لا بد في البداية، أن ننبه إلى أن قِلّة من الفقهاء، هي التي بقيت خارج التوجيه الدجالي. ومن وقعوا تحت التحكم الدجالي، منهم من يعلم خدمته للدجال، ومنهم من لا يعلم. والعالمون منهم قليل؛ لأنهم وحدهم الذين يطّلعون على الخبايا من استراتيجية عملهم. وهذا قد يجعل القارئ يتساءل: أين هو الدجال، حتى تصح خدمة الفقهاء له؟ أليس هذا محض افتراء؟.. ثم: هل يكون الفقهاء (مؤسساتهم) أيضا مخترَقين؟ ومن بقي -بحسب قولكم- مخلصا لأمته منا؟ فعلى ما يبدو، جميعنا صرنا مشكوكا فينا!..
أولا، إن الدجال لم يظهر بعد؛ لكن الرؤساء من "حزب الشيطان"، كانوا يستعدون لاستقباله عند قدومه منذ قرون. فكيف، وهم -ونحن معهم- قد أصبحوا على مقربة من زمانه؟!.. وهذا في مقابل "حزب الله" (لا نقصد الحزب اللبناني) الذي يتطلع إلى ظهور المهدي!.. وعلى الناس (الشعوب)، أن توطن نفسها، مع من هي؟.. وتَوطين النفس على مَبعدة من الحدث، أفضل من أن يكون المرء، تحت وقع المفاجأة.
ولقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاستعاذة من فتنة المسيح الدجال (L'antéchrist ) فقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»[1]. والاستعاذة تقتضي الاستعداد وأخذ الحيطة. وكان أولى بالفقهاء، أن يُكثروا من التحذير منه، لولا ما ذكرنا من وقوعهم تحت توجيه حزبه، الذي لا يَرى ذكرَه من مصلحته.
ثم إن الفقهاء من الجانبين، الشيعي والسني معا، عندما يؤججون الفتن فيما بين الفريقين، هم يُضعفون الأمة عامة؛ وهذا لا يكون إلا في مصلحة الدجاليين، الذين -بحسب ما يزعم بعض قادتهم- يتهيأون لإعلان حكمهم (على العالم كله) خلال بضعة عقود من الآن. هذا، مع وضوح التوجه العام للعالم منذ اليوم، لمن كان ذا عينين!...
وما يهمنا نحن هنا، هو ما يقع الآن، وفقهاؤنا في نومتهم؛ ومع عدم فطنتهم لما هو آت، لا شك هم يعملون -ولو بغير قصد- لغير صالح الدين...
لم نر لفقهائنا عملا يُذكر، في مجال التصدي للعولمة الدجالية. ولم نر لهم شفقة على جموع شعوبهم، التي تُعدّ لتغذية المطاحن الحربية التي بدأت تعمل. إن مطحنة الشعوب، ليست إلا في بداية عملها!.. والفقهاء من الجانبين، السني والشيعي، لا يزالون يعيشون فتنا لم يحضروها (من الماضي)، ولم يتبيّنوا حقائقها زمن وقوعها. فهم بِكون ردود أفعالهم خارج المرحلة الزمانية التي يعيشون، وبجهلهم بما فيه يخوضون، لا يُبينون إلا عن حُمق خاص بطائفة الفقهاء؛ قياسا على الأمراض النفسية المهنية (سبق أن قلنا إن الفقه صار حرفة).
وليت الصراع داخل الأمة كان محصورا بين الشيعة وأهل السنة -لكنّا رجونا أن تتوحد الجهود لتجاوزه- ولكن التمزق لم يسلم منه بلد واحد، تحت مختلِف الرايات. فلو كان الفقهاء يعملون في الاتجاه الصحيح، لكانت البلدان موحدةُ المذهب -كالمغرب- تعيش انسجاما يتناسب مع تجانس شعوبها؛ ولكن هيهات!.. ولا يتذرعْ أحد بالقول -مثلا- إن الجماعة الشيعية الوليدة في المغرب، تحول دون وحدة الشعب!.. كما يريد بعض فقهائنا منذ الآن أن يلفّقوا لهم زورا!.. بل نحن نقول: لو كان فقهاؤنا يعملون بما يُرضي الله، لما تشيّع أحد!.. ولو تشيع، فلن يقبل منه ذلك أحد!.. بل نزيد: نحن نحمّل فقهاءنا أوزار كل من يتنصر من أبنائنا أو يُلحد!.. لأن ما يقدمه الفقهاء من دين، لا يليق بأناس يحترمون عقولهم، ويتنزهون بصفائهم عن النفاق العامّ المَرعيّ. إن أبناءنا المساكين -ونحن نعلم هذا من بعض الأسر- يخرجون من الدين في صمت؛ ولا يجرؤون أن يعلنوا ذلك لأحد. ولو أعلنوا، لقام لهم مجتمعهم بتوجيه من فقهائه، يضطهدهم ويتنكّر لهم!.. وكأن المجتمع مجتمع الصالحين الصادقين الطاهرين!.. أين الفقهاء من محاورة أولئك المتحولين عن دينهم؟!.. وأين علمهم في مواجهة العقائد الدخيلة؟!.. بل أين وزارات الشؤون الدينية من هذا؟!..
ويكلِّمونك عن الأمن!.. أليست معالجة القضايا العقدية في أصولها (ولا نعني العقائد الكلامية) التي تُبقي المسلم على دينه؛ وتُقوّيه في مواجهة الفتنة المتلونة إن كان على دين، من صميم الأمن؟!.. أم يطمعون في بلوغ أمن مع تمزق الشعوب قبائل عقديةً قِددا!.. نريد من القارئ أن يُعيِّن في ذهنه الجهة المسؤولة عن هذه الوضعية؛ وإن كان لا يستطيع أن يصرح بذلك علنا!.. من هنا كنا نقول: إن سلطة الفقهاء، أصبح لها أجهزة قائمة تخدمها...
نحن من باب النصيحة لشعوبنا نقول: لا تتّكلوا على المؤسسات الفقهية، لتحميَكم من تغوّل النظام العالمي، في الجانب الديني؛ إلا أن تتوب منهم طائفة تعود إلى الجادة؛ أو فلتتحمل الشعوب بنفسها، مُؤنة حماية دينها. ولعل هذا سبب من أسباب هجرة ثلة من أبنائنا إلى داعش!.. يظن المساكين -ووِزْر هذا على الفقهاء- أنهم يهاجرون إلى الخلافة على منهاج النبوة، التي لا يعرفون معالمها!.. بل نحن لا نشك، في كون شطر من الفقهاء -على الأقل- على مذهب داعش باطنيا؛ لذلك هم يوحون -عن بُعد لجُبْنهم- للشباب بما يُقدمون عليه. وينتظرون أن تفتح داعش بلدانهم تِباعا بعد ذلك، ليبايعوها جهرة وقتذاك!..
مؤسساتنا الفقهية الرسمية وغير الرسمية، لا شائبة تشوب علاقتها بالقوى العالمية؛ وهي إن أحبّت أن تُظهر نخوتها، فإنما تفعل ذلك ضد بلدانها خفية؛ لتحض على إسقاط الحاكم القائم، وتأتي بأتباعها (مَن هم على مذهبها). ولو كان الفقهاء يُحسون بالانتماء إلى الأمة عامة، لاستوى عندهم من حيث المبدأ هذا وذاك من أبناء الأمة؛ مع الحفاظ على أصل التناصح ماضيا فيها. ونجاة الجميع في النهاية، ستزيد من فرحهم بما يُنجزون وبما يتحقق من نصر. ولكننا على العكس من ذلك، نجد من الفقهاء لمخالفيهم من المسلمين مذهبيا، عداوة لا نراها للكافرين!.. نقول هذا، ونحن لا نعلن عداوة أحد من الناس؛ وندعو إلى مسالمة كل مسالم، وإلى التعاون على ما فيه الخير العام للبشرية جمعاء... إن مواقف فقهائنا، حقا تبعث على الاستغراب!..
إن ما تعيشه شعوبنا من فُرقة، ومن اضطراب -لا زال يموج- يفترض أن يجعل أهل الدين لا يهدأ لهم بال، حتى يُخمدوا شرره. والواقع أننا نرى المؤسسات الفقهية في مواجهة ذلك، تسير بالسرعة البطيئة؛ وكأن الأمور على ما يُرام. اعتدنا في يومياتنا أن نرى محاسبةً للحكومات وللبرلمانات.. ولا أحد يتكلم عن الفقهاء؛ وكأنهم غير معنيّين!.. هذا يجعلنا نتساءل عن هذه العلمانية غير المُعلنة من الشعوب؛ وأين ستقودنا في مستقبل الأيام؟..
على الفقهاء -إن كانوا ناصحين لأنفسهم- أن يستعدّوا من الآن لمَقْدم المهدي، الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أم تُراهم سيرفضونه، لأنه متبوع إخواننا الشيعة؟!.. وفي هذه الحال، أين يكون الاتِّباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يتشدقون به صباح مساء؟!..
لم يُخبرنا الله ورسوله بشيء، إلا وهو يستدعي منا عملا ما؛ فإما اجتناب، وإما مناصرة؛ وإما فرار وإما إقبال؛ وإما اعتناء وإما إهمال. ليست "الأخبار" قصص ما قبلَ النوم، التي تُحكى للأطفال!.. ولا هي السيَر التي تجتمع عليها العامة في الموالد والساحات الشعبية؛ إنها جِدّ ما بعده جد!..
ولا بد أن ننبه هنا، إلى أن إخواننا من النصارى يَحذَرون مِن مِثل ما نَحذَر. وعلى الفقهاء أن يحققوا التواصل معهم في هذه الأمور، لنتجنب جميعا، ما سنندم عليه إن لم نبادر بالعمل له.
إن الفرق بين الأقوياء والضعفاء، ليس دائما هو القوة المادية المعلومة؛ ولكنه بالدرجة الأولى، الفرق بين من يعي المرحلة التي هو فيها، وذلك الغائب عنها. ولسنا نرى غالبية أمتنا، إلا من الصنف الأخير. وإن الأحداث التي يعيشها العالم اليوم، مع كثرتها، واشتداد العنف فيها، تُخفي تحتها، ما هو أشدّ منها بكثير!...
ما كان الدين يوما منوّما أو مخدّرا، يُغيّب الناس عن الواقع؛ ولكنه بعكس ذلك صدقا، يفتح أعين الناس على الحقيقة، ويُعلّمهم كيف يعبرون الموج إلى البر الآخر. أم إن فقهاءنا بتصرفاتهم، يريدون أن تصدق على الدين المقولة الشائعة التي ينسبونها زورا إلى كارل ماركس (هي محرفة من جملة له) "الدين أفيون الشعوب"؟!.. __________________________ [1] . متفق عليه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
يُنشر هذا المقال (من سلسلة سلطة الفقهاء وأثرها على الشعوب) بعد مرور 565 يوم، من الاعتصام المفتوح للشيخ وأسرته؛ بسبب اضطهاد الحكومة وأجهزتها الذي ما زال مستمرا إلى الآن.