤول رفيع المستوى". ماذا يعني "مسؤول رفيع المستوى"؟ هذا فيه تضليل، وفيه لعب بهواجس الرأي العام. والخوف من السلطة والمخدرات والجنس والمال هي مجموعة من البهارات، تصلح لرفع مبيعات القصص البوليسية والمسلسلات، لكن بدأنا نلحظ لجوء الصحافة إليها. وموضوع الصحافة في المغرب طويل لأن فيه جوانب تنظيمية. والمهم فيه، هي الحرية وخروج صحافة متطورة في البلاد، و يجب أن تستمر في جميع الحالات، ورغم التجاوزات، لا خيار أمامنا إلا أن تستمر هذه الحرية، لأنها هي الصحيح، والغلط هي التجاوزات، التي سيمتصها الصحيح، مع الوقت. يعني أن الناس، الذين يعبثون بهذه الحرية، والذين لا يقدرونها حق تقديرها، الذين يلعبون بها، ويستسهلونها، ويقومون بتجاوزات، كل هؤلاء سيزولون مع الوقت، لأن كل هذا زبد، والزبد يذهب جفاء. إذن، الجانب المقاولاتي يتقدم في ميدان الصحافة المغربية، ولا بأس في كونها تتكاثر، لكون القارئ وقانون السوق هما اللذان سيحكمان وسيقرران لمن البقاء، بالإضافة إلى أن ميدان الصحافة يعرف حضورا نسائيا مهما، وهذا أيضا من مؤشرات تقدم المجتمع المغربي. هناك تحسن نسبي في التوزيع، وتحسن نسبي في الأدوات، من مطابع وجودة، وكلها عناصر مهمة، ويبقى جانب المضمون، وعلينا أن نخرج بعض الشيء من قانون، كان عندنا ضمنيا، إذ في العالم كله تقرأ الصحافة كي تفهم ما جرى من أحداث، بينما في المغرب، يجب أن تكون فهمت ما جرى كي تقرأ الصحافة، لأنها تكون كلها ألغاز. مثلا، تقول جريدة بيضاوية أو يقول بعضهم وترد عليه بعض الجرائد بالعديد من الألغاز، يصعب على القارئ فهمها. اليوم، توجه نحو الصحافة الاحترافية، والصحافة الحزبية يجب أن تكون احترافية، رغم أنها حزبية، ولديها اختيارات فكرية وسياسية. يجب أن تكون احترافية بأركان احترافية، من تحقيقات، وربورتاجات، وأخبار، واحترام أخلاقيات المهنة، لأن أخلاقيات المهنة جزء من الاحترافية، فضلا عن احترام حقوق الناس، وكرامتهم الناس، وشرفهم. والصحافة المستقلة يجب أن تكون مبدئية، لأن بعضها يرتكب تجاوزت ضد الأحزاب، فبعض الصحف أصبحت أكثر من الأحزاب، ونصبت نفسها وكيلا عن الرأي العام، ومعبرا عن الرأي العام بمطلقه. يجب أن تضع في ذهنها ثوابت هذا المجتمع، والمصالح الاستراتيجية لهذا المجتمع، وألا تشتغل فقط بمنطق الكسب، ولو على حساب هذه الثوابت ومكتسبات هذا البلد، لأن هذا هو الشغل في الصحافة الغربية، التي تقوم على ثوابت المجتمع، مثلا نظام الجمهورية في فرنسا، وروح الجمهورية، التي فيها التسامح، وفيها الديمقراطية، ومن يمسها تقوم صحيفة ضده، لأن مصالح فرنسا عندها فوق كل اعتبار، وأينما وجد أمر ضد فرنسا، تتصدى له هذه الصحافة، لأن الأمر مهم بالنسبة لهم أن يكون لدى فرنسا مكانة بين الشعوب والأمم. هذا النوع من الاعتزاز، والاشتغال على الثوابت مهم جدا، لأن للصحافة دور كبير تلعبه. أما عندنا، فهناك نقص كبير في التوعية، وفي التعبئة الشعبية، وفي المشاركة الشعبية، والصحافة هي التي يمكنها أن تكون حافزا ومحفزا ومنشطا لهذا الوعي. لكن للأسف، أداء هذا الدور حاليا لا يمكن أن يجري، أمام محدودية توزيع الجرائد، رغم تطورها، ورغم من هامش الحرية، الذي لم تتخطه بعد العديد من الجرائد، التي تولي عناية كبيرة للعمود، الذي تنشره للرد على كل من كتب عنها أو عارضها، على حساب أدوات التأهيل السياسي. الإعلام السمعي البصري يتطور، وهو أساسي، لأنه يشكل قاطرة للتطوير، وهو يتطور بالقناتين الأولى والثانية، لكن من طبيعة التطور التاريخي، أن الحسن يستقطب الأسوأ، ويجر الأسوأ.