بعد كل فجر تأخذني رجلايَ في جولة تشبه رياضة المشي التي بدأ سوقُها ينفق في فجيج، لا رفيقَ لي إلا سبحتي.. استوقفني أحد الإخوان على بساط مسفْلتٍ صامتٍ، قال لي: هنيئا لك الحسنيان ! قلت له: ماذا تقصد بالحسنييْن، قال: الرياضة البدنية والرياضة الروحية.. قلتُ له: إنْ حسبتها أنت هكذا فإن حسابي يختلف، قال: كيف، والمسألة واضحةٌ كالشمس: أَليس المشي رياضة بدنية؟ أَليس التسبيح والذكر رياضة روحية؟ قلتُ له أنا أعتبرهما معاً عبادةً، لأنني أتعامل معهما بنيّة العبادة لا بنية الرياضة. قال لي صاحبي: وضحْ أكثر.. قلتُ له: المسألة واضحة كالشمس على حدّ تعبيرك آنفاً. ألا تعلم أن الفاصلَ بين العادة والعبادة هو النيّة.. أنا في الحقيقة لم أخرج بنية واحدةٍ بل بنيّاتٍ متعددة: بنيّة الذكر والتسبيح، وبنية التفكر في خلق الله، وبنية إماطة الأذى إن صادفته في الطريق، وبنية السلام على أخٍ مسلم ألقاه، وبنية المحافظة على صحتي حتى أكون قويا لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف... ألم يقل لنا رسولنا العظيم إنما الأعمال بالنيات.. ألم يقل معاذ بن جبل لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، حينما سأله: كيف تقرأ القرآن: "أنام من الليل فآخذ حظي من النوم، ثم أقوم بالقرآن فأصلي به ما شاء الله أن أصلي، فأحتسب نوْمتي كما أحتسب قوْمتي" يعني أنه ينام بنيّة أن يتقوّى بنومه على قيام جزء من الليل وقراءة القرآن.. فصار نومه عبادة كقيامه تماماً، أيْ أنه في الحالتيْن كان في طاعةٍ وعبادة، فانظرْ كيف حوّلت النيّة نومه إلى عبادة.. يا سيدي: كم مرّة تتسوق لعيالك في اليوم؟ هل تفعل ذلك بنية الإنفاق على أهلك لوجه الله؟ وتنفيذ أوامر الله في تربيبهم؟ أو أنك تفعله عادة وكفى؟ ألم يقل الرسول الكريم لسعد بن أبي وقاص: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك".. هل تلبس جلباب الجمعة وبياضه لأنها جمعة فقط أو تأسياً بالسنة؟ وهل لبست يوماً ثوباً نظيفاً بنية ستر العورة والإجزاءِ في الصلاة؟ وهل اشتريت سيارة بنية الحديث بنعمة الله عليك ومساعدة أهل الحاجة إليها أو للمباهاة والفخفخة والتنغيص عليهم؟... انظر يا أخي كم من حسنة نُفَوِّتُها على أنفسنا لمجرد إهمال النية مع أنها الضابط الأساسي لكل عبادة، إن كل عمل نافعٍ لك ولأهلك وأمتك في حاجة إلى نية ليتحول برمّته إلى طاعة وعبادة تؤجر بها أجوراً مضاعفة.. ولهذا قال العلماء: "عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات" حكمة عظيمة أدعو كل أخٍ مؤمن أن يتدبرها ويتأملها، ويعمل بها من الآن.. لأننا بالفعل نمارس كثيراً من عباداتنا بلا نيّة.. ولنضربْ مثلاً برمضان الذي هو قريب منا: عددٌ لا يحصى من الناسِ يقولون لك إذْ تلتقون: أنا ذاهب لصلاة التراويح، فمثل هذا إذا كبّر لصلاة العشاء وهي فرض بهذه النية، فهل ترى له صلاةً إلا صلاة التراويح وهي سنة؟ وهل كلنا يستحضر نية صيام رمضان قبل فجر اليوم الأول بقليل أو كثير: هذه هي الغفلة التي حذّر منها العلماء.. أما أهل اليقظة فَبِيقظتهم يحولون كل عمل نافع إلى عبادة: يأخذون حماماً فينوون به التطهر والنظافة امتثالاً لأمر الله.. أما أهل الغفلة فيأخذونها للتبرد أو استبدال الملابس أو... أهل اليقظة ينامون مع زوجاتهم بنية التعفف والذرية الصالحة، وغيرهم بنية التلذذ والاستمتاع.. أهل اليقظة يشترون خبز الصباح بنية إعالة الأهل والتقوي به على العمل الصالح وغيرهم يشتري الخبز على العادة وكفى. وهكذا... والفرق بينهما كبير جدّاً إنه الفرق بين المفلح والمفلس... فاستحضروا النيّة في كل عمل صالح نافع.. اللهم بلغنا رمضان واجعلنا من الذين يصومونه إيماناً واحتساباً... آمين .. والحمد لله رب العالمين. وإلى صدى فجريٍّ جديدٍ إن شاء الله...